اشتهرت باريس بكونها "عاصمة الجن والملائكة"، التي تشتهر بالموضة والحياة المترفة، لكن هذه المدينة الراقية كانت قد عاشت فترات عصيبة في تاريخها، خلال الحرب البروسية- الفرنسية في القرن الـ19م، أجبر سكان باريس على أكل القطط والكلاب والفئران ومختلف الحيوانات لكي يبقوا على قيد الحياة.
الحرب البروسية الفرنسية.. حين تنافست بروسيا وفرنسا على زعامة أوروبا
في سنة 1866، انتصرت مملكة بروسيا في حرب "الأسابيع السبعة" ضد النمسا، وبذلك أعلنت بروسيا عن نفسها، القوة الأولى في الممالك الألمانية، وبدأت تشكل تهديداً لفرنسا التي كانت تسعى إلى الهيمنة على أوروبا، وهو ما أدى بالبلدين الأوروبيين إلى التصادم.
كان السبب المباشر لقيام الحرب البروسية – الفرنسية سنة 1870، ترشيح المستشار البروسي أوتو فون بسمارك، للأمير ليوبولد ملكاً على إسبانيا، وذلك بعد خلع الملكة إيزابيلا الثانية سنة 1868 من عرشها كملكة على إسبانيا.
أزعج هذا الترشيح فرنسا بشدة، فقد شعرت باريس بالتهديد من تشكّل تحالف، بين مملكتي بروسيا وإسبانيا يكون موجهاً ضدها، في حال جلس ليوبولد على عرش المملكة الإسبانية، فأعلن الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث رفضه لهذا الترشيح، وأعلن كذلك الحرب على بروسيا في 19 يوليو/تموز 1870.
حسب الموسوعة البريطانية، كان قرار نابليون بالحرب على بروسيا مستمداً من نصائح مستشاريه العسكريين، الذين أخبروه أن الجيش الفرنسي يمكن أن يهزم بروسيا، وأن مثل هذا الانتصار سيعيد شعبيته المتدهورة في فرنسا.
من جهته، رأى بسمارك أنّ الحرب ضد فرنسا تشكّل فرصة ذهبية لتوحيد ولايات جنوب ألمانيا مع البروسيين.
حشدت بروسيا 380 ألف جندي لاكتساح فرنسا، وكان ولي العهد فريديريك الذي سيصير الإمبراطور المستقبلي لبروسيا تحت اسم فريدريك الثالث، قائداً للجيش البروسي رفقة المستشار أوتو فون بسمارك، أمّا الجيش الفرنسي فكان تحت قيادة الإمبراطور نابليون الثالث برفقة المارشال باتريس ماك ماهون.
وفي مطلع أغسطس/آب عام 1870م، بدأت الحرب البروسية الفرنسية بشكلٍ فعليٍ، عندما أغارت القوات البروسية على إقليم الألزاس، حيث وقعت "معركة الورث"، والتي تكبّد فيها الجيش الفرنسي هزيمةً ثقيلة.
استمر الجيش البروسي بعدها في التقدم في وجهته نحو باريس، وفي الطريق إلى هناك، سحقت قوات بسمارك جيش نابليون الثالث في معركة سيدان التي وقعت في 31 أغسطس/آب، والتي سقط فيها كلٌ من نابليون الثالث وقائده باتريس ماك ماهون في أسر البروسيين.
بعدها أصبح طريق الجيش البروسي نحو باريس مفتوحاً. وفي 15 سبتمبر/أيلول 1870، وصلت الجيوش البروسية إلى العاصمة الفرنسية.
حصار باريس..الفرنسيون يأكلون كل شيء من أجل البقاء
في البداية، اقترح بسمارك قصف باريس، لضمان استسلام المدينة سريعاً، لكن ملك بروسيا الذي التحق بجيشه لقيادته في معركة دخول باريس، رفض ذلك خوفاً على سمعته، مفضلاً إطباق الحصار على المدينة الفرنسية.
وبالفعل، بدأ الحصار البروسي على العاصمة الفرنسية باريس في 19 من سبتمبر/أيلول. واستمر لأكثر من أربعة أشهر.
حاول الفرنسيون الصمود أمام الحصار الخانق المفروض من طرف الجيش البروسي، والذي تسبب في أزمة غذائية كبيرة أجبرت الفرنسيين على أكل صنوف متعددة من الحيوانات، مثل الكلاب والقطط والفئران والضفادع.
هذه الأخيرة، تحولت إلى الأكلة المفضلة للباريسيين، إذ صار طبق أرجل الضفادع واحدة من أكثر الأطباق شهرةً حتى الآن.
ولم تسلم حتى حديقة الحيوانات المتواجدة في باريس، فقد أكل الفرنسيون معظم تلك الحيوانات بما فيها الفيلان كاستور وبولوكس آخر من تمت التضحية بها، حتى إنه بعد مرور ثلاثة أشهر من الحصار، لم يتبق في باريس كلب.
في هذه الأثناء، قامت الحكومة الفرنسية بعدد من المحاولات لفك الحصار، فكانت هناك محاولة بين 30 نوفمبر/تشرين الثاني و2 ديسمبر/كانون الأول حدث فيها اختراق كبير، ولكنها فشلت في النهاية.
ضاعف برد الشتاء القارس من محنة الفرنسيين مع الحصار، وهو ما دفع الفرنسيين إلى قطع الأشجار في الشانزليزيه وفي الحدائق وحرقها من أجل توفير الوقود.
كما نتج عن الحصار ارتفاع كبيرٌ في الأسعار، إذ بلغ سعر القط 20 فرنكاً، والغراب 5 فرنكات، والكلب 4 فرنكات، أمّا الفأر فكان سعره 3 فرنكات، وهي ضعف راتب العمال الفرنسيين الذين كانوا يتقاضون 1.5 فرنك في اليوم، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة le figaro الفرنسية.
وجد الفرنسيون في استعمال البريد الجوي الوسيلة الوحيدة للتواصل مع العالم الخارجي، فاستعمل الباريسيون البالونات والمناطيد للتواصل مع المدن الفرنسية الأخرى.
باريس تستسلم للقصف البروسي
في 5 يناير/كانون الثاني 1871، شرعت القوات البروسية في قصف باريس طيلة 23 يوماً، أدى القصف إلى مقتل 400 فرنسي، وهو رقم أقل بكثير من عدد الفرنسيين الذين ماتوا جوعاً بسبب الحصار، إذ بلغ عددهم 40 ألف ضحية.
أدى الحصار الخانق والقصف المستمر إلى استسلام المدينة، وذلك في 28 يناير/كانون الثاني 1871 بعد أن تعرّضت لدمار كبير لم تتعرض له سابقاً.
في 17 فبراير/شباط 1871، أقام الجيش البروسي استعراضاً عسكرياً في باريس للاحتفال بانتصاره، وقام بسمارك بإرسال قطار يحمل المواد الغذائية إلى باريس لتتعافى من آثار الحصار، قبل أن تنسحب القوات البروسية من فرنسا، بعد دفع الفرنسيين مبلغ 200 مليون فرنك تعويضاً عن الحرب.
وبعد نهاية الحرب، نجح بيسمارك في توحيد الممالك الألمانية تحت مسمى الإمبراطورية الألمانية، كما قام بتأمين إقليم الألزاس واللورين جزءاً من هذه الإمبراطورية.
أمّا في فرنسا، فأعقبت تلك الهزيمة انتفاضة شعبية كبيرة من الفرنسيين الغاضبين من توقيع معاهدة الاستسلام، كما تمّ تأسيس "كومونة باريس" في مارس/آذار 1871، وهي حكومة ثورية تم تشكيلها من قِبَل ثوار باريس، قبل أن يتمّ تم قمعها بشكل دموي في مايو/أيّار 1871، من قبل القوات الفرنسية تحت إمرة حكومة أدولف تيير، الذي قام بتأسيس الجمهورية الثالثة الفرنسية.
أمّا نابليون الثالث فعاش أسيراً عند الألمان، قبل أن يعيش في بريطانيا إلى غاية وفاته سنة 1873م.