يُعتبر مسجد قرطبة أعظم الآثار الإسلامية في الأندلس وأروع أمثلة العمارة الموريسكيّة، وقد حظيَ بعنايةٍ خاصة من المؤرخين، نظراً لأهميته الكبرى في التاريخ الإسلامي بالأندلس.
والموريسكيّون، أو الموريسكوس، في مملكة قشتالة هم المسلمون الذين بقوا في الأندلس تحت الحُكم المسيحي بعد سقوطها بيد المسيحيّين، وأُجبروا على اعتناق المسيحية.
استغرق بناء مسجد قرطبة قرنين من الزمان، وهو أكبر مساجد أوروبا وثاني أكبر مساجد العالم في القرن الثالث عشر؛ ولسنا نبالغ لو قلنا إنه تحفة معمارية تُبهر الناظر إليها حتى يومنا هذا.
في العام 784، أعطى أمير قرطبة، عبد الرحمن الأول، الأمر ببنائه ثم وُسّع في عهد خلفائه على الإمارة، وصولاً إلى آخر التعديلات التي أُضيفت إليه عام 987 على يد المنصور بن أبي عامر.
تحوّل المسجد إلى كاتدرائية كاثوليكية، مباشرةً بعد سقوط قرطبة على يد فرديناند الثالث، قائد مملكة قشتالة في يونيو/حزيران 1236، وأصبح اسمها كاتدرائية انتقال العذراء.
تقع كاتدرائية مسجد قرطبة اليوم عند سفح سييرا مورينا في جنوب إسبانيا؛ وهو مُدرَج ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، كما تصدّر قائمة كنوز إسبانيا الـ12 عام 2007.
يمتاز المسجد بتصميمه الفريد، بحيث بُنيَ على طراز المسجد الأموي في دمشق، ويتألف من حرمٍ عرضه 73 متراً ونصف، وعمقه 36.8 متر؛ كما أنه مُقسّمٌ إلى 11 رواقاً، بواسطة 10 صفوفٍ من الأقواس.
من معبد إلى كنيسة.. ثم مسجد قرطبة
تقول الأسطورة إنه عندما أسّس الرومان قرطبة في القرن الثاني قبل الميلاد، بنوا فيها معبداً مخصّصاً ليانوس، إله البدايات الجديدة ذي الوجهين. وبعد حوالي 800 عام، ووفقاً لموقع National Geographic، سيطر القوط الغربيون على جزءٍ كبير من شبه الجزيرة الأيبيرية، وفي عام 572 استولى ملك القوط الغربيين ليوفيجيليدو على قرطبة، وتم تحويل المعبد إلى كنيسة للقديس فنسنت.
بعد نحو قرنين، توغلت الإمبراطورية الأموية في شبه الجزيرة الأيبيرية حوالي عام 711، وسرعان ما سيطرت القوات الإسلامية على معظم شبه الجزيرة وأطلقت عليها اسم الأندلس. تم إنشاء عاصمة إقليمية في قرطبة، بينما بقيت عاصمة الخلافة في دمشق.
بعد بضعة عقود، حوالي عام 750، سقطت الدولة الأموية في دمشق وانتقل الحُكم إلى العباسيّين. خوفاً على حياته، فرّ عبد الرحمن الأول إلى الأندلس حيث أسّس الدولة الأموية فيها بعد رحلةٍ طويلةٍ استمرّت 6 سنوات. فأقام عاصمته الجديدة في قرطبة، التي تحوّلت إلى إمارة إسلامية يحكمها عبد الرحمن الأول. كانت بداية فترة نمو ومجد للمدينة.
بمجرّد أن فرض سيطرته الكاملة على المدينة، أمرَ عبد الرحمن الأول بهدم كنيسة القوط الغربيين. تختلف المصادر حول تحديد العام الذي بُنيَ فيه المسجد، لكن الهامش لا يتّسع كثيراً، بين عام 784 و786.
بين هاتين السنتين، بدأ بناء مسجد قرطبة. لم يوقف موت عبد الرحمن الأول عام 788 العمل في المسجد الكبير، الذي لم يكن قد اكتمل بعد، فاستمر ابنه هشام ثم خلفاؤه في العمل عليه على مدى قرنين.
من مسجدٍ إلى كاتدرائية مسجّلة باسم الكنيسة
في أوائل القرن الـ11، أضعفت الحرب الأهلية سيطرة الأمويين على الأندلس، مما سمح لاحقًا لملك قشتالة فرديناند الثالث وقواته بالسيطرة على المدينة؛ فكان سقوط قرطبة في 29 يونيو/حزيران عام 1236.
حينها، دخل القشتاليون المدينة وتوجّه فرديناند الثالث إلى المسجد الكبير، حيث استقبله الأساقفة وأقاموا قداس شكرٍ له بورك فيه الملك، ورفعوا الصليب على قمة الجامع الكبير وحوّلوه إلى كاتدرائية للسيدة العذراء، ولا زال حتّى يومنا هذا كنيسة.
شكلت الكاتدرائية نموذجاً لتداخل فنّ العمارة الإسلامية والمسيحية، وتُعتبر واحدة من المعالم الأثرية الأشهر للعمارة الإسلامية في إسبانيا.
مُنع المُسلمون من دخول الكاتدرائية منذ عام 1236 وحتى 1981، حين أعطى عمدة قرطبة خوليو أنغويتا -الملقّب بـ"الخليفة الأحمر"- مفاتيح المسجد إلى الجمعية الإسلامية، وسمح للمُسلمين برفع الآذان وأداء صلاة العيد للمرة الأولى، تنفيذاً لقانون الحريات الدينية الذي أقرّه البرلمان الإسباني عام 1979.
انتقدت الكنيسة والصحافة الإسبانية خطوة "الخليفة الأحمر"؛ وهو الأمر الذي أدى إلى إلغاء القرار، مع تشديد أنغويتا على أن هذا الموقع يُعدّ من الموروثات التاريخية العالمية. وانخرط أنغويتا في مواجهةٍ مع أساقفة المدينة، ليتبيّن بعد وفاته في مايو/أيار 2020 أنه اعتنق الإسلام سراً، وكان يحاول حماية حقوق الأقليات في قرطبة والتصدي لمحاولات طمس هويات الموروثات الدينية بالمدينة.
عام 1984 دخلت الكاتدرائية-الجامع قائمة اليونسكو للتراث العالمي، لكن ملكيتها تحوّلت -وبعد جهودٍ مُضنية- من الحكومة الإسبانية إلى الكنيسة الكاثوليكية عام 2006، بعدما دفع أسقف قرطبة خوان خوسيه أسينجو مبلغاً لا يتعدّى الـ30 يورو فقط.
سجّل الأسقف الكاتدرائية باسم الكنيسة، لتصبح ملكيةً عائدة للكنيسة الكاثوليكية، كما أزالت الكاتدرائية اسم المسجد من المواقع الإلكترونية والنشرات والدليل السياحي. الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً، نظراً للأهمية التاريخية التي يتمتّع بها هذا الموقع التاريخي الذي صنفته "اليونسكو" عام 2014 كإرث "ذي قيمة عالمية استثنائية"، واستقبل في عام 2019 أكثر من مليوني زائر، وحقّق ما يقارب 15 مليون يورو من الأرباح.
ملكية الكنيسة لكاتدرائية مسجد قرطبة باطلة
لاحقاً في سبتمبر/أيلول 2016، وفي تقريرٍ صادرٍ عن ملكية الكاتدرائية، أكدت لجنة تابعة لبلدية مدينة قرطبة الإسبانية أنها "لم تكن يوماً ملكاً للكنيسة الكاثوليكية"، مشدّدةً على أنها تُعتبر أحد أبرز المعالم الإسلامية في الأندلس.
وبعد عدة ضغوط ومطالبات وتحركات من المسلمين الإسبان وغيرهم من الداعمين لحقهم التاريخي في المسجد، وافقت السلطات الإسبانية -على مضض- على إعادة تسمية هذا المبنى باسم "مجمع المسجد والكاتدرائية والنصب"، لتعود إليه هويته الإسلامية جنباً إلى جنب مع المسيحية.
وفي العام 2021، نشر الباحث التاريخي المتخصّص في العصور الوسطى، خيسوس باديبا، بحثاً مطوّلاً تجاوز 500 صفحة، بعنوان "مُلكيّة مسجد-كاتدرائية قرطبة"، كشف من خلاله أن الملكيّة التي تدّعيها الكنيسة مبنية على أخطاء وغفلات مختلفة، لا سيما تلك الموجودة في المخطوطات القديمة.
وكمثالٍ على ذلك، يستشهد بنصوصٍ مختلفة، "غيّرت فيها أخطاء النسخ أو الحذف أو التفسيرات معنى النص الأصلي لصالح أطروحة الكنيسة"، مستنداً في الوقت نفسه على وثائق تذكر المسجد على مدى 600 عام.
يغوص باديبا في التشريعات المسيحية للعصور الوسطى، إضافة إلى السجلات الملكية التي تشير إلى المسجد، ويصل إلى نتيجة مفادها أن الكنيسة ليست لها سيادة على "المسجد – الكاتدرائية"؛ لأن فرديناند الثالث كان منح المسجد لرجال الدين حتى يكونوا "حرّاسه وخدمه"، ولكنه لم يمنحهم إيّاه كملكيّة خاصة.
ويستند الباحث في نتيجته على دلائل ووثائق تاريخية أهمّها التقرير الصادر عن القساوسة الملكيّين في القرن السابع عشر، والذي جاء فيه أن "فرديناند الثالث منح المسجد المذكور للأساقفة والمجمع الكنسي من أجل عبادة الرب والاحتفال بالمراسم المقدّسة فحسب، بطريقة ليس من شأنها الإضرار بالسلطة الملكية العليا".
غير أن خوسيه باديبا لا يتوقّف عند هذا الحد، بل يُثبت أيضاً عدم دقّة الوثائق والتقارير التي استندت إليها الكنيسة في طلب تسجيل ملكيتها للمسجد، ويحلّل المرسوم الملكي لفيليب الرابع الصادر عام 1659، والذي يذكر فيه أسقف قرطبة "باعتباره المالك الشرعي للصرح المذكور"، على الرغم من أنّ القانون الكنسي لا يعتبر الأساقفة مالكين، بل مديرين ومدبّرين له.