استوردت المافيا الصقلية ووزعت ما قيمته 1.65 مليار دولار من الهيروين بين الولايات الشمالية الشرقية والغربية الوسطى الأمريكية، خلال الفترة الممتدة من العام 1979 إلى العام 1984.
استغلت المافيا الصقلية مطاعم البيتزا من أجل توزيع المخدرات، وقد اشتهرت هذه العملية باسم "رابط البيتزا".
امتدت عمليات "رابط البيتزا" إلى جميع أنحاء العالم؛ ومن خلالها أصبحت المافيا الصقلية على اتصالٍ- طيلة سنوات- بمنتجي الهيروين في جنوب شرق آسيا من جهة، ومحلات البيتزا التي تديرها العصابات في الولايات المتحدة من جهةٍ أخرى.
لكن مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) تمكن من اختراق المافيا، وكشف تفاصيل عمليات "رابط البيتزا". وفي النهاية، شمل التحقيق عملاء من أوروبا وأمريكا الوسطى كانت لهم أدوار رئيسية في توزيع الهيروين داخل الولايات المتحدة.
وصارت محاكمة "رابط البيتزا"، التي استمرّت 17 شهراً صادمة، أطول محاكمة في التاريخ الأمريكي، وشهدت تحول العديد من رجال العصابات في المافيا الصقلية إلى مُخبرين، كما أسفرت عن 18 إدانة.
كيف بدأت المافيا الصقلية عمليات رابط البيتزا
ترجع أصول عمليات "رابط البيتزا" إلى المؤامرة المحيطة بمقتل كارمين غالانت، وهو رجل عصابات أمريكي، بعد إطلاق سراحه من السجن عام 1974، حيث أمضى 12 عاماً بتهمة الترويج للمخدرات.
بعد السجن، أعلن غالانت نفسه رئيساً لعائلة بونانو التي كانت تملك شبكة هيروين واسعة في نيويورك، تُقدّر بملايين الدولارات. وقبل دخوله السجن، كان غالانت قد جنّد أفراد المافيا الصقلية لمساعدة العائلة في إدارة شبكة الهيروين.
بحلول أواخر السبعينيات، سعى غالانت للسيطرة الكاملة على تجارة الهيروين، ومن أجل ذلك فعل المستحيل، وكاد أن يصبح ملك المافيا الصقلية الجديد وفقاً لصحيفة New York Times. لكن لجنة المافيا في نيويورك كانت رأت منه ما يكفي، واعتبرته خارج نطاق السيطرة تماماً.
وفي 12 يوليو/تموز 1979، وبينما كان غالانت يُنهي غداءه في الشرفة الخلفية لمطعم "جو وماري" في نيكربوكر، اقتحم 3 مقنّعين الحديقة الخلفية وأطلقوا النار عليه حتى أردوه قتيلاً؛ مع الإشارة إلى أن حرّاسه الشخصيين كانوا قد غادروا منطقة الفناء قبل ذلك بقليل.
وأظهرت تسجيلات المراقبة لما بعد الواقعة بنصف ساعة تقريباً جندياً من عائلة بونانو، يُدعى أنتوني (برونو) إنديليكاتو، وهو يتلقى التهاني من مساعد زعيم مافيا غامبينو الأمريكية-الإيطالية. وقد كان ذلك دليلاً كافياً لمكتب التحقيقات الفيدرالي لإثبات تورط اللجنة في مقتل غالانت.
صعود المافيا الصقلية في نيويورك
ارتكب غالانت خطأً جسيماً بإساءة تقدير ولاء المقرّبين منه، ويُطلق عليهم اسم "الريبس". فقد حافظوا على إخلاصهم للمافيا الصقلية وخط تهريب الهيروين الدولي. وكان الزيبس أكثر من مجرد فرعٍ من عائلة بونانو الصقلية، لا بل كانوا هم المافيا الصقلية النشطة في نيويورك؛ بمعنى آخر، كانوا عائلة داخل عائلة، تتميز بالسرية والروابط العشائرية.
بدأت قضية "رابط البيتزا" في معقل عائلة بونانو في شارع نيكربوكر. كانت منطقة بوشويك في تلك الفترة مليئة بواجهات المحلات المغطاة، والمباني المهجورة، والأراضي الفارغة. فحكمت عائلة بونانو البنايات النائية.
لاحظ مكتب التحقيقات الفيدرالي الجيب الصقلي؛ حيث استمرت ألعاب القمار عالية الرهانات في مؤخرة المقاهي حتى الساعات الأولى من الصباح. وبالنسبة لعملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي، فقد كان من الغريب رؤية رجال المافيا يرتدون قبعات فيدورا وأردية، إذ بدوا غريبين عن نيويورك في الثمانينيات. وكانوا أشبه برجال من المقاطعات من عصر آخر، يتجولون في أحد قصور باليرمو، أكثر مما بدوا منتمين لشوارع بروكلين.
في تلك الفترة، تمكن أحد عملاء الـFBI من التسلل إلى داخل عائلة بونانو، تحت الاسم المستعار دوني براسكو. وقد بدأ يتناهى إلى مسامعه مصطلح "الزيبس"، في أحاديث عابرة مختلفة.
في تلك الفترة، صار سالفاتور كاتالانو (توتو) المستفيد الأول من مقتل غالانت، وتزعم شارع الزيبس. ونظراً لأنه رجل مافيا ماكر، فقد غادر نيويورك بطريقةٍ مفاجئة إلى صقلية في اليوم التالي لمقتل غالانت، ولم يعد إلا بعد هدوء الوضع.
وما أشار إلى مكانته الرفيعة المُكتسبة حديثاً، أنه دُعي إلى حفلات زفاف شخصيات مافيا نيويورك رفيعة المستوى.
تحرك الصقليون عبر منطقة كوينز لتوسيع نطاق "رابط البيتزا"، وافتتح كاتالانو مخبزاً في حي "ميدل فيلدج".
تولى المكتب الميداني لمكتب التحقيقات الفيدرالي في نيويورك زمام المبادرة ودمج المعلومات الاستخباراتية المكتسبة من المحقق السري "دوني براسكو". وتوسع هدفهم في إثبات اتهامات فيدرالية ضد الصقليين، فقد أرادوا إثبات اشتراكهم أيضاً في مؤامرة دولية لتوزيع المخدرات وغسل الأموال.
ومنذ عام 1980، تحول التحقيق إلى رحلة مدتها 4 سنوات، وفقاً لمقال نشره عام 2016 عميلا مكتب التحقيقات الفيدرالي المتقاعدان تشارلز روني ولويس شيليرو في The Grapevine.
عَمِلَت "رابط البيتزا" على النحو التالي: تحول المافيا الصقلية معجون المورفين إلى الهيروين، من الموردين الأتراك، في مختبراتهم في باليرمو. ثم تُهرِّب الهيروين إلى الولايات المتحدة داخل علب طماطم سان مارزانو، التي تُشحّن إلى محلات البيتزا في البلدات الريفية عبر الغرب الأوسط.
واعتمد التحقيق على تعاون عدة جهات وأساليب مراقبة مختلفة. وأقيمت المراقبة المادية على مخبز كاتالانو، وقاعدة عملياته. واستخدم الصقليون لغة مشفرة للتحدث عن الهيروين، والهواتف العمومية باستمرار، لدرجة أن سلطات إنفاذ القانون زرعت فيها أجهزة تنصت.
واستُخدِمَت أيضاً سجلات القلم، وهي أجهزة إلكترونية تسجل جميع الأرقام التي اتصل بها خط هاتف معين. وجُمِعَت النتائج اليومية، وخضعت للتحليل والربط بأعضاء آخرين في المؤسسة.
وأشارت الأدلة المُجمّعة والعمل الاستخباري الناتج من وكالة مكافحة المخدرات وإدارة شرطة نيويورك، التي تضمنت اتصالات مكتوبة من جيوب المعتقلين، إلى تورط طاقم كاتالانو في بعض أكبر عمليات ضبط الهيروين في العالم.
النطاق الدولي لعملية "رابط البيتزا"
من محلات البيتزا، كانت تُرسل المخدرات والنقود إلى نيويورك في سيارات وحافلات. المخدرات توزّع في الداخل، والنقود تُشحن إلى الخارج. وعلى مدار 8 سنوات، هُرّب أو نُقِلَ نحو 60 مليون دولار، من نيويورك إلى سويسرا وإيطاليا وتركيا.
وشهدت عملية "رابط البيتزا" إرسال الأموال من الولايات المتحدة عن طريق التحويلات النقدية والتحويلات البرقية، وأيضاً من خلال حسابات الوساطة إلى جبهات الأعمال التي تديرها المافيا الصقلية في الخارج.
وأُجرِيَت العديد من التحويلات عبر الخطوط الجوية الدولية السويسرية في حقائب نقدية تُترَك مع مدير محطة في شركة الطيران.
وأرشدت عمليات التنصت على الهواتف العامة في كوينز المحققين إلى غايتانو بادالمينتي في البرازيل. ومن منفاه، أشرف الزعيم الصقلي على عملية "رابط البيتزا"، بما في ذلك شحنات الكوكايين، بينما كان كاتالانو رئيس العمليات الأمريكية. وتتبع العملاء الفنيون المكالمات إلى بنك للهواتف العمومية في مكتب بريد في ريو دي جانيرو.
وفي 8 أبريل/نيسان 1984، اعتقلت السلطات الإسبانية كلاً من بادالامينتي وابن أخيه ألفانو، وسلّمتهما إلى الولايات المتحدة.
وفي 9 أبريل/نيسان، أجرى عملاء من أربع وكالات أمريكية وسبع دول سلسلة من الاعتقالات المنسقة، شملت عمليات تفتيش المساكن والشركات.
وبدأت محاكمة عملية "رابط البيتزا" لـ22 متهماً في 30 سبتمبر/أيلول 1985. كان الحجم الهائل للأدلة غير عادي؛ إذ قُدّمت أدلة من 55000 عملية تنصت، مع شهادات مدعومة بالمراقبة من العديد من وكلاء المراقبة الأمريكيين والضباط الإيطاليين والإسبان.
ووفقاً لصحيفة Los Angeles Times، كانت هناك أدلة من بصمات أصابع خفية أُخِذَت من مخدرات مُتدَاوَلة صادرتها إدارة مكافحة المخدرات. واستدعت الحكومة ما مجموعه 300 شاهد.
واستمرت المحاكمة 17 شهراً حتى 2 مارس/آذار 1987، وهي أطول محاكمة في تاريخ الولايات المتحدة، وقد أسفرت عن 18 إدانة؛ مما أدى إلى إنهاء خط اتجار بالهيروين دولي بقيمة 1.65 مليار دولار. وحُكِم على زعيمي المؤامرة، بادالمينتي وكاتالانو، بالسجن 45 عاماً.