لعبت أدواراً رئيسية عدّة داخل الدولة العباسية، قبل وبعد أن حكمتها لما يقرب من العقدين خلال القرن العاشر. من جارية الخليفة العباسي المعتضد بالله إلى والدة الخليفة المقتدر بالله، تمكنت الجارية شغب -أو ناعم- من حفر اسمها عميقاً في التاريخ الإسلامي.
لسنا نبالغ لو قلنا إن العصر العباسي كان عصر الجواري. وإذا استثنينا السفاح، وجعفر المنصور، والأمين، فسنجد أن أغلب خلفاء بني العباس كانوا أبناء جواري ولعلّ أبرزهم المقتدر بالله، ابن الجارية التي صارت "السيدة" قبل أن تموت من التعذيب، وبعد أن قتلت غريماتها بالسُّمّ.
عزلت الوزراء وعيّنت أول قاضيةٍ للقضاة في بغداد، كما تحكمت في الجيش، وأنشأت واحداً من أبرز البيمارستانات في التاريخ الإسلامي. تعالوا معنا نتعرّف أكثر إلى الجارية التي وضعت نصب عينيها الحكم في الدولة العباسية، ونجحت في الوصول إليه.
الجارية شغب التي قتلت غريماتها واحدةً تلو الأخرى
صحيح أنه أحد الخلفاء الذين أعادوا إلى العباسيين هيبتهم وقوتهم من جديد، إلا أن الخليفة العباسي المعتضد بالله أحمد بن الموفّق طلحة بن المتوكل على الله كان معروفاً بولعه بالنساء، لدرجة أن المؤرخين يؤكدون أنه امتلك ما يزيد على 4 آلاف جارية.
ذات يوم أُعجب بجاريةٍ نحيفة ذات جمالٍ لافت، ليكتشف أن اسمها "ناعم"، وأنها جارية أم القاسم بنت محمد، فأرسل في طلب شرائها. يُقال إنها كانت رومية يونانية، فاعتق الخليفة ناعم وتزوّجها.
وحين أصبحت ملكة، أمضى الخليفة معها فترةً، قبل أن ينصرف -كعادته- إلى أخريات، وتتخذ الجارية شغب مكانها بين مئات الجواري في "جناح الحريم".
لكن شغب، وعلى عكس زميلاتها، لم تستسغ فكرة هجر المعتضد لها. فبدأت تشاكسه وتفتعل المشاكل، وزاد شغبها حين أنجبت ولداً للخليفة. وعندما طفح كيل المعتضد من تصرّفاتها، حبسها في جناحها وأمرها بالاعتكاف على تربية ابنها، المقتدر بالله، ملقّباً إياها بـ"شغب".. وهو الاسم الذي سيلازمها طيلة حياتها.
لم تتعب الجارية شغب من محاولاتها لعودة المعتضد إليها، وكانت حِيَلها لا تنتهي، حتى وصل بها الأمر إلى تصفية غريماتها الجواري، حين كانت تلحظ اهتمام الخليفة بهن. وكانت، من جناحها، تدير وتحيك المؤامرات لقتلهن بمساعدة رفيقتها الجارية "ثمل" التي ستعيّنها لاحقاً أول قاضية في بغداد.
أولى ضحايا الجارية شغب كانت قطر الندى بنت أحمد بن طولون، التي قتلتها بالسُمّ، الوسيلة المفضّلة للقتل في دهاليز حريم بني العباس. ولما علمت شغب بهيام الخليفة بالجارية دريرة، لدرجة أنه أنشأ لها حمام سباحةٍ خاصاً، سرّبت الخبر للشاعر ابن بسام البغدادي -الذي عُرف بأنه كان خبيث اللسان ولا يَسلَم أحد من هجائه- فكتب قصيدته الشهيرة التي أصبحت على لسان سكان بغداد، يرددونها كلما أرادوا السخرية من الخليفة. وقد جاء في القصيدة:
ترك الناس في حيرة وتخلّى في البحيرة
قاعداً يضرب الطبل على حرّ دريرة
خاف الخليفة أن تتزعزع صورته أمام الناس، فردم حمام السباحة الذي كان قد بناه، لكنه لم يبتعد عن حبيبته دريرة. الأمر الذي أفقد شغب صوابها، فدبّرت لقتلها.
يُقال إن الجارية شغب قتلت أيضاً الجارية فتنة، أم القاهر بالله، والتي انشغل المعتضد بحبّها بعدما أنجبت له من دون أن يتخلى عنها كما فعل مع شغب. ووفقاً لكتاب "تاريخ الخلفاء" للحافظ جلال الدين السيوطي (المتخصّص بسير الخلفاء من بداية عهد الخلفاء الراشدين إلى نهاية الخلافة العباسية)، يُقال إن المعتضد ازداد تعلّقه بفتنة بعدما ولدت ابنه، ولم يهجرها.
كذلك، فقد كان الخليفة يظهر محبته لابن فتنة الرضيع أكثر من حبّه للمقتدر بالله ابن شغب، والذي كاد يقتله في أحد الأيام حين كان صبياً، عندما رآه يتقاسم طعامه مع أطفال الخدم.
كلّ تلك العوامل زادت من مخاوف ناعم التي قرّرت قتل فتنة، بالسُمّ كالعادة، ففطر الحزن قلب المعتضد الذي كتب بحبيبته شعراً، قبل أن يوكل مهمة تربية ابنها إلى شغب!
كيف أصبحت الجارية شغب السيدة الأولى؟
على أثر تكرار حوادث الوفاة في "جناح الحريم"، اتجهت أصابع الاتهام صوب الجارية شغب، فثار عليها المعتضد وقرّر أن يقطع أنفها ويشوّه جمالها. لكنه فكّر أنها مسؤولة عن تربية ولديه، منها ومن فتنة، كما أنه لم يحصل على دليلٍ قاطع يؤكد ضلوع شغب في عمليات القتل.. فاكتفى المعتضد بعزلٍ إضافي لشغب.
عجْز المعتضد عن إيجاد دليلٍ يؤكد ضلوع الجارية شغب في قتل الجواري بالتسلسل، جعلها -أي جعل شغب- تتحوّل رويداً رويداً إلى نوعٍ من الأسطورة. فتبارزت الروايات حول كيفية قتلها لغريماتها، وصل بعضها لدرجة غرابة لا تُصدّق.
بعض الشائعات قالت إن الجارية شغب كانت تحمل السُمّ في يديها بشكلٍ دائم، بعدما تتناوله ترياقاً لها، ومن ثم تسمّم كلّ من تلمسها. وفي رواياتٍ أخرى، قيل إن ناعم كانت تراقب وترصد ميول غريماتها فيما يتعلّق بالقراءة، فكانت تعمد إلى وضع السُّمّ بين صفحات الكتاب التي تروق لكلّ زميلةٍ لها.
لكن كل الروايات، ومهما اختلفت طبيعتها، اتفقت على أن السُّمّ الذي استُخدم في قتل الجواري وقتئذٍ كان يقتل ببطء، من دون أن يترك أثراً أو طعماً أو حتى دليلاً. الأمر الذي حال دون الإيقاع بشغب.
وهكذا، بعد أن تخلصت من غريماتها، بدأت الجارية شغب تخطط للوصول إلى كرسي الخلافة، فخططت للتخلّص من خصومها بمساعدة ذراعها اليُمنى "ثَمِل". فقتلت الجارية جيجك، التي عُرفت بـ"أم علي"، أكبر أولاد الخليفة المعتضد وولي عهده.
فجأةً، وفي العام 289 هـ، مات المعتضد وتولى ابنه علي الحُكم باسم المكتفي، الذي توفي بعد 6 سنوات فقط من توليه الحُكم بعد أن اشتدّ المرض عليه. فبويع ابن شغب لخلافة الدولة العباسية، ولُقّب بـ"المقتدر بالله"، لكنه كان لا يزال في الـ13 من عمره.
كان المقتدر بالله أصغر حاكمٍ في تاريخ بني العباس واستمرّ حكمه نحو ربع قرنٍ، كانت خلالها والدته الجارية شغب هي المسيّرة الفعلية للدولة والسيدة الأولى في الدولة العباسية. تحكّمت في رجال الدولة العباسية واستطاعت أن تحمي ابنها من انقلابَين حقيقيَّين كادا أن يُطيحا به ويُقصياه عن العرش، قبل أن تكون نهايتها قاسية على يد ابن غريمتها.
عزلت الوزراء وعيّنت مساعدتها أول قاضية في بغداد
بعد تولي ابنها الخلافة، أصبحت الجارية شغب "السيدة"، وقد استغلت سيدة القصر الجديدة صغر سنّ ولدها لتسيطر على العديد من ملفات الدولة العباسية الحسّاسة، أبرزها الجيش والوزارة وحتى القضاء.
أنشأت لنفسها ديواناً خاصاً، أدار شؤونه كاتبٌ شهير يُدعى أحمد بن العباس بن الحسن. كما عيّنت "ثمل" قهرمانتها الخاصة، أي الجارية التي تتسلّم مهمات عالية في القصر وبعض الشؤون المالية الأخرى، فتنفذ أوامر السيدة، وتتولى مهمة إيصال الرسائل بينها وبين الخليفة.
لعبت السيدة شغب دوراً بارزاً في تعيين الوزراء وعزلهم بمنتهى السلاسة؛ ففي العام التالي على تولي المقتدر بالله عرش الخلافة، دبّرت مجموعة من الإداريين -على رأسهم الوزير العباس بن الحسن- مؤامرة انقلابية لتعيين الشاعر العباسي ابن المعتز خليفةً جديداً، وتمكنوا من تحقيق هذه المؤامرة ليومٍ واحد فقط.
خلال ذلك اليوم، كانت السيدة اتفقت مع الإداري المحنّك أبي الحسن علي بن الفرات وحاصرت هذه المحاولة الانقلابية، وألقت القبض على الوزير السابق العباس بن الحسن، وتعيّن ابن الفرات وزيراً قبل أن تصادر أملاكه وتعزله، بحجّة شكوى قادة الجيش منه.
تدخلت في شؤون القضاء، وعيّنت للمرة الأولى في تاريخ الإسلام قهرمانتها "ثمل" في منصب قضاء المظالم على رؤوس الأشهاد في بغداد. ووفقاً لكتاب "تاريخ الأمم والملوك" لمحمد بن جرير الطبري، يقول المؤرخ عريب إن السيدة أمَرَت في العام 306هـ أن تجلس "بالرُّصافة في بغداد للمظالم، وتنظر في شكاوى الناس يوماً في كل جمعة. فأنكر الناسُ ذلك، واستبشعوه، وكثُر عيبهم له والطعن فيه".
وتابع عريب قائلاً: "جلست أول يوم، فلم يكن لها فيه طائل. ثم جلست في اليوم الثاني، وأحضَرت القاضي أبا الحسن، فحسُن أمرها وأصلَح عليها، وخرجَت التوقيعات على سداد، فانتفع بذلك المظلومون وسكَن الناس إلى ما كانوا نافروه من قعودها ونظرها".
في العام نفسه، أعطت شغب الأمر بإنشاء بيمارستان على نهر دجلة، وقد أرجع البعض قرارها إلى هوسها بابتداع السموم العصية على الكشف.
أشرف سنان بن ثابت بن قرة على المستشفى، وخصّصت له مبلغاً تجاوز 600 دينار، كما عرف هذا المستشفى أيضاً إجراء اختبارات الأطباء الذين ينالون إجازتهم لممارسة الطب. وتذكر بعض المراجع أن البيمارستان ضمّ قسماً مخصّصاً لمعالجة مرضى العشق.
لم تتدخل شغب في شؤون الوزارة والقضاء فحسب، بل طوّعت كذلك قادة الجيش العباسي واستمالتهم لصالحها، وكانت السبب في إشعال الفتنة بين ابنها المقتدر وبين قائد الجيش مؤنس المظفر.
كان مؤنس من أشدّ الناس إخلاصاً لها، ورغم ذلك حاولت التخلّص منه. ففي السنوات الأربع الأخيرة من خلافة المقتدر بالله، ساءت الأوضاع المالية للدولة، وتمرّد الجيش بسبب قلة النفقات والرواتب، ما دفع قائده مؤنس لمطالبة الخليفة ووالدته بزيادة النفقات قبل أن يتطور الأمر إلى عصيانٍ مسلّح عام 321هـ، قُتل خلاله المقتدر الضعيف بسيوف الجيش العباسي، وببخل أمه التي رفضت أن تقرضه المال لدفع نفقات الجيش.
تولى القاهر، شقيق المقتدر بالله، مقاليد الحُكم.. ولم ينسَ أن شغب قتلت والدته فتنة رغم أنها ربّته بعد ذلك، فأمر باعتقالها أول ما تسلّم الحُكم وأشرف شخصياً على تعذيبها، كما صادر ممتلكاتها. استمرّ يعذّبها حتى توفيت تحت وطأة التعذيب.
تقول إحدى الجواري عن بعض مشاهد تعذيب السيدة في كتاب الطبري: "كانت في بعض دُور الخلافة شجرة، فقد قُبض على أم المقتدر وعُلّقت في تلك الشجرة بعينها. ضُربت على جسدها، بل وأُجبرت على حلّ أوقافها، واستطاعوا الوصول أخيراً إلى كنوزها وذخائرها".
توفيت الجارية شغب بعد ذلك التعذيب، بعشرة أيام فقط، سنة 321هـ/933م؛ لتنتهي معها إحدى أغرب قصص تحكّم النساء في السياسة وشؤونها على مدار نحو ربع قرن.