لن تصدّقوا جرائم الاستعمار البريطاني في كينيا!
في أواخر القرن التاسع عشر، دخل البريطانيون شرق إفريقيا واستعمروا كينيا طمعاً في ثرواتها، مثل الألماس والذهب. فقد كانت كينيا بالنسبة للبريطانيين واحدةً من المناطق المجهولة، التي يُمكن الاستيلاء عليها وضمّها إلى مستعمرات الإمبراطورية، وجرى التعامل معها على أنها أرضٌ غير مأهولة.
استاء السكان الأصليون من البريطانيين، بعدما طردوهم من أراضيهم وأجبروهم على العمل فيها بشكلٍ يُشبه السُّخرة، حتى أصبح وضع الأهالي لا يُطاق. حينها، ظهرت حركة معارضة بين أفراد قبيلة "الكيكويو"، وعُرفت باسم "ماو ماو".
لم تكن حركة المعارضة الكينية سهلة، لا بل عُرفوا بين البريطانيين بـ"المتوحشين". فقد استوطن أفرادها الغابات، واستهدفوا المستوطنين البريطانيين مُستخدمين مناجلهم، الأمر الذي دفع الاستعمار البريطاني في كينيا إلى إعلان حالة الطوارئ في البلاد بعد استدعاء قوات خاصة من إنجلترا.
بالتزامن، أقام الاستعمار البريطاني في كينيا معسكرات تحت اسم "معسكرات إعادة التأهيل" للسكان الأصليين بدعوى نشر التعلّم و"التمدن" وإكسابهم المهارات الخاصة بالحرف، إلا أنها -في حقيقة الأمر- كانت مراكز لتعذيب وتجويع وقتل السكان، إضافةً إلى إجبارهم على العمل بالسُّخرة.
كانت هذه المراكز منتشرة على طول القرى، وجرى بداخلها اغتصاب الكينيين وتعذيبهم بأبشع الطرق حتى الموت، لكن الاستعمار البريطاني نجح بطمس الأدلة. فقد كانت الحكومة البريطانية، على مدار عقود، تتخلص من أي أوراقٍ تُدين حكومة جلالة الملكة.
وكشفت تحقيقات مختلفة عن وجود تزويرٍ حول أرقام الضحايا والمحتجزين في معسكرات الاعتقال غير الإنسانية. ففي حين كانت تدّعي بريطانيا أنها احتجزت 80 ألفاً، تبيّن أن الرقم أكبر من ذلك بكثير!
اغتصاب وتعذيب.. جرائم الاستعمار البريطاني في كينيا
في سلسلة مقالات، بدأت في أبريل/نيسان 2022 بصحيفة The Guardian، كشف الكاتب والناشط السياسي البريطاني جورج مونبيوت أن استجوابات الكينيين في معسكرات الاحتلال كانت تتم تحت التعذيب على نطاقٍ واسع.
عددٌ كبير من الرجال تعرّض للاغتصاب شرجياً على يد الاستعمار البريطاني في كينيا، عن طريق استخدام السكاكين، والزجاجات المكسورة، إضافةً إلى فوهات البنادق، والثعابين، والعقارب. وكانت هناك تقنية مفضّلة لدى الجنود الإنجليز، وهي تعليق الرجل الكيني رأساً على عقب، ووضع رأسه في دلو من الماء، في حين توضع الرمال في مؤخرته بعصا.
وقد ابتكر جنود الاستعمار البريطاني في كينيا أداةً خاصة لسحق ثم تمزيق الخصيتين، كانوا يستخدمونها مع المعتقلين السياسيين، خصوصاً المنتمين إلى حركة "الماو ماو". وكانوا يعذّبون المعتقلين بالكلاب الشرسة والكهرباء.
النساء أيضاً تعرّضن للتعذيب والاغتصاب الجماعي من قِبل الحراس، الذين استخدموا الكماشات لتشويه أثدائهن.
وتُشير بعض المعلومات إلى أن الاستعمار البريطاني في كينيا كان يقطع آذان السجناء في بعض الأحيان ويقتلع أعينهم وأصابعهم، إضافةً إلى جرّ البعض بسيارات الـ"لاند روفر" حتى تتفكك أجسادهم.
وفي بعض الأحيان، كان الجنود الإنجليز يضعون وثاقاً من الأسلاك الشائكة (التي توضع حول المباني عادةً) حول جسد المعتقل الكيني، ثم يركلونه ليلتفّ حول المعسكر.
في كتابها "The Untold Story Of Britain's Gulag in Kenya" الذي صدر عام 2005، تكشف الباحثة والمؤرخة الأمريكية كارولين إلكينز ما حدث داخل "معسكرات التأهيل"، والتي أصبحت فيما بعد النواة التي استخدمتها دولة الاستعمار لإجراء أقسى التجارب على البشر، تلك التي شملت الأفارقة وكأنهم جنس أدنى يجب اكتشاف عقله وطبيعته المغايرة واختلافه عن "العرقِ الأبيض".
أمضت إلكينز نحو 10 سنوات في جمع الأدلة الواردة في كتابها، مع العلم بأنها انطلقت في رحلة بحثها من اعتقادها بأن الرواية البريطانية لما حدث خلال ثورة "الماو ماو" في خمسينيات القرن الماضي كانت دقيقةً إلى حدٍّ كبير.
تروي كارولين إلكينز في كتابها قصة بحثها عن سجلات تلك المعسكرات، في محاولةٍ منها لرسم صورة كاملة للحياة داخلها، وما "تعلّمه" الكينيون فيها، لتكتشف أن أغلب الملفات الخاصة بمعسكرات الاحتلال البريطاني في كينيا قد أُتلفت.
كان الأمر مثيراً للاهتمام، إلى الدرجة التي دفعتها لتتبع الملفات القليلة المتبقية، لتشكّل الحجر الأساس لما أصبح فيما بعد كتاباً يتناول جزءاً من التاريخ السرّي لبريطانيا داخل واحدة من مستعمراتها.
الملف الأزرق عن جرائم الاستعمار البريطاني في كينيا
لم تكتف إلكينز -خلال بحثها- بما وجدته في وثائق البريطانيين، بل عملت على الحصول على شهاداتٍ حيّة من أهالي قبيلة "كيكويو" الذين عاصروا "معسكرات إعادة التأهيل"، مصحوبةً ببعض الرسائل والروايات المنقولة عن شهود عيان.. ما مكّنها من اكتشاف الجرائم التي ارتكبها الاستعمار البريطاني بكينيا.
عندما بدأ تمرّد حركة "ماو ماو" عام 1952، وهي الانتفاضة التي قادت كينيا فيما بعد إلى طريق الاستقلال عام 1963، ردّت الإدارة البريطانية بقمعٍ شرس للمتمرّدين والمعارضين سقط خلاله العديد من القتلى.. فكانت حرباً طويلة بين الاحتلال البريطاني وما عرف بـ"جيش الحرية الكيني".
حينذاك احتجز البريطانيون جميع أفراد قبيلة "كيكويو" تقريباً، على الرغم من أن ثوار "ماو ماو" لا تتعدى نسبتهم 20% من هذا العدد. وتُشير المؤرخة الأمريكية إلى أنه، ووفق حساباتها، فهي تتوقع أن يكون عدد المعتقلين وصل إلى نحو 360 ألفاً، وليس 80 ألفاً كما تقول الرواية البريطانية.
أُنشئت تلك المعسكرات بعدما استصعبت الإدارة البريطانية السيطرة على السكان الأصليين وهم في منازلهم، فأنشأت قرى حصينة، بحجة خضوعهم للتأهيل من أجل دمجهم مرةً أخرى في المجتمع، إلا أن ذلك كان مجرد غطاء لعمليات التعذيب والقتل التي تعرّض لها ثوار "ماو ماو".
عندما عملت إلكينز على أبحاث كتابها الخاص، كانت الحكومة البريطانية قد أتلفت أغلب الوثائق التي تؤرخ فترة استعمارها لكينيا. لكن ملفاً أزرق نجا من التلف، يحكي عن النظام الذي اتبعه البريطانيون لتأهيل السجناء والمعتقلين عن طريق عزلهم وتعذيبهم وإجبارهم على العمل.
كان هذا الملف هو الذي شجع إلكينز على السفر إلى الأراضي الكينية لمقابلة بعض شهود العيان الذين عاصروا أحداث التمرد، وما تبعه من فرض حالة الطوارئ في المعسكرات.
300 شهادة جمعتها الكاتبة، كانت من ضمنها شهادة سالومي ماينا التي تعرضت للضرب والاغتصاب على يد البريطانيين وبعض ممن عاونوهم من أبناء قبيلة كيكويو، مقابل ضمان سلامتهم.
تقول ماينا إنهم عندما فشلوا في الحصول على معلومات منها، عمدوا إلى اغتصابها باستخدام زجاجةٍ مملوءة بالفلفل الأسود والماء. كانت تلك الحادثة مجرد جزءٍ مما تعرض له معتقلو المعسكرات.
فخلال فترة الاستعمار البريطاني في كينيا، جرى احتجاز السكان بين 800 قرية مغلقة في جميع أنحاء الريف، محاطة بأسلاك شائكة وخنادق وأبراج مراقبة. وفي الداخل كان الأهالي يعانون من التجويع المتعمَّد وعدم الطبابة من الأمراض المتفشية، هذا إلى جانب القتل والاغتصاب.
تجدر الإشارة أخيراً إلى أن كينيا طالبت الحكومة البريطانية مراراً وتكراراً بمحاكمة المسؤولين عن تلك الجرائم، ولكن لم يتم توجيه التهمة لأي عسكري شارك في هذه الجرائم، ولم يتم الاعتراف بها علناً بشكلٍ رسمي.
وفي عام 2009، رفعت شركة محاماة في لندن دعوى قضائية مطالبةً بالتعويضات، نيابةً عن 5 كينيّين مُسنّين "عانوا بشدة في معسكرات الاعتقال أو على أيدي جنود بقيادة البريطانيين".
وفي حديثٍ لموقع BBC عام 2011، قال المحامي مارتين داي: "وُضعوا في معسكرات حيث تعرّضوا للتعذيب الشديد وسوء التغذية والضرب، كما تعرّضت النساء للاعتداء الجنسي، وتم إخصاء اثنين من الرجال. لقد كان أعنف تعذيب يمكن أن تتخيله".
وأضاف المحامي قائلاً: "كان الكثير من الضباط المتورطين من البيض، ولم تكن الحوادث فردية منعزلة، فقد كان الأمر منهجياً، أرادوا كسر إرادة الماو ماو".
وقالت بريطانيا إن هذا الادعاء غير صحيح بسبب الفترة الزمنية التي انقضت منذ وقوع الانتهاكات المزعومة، وإن أية مسؤولية تقع على عاتق السلطات الكينية بعد الاستقلال في عام 1963.
لكن شركة المحاماة قالت إن القضية "فرصة للحكومة البريطانية للتصالح مع الماضي، والاعتذار للضحايا والشعب الكيني عن هذا الخطأ التاريخي الجسيم".