تاريخ وحشية الاستعمار الفرنسي بالجزائر طويلٌ وعريض، فقد تفننت آلة القتل الفرنسية في التنكيل بالجزائريين طيلة فترة الاحتلال، التي امتدت لأكثر من 132 سنة، وخلال تلك الفترة تعددت أساليب فرنسا في إزهاق أرواح الجزائريين.
وحين اقترب موعد استقلال الجزائر، بعد سنوات من الثورة، ظهرت آلة قتل فرنسية جديدة، تدعى "منظمة الجيش السري"، التي حاولت منع الجزائريين من تحقيق حلمهم بالحرية، وساوت في جرائمها بين الجزائريين والفرنسيين، ولم يسلم منها حتى الرئيس الفرنسي شارل ديغول، التي حاولت اغتياله أكثر من مرة.
الجيش السري تأسَّس من قِبل جنرالات فرنسيين، وتلقَّى الدعم من الأقدام السوداء
إذا كان من بداية فعلية لتاريخ هذه المنظمة السرية الإرهابية، فسيكون من قرار اعتراف الرئيس الفرنسي شارل ديغول للجزائريين بحقهم في تقرير المصير، في الـ16 من سبتمبر/أيلول 1959م، ثم دعوته قادة الثورة الجزائرية إلى الدخول في مفاوضات، لبحث شروط إيقاف القتال وإنهاء المعارك.
أثار هذا التطور غير المسبوق من ديغول نحو القضية الجزائرية غضباً عارماً لدى بعض الجنرالات الفرنسيين بالجزائر، الذين تشاركوا الغضب مع الأقدام السوداء.
والأقدام السوداء هو مصطلحٌ يشير إلى المستوطنين الفرنسيين والأوروبيين المولودين في الجزائر، أو الذين عاشوا فيها خلال فترة الاستعمار.
قبل ذلك، كانت فكرة "الجزائر فرنسية" تتحول تدريجياً إلى عقيدة لدى الأقدام السوداء، الذي صُعقوا بقرار ديغول، وشنوا ضده حملة، متهمين إياه بالخيانة، فقد كان شعار "الجزائر فرنسية" هو الطريق الذي وصل به ديغول إلى سدة الحكم، في 13 مايو/أيار 1958.
وفي الثامن من يناير/كانون الثاني 1961، دعا ديغول الشعب الفرنسي وأهالي المستعمرات إلى الاستفتاء بشأن تقرير المصير في الجزائر، فصوّت 75% من المستفتين بـ"نعم"، لمنح الجزائر استقلالها.
ومن أجل الوقوف في وجه ديغول ومخططه في التفريط- حسبهم- في ملكية الجزائر، رأى معارضو ديغول أنّ العنف وحده هو من يمنع الرئيس الفرنسي من منح الاستقلال للجزائر.
وفي 11 من فبراير/شباط 1961، اجتمع كل الجنرال جون جاك سوزيني مع كل من الجنرال بپير لاگا يار، والجنرال جان كلود بيريز في مدريد، تم خلال هذا الاجتماع الإعلان عن تأسيس تنظيم جديد كبديل لكل التنظيمات السياسية العاملة على غرس فكرة "الجزائر فرنسية".
حمل هذا التنظيم السري الجديد اسم "منظمة الجيش السري" واتخذ الصليب شعاراً له، كما ترأسه الجنرال المتقاعد صالان، بمساعدة الجنرالات: جوهو وغاردي؛ سوزيني، والعقيد غودار، وضم العديد من الأقدام السوداء المدافعين عن أطروحة الجزائر الفرنسية.
ظهرت أولى أنشطته بالجزائر، في أبريل/نيسان 1961، من خلال شعاراتها المتطرفة التي كتبت في جدران مدينة الجزائر، التي تقول: "الجزائر فرنسية وستبقى كذلك"، و"منظمة الجيش السري تضرب أين ما تريد ومتى تريد ومن تريد".
حاول قادة منظمة الجيش السري الانقلاب على ديغول، من أجل أن تبقى الجزائر فرنسية
في ليلة 20 إلى 21 أبريل/نيسان 1961، سيطر قادة منظمة الجيش السري على الجزائر وذلك من خلال تدبير انقلاب عسكري، فبعد ثلاث ساعات من الانقلاب أفاد بيان صحفي بثّته إذاعة الجزائر، أن "الجيش قد استولى على السلطة في الجزائر والصحراء"، في محاولة لمنع استقلال الجزائر.
استطاع ديغول إفشال الانقلاب العسكري الذي نفذه الجنرالات المتقاعدون موريس شال وأندريه زيلر وراؤول سالان.
تحولت مخططات منظمة الجيش الفرنسي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة تلك إلى استهداف ديغول شخصياً، من خلال تدبير محاولة اغتيال للرئيس الفرنسي، فقد كان شارل ديغول أكثر الأسماء الفرنسية المطلوبة لدى منظمة الجيش السري.
في يوم 22 أغسطس/آب 1961، وبينما كان ديغول وزوجته يقود سيارته من قصر الإليزيه إلى مطار أورلي. اعترضت طريقه سيارة سوداء لتفتح النار على سيارة ديغول مطلقة نحو 140 رصاصة.
قتل في العملية حارسان شخصيان لديغول، وانفجرت ثلاثة إطارات لسيارته الرئاسية، لكن الرئيس الفرنسي نجا من العملية، وتبنت منظمة الجيش السري العملية.
قتلت 2500 جزائري خلال سنة واحدة، ولم تحلّ سوى بعد سنة من الاستقلال!
خلال نشاطها الممتد من مايو/أيار 1961، وإلى سبتمبر/أيلول 1962، تسببت منظمة الجيش السري في مقتل 2700 شخص، من بينهم 2400 جزائري، كما قام هذا التنظيم الإرهابي بأكثر من 2500 تفجير بالعبوات.
خلال هذه الاعتداءات ارتكب مجرمو منظمة الجيش السري العديد من الجرائم، وفق تقنيات مدروسة تركزت على القتل الجماعي والعشوائي بهدف ترهيب الجميع.
ولم يسلم المثقفون والشخصيات المتعاطفة مع القضية الجزائرية من دائرة استهداف هذا التنظيم، واغتالت الكاتب الجزائري مولود فرعون، في 15 مارس/آذار 1962، إضافة إلى اغتيال ست معلمات بمنطقة الأبيار بالعاصمة.
كما أقدم التنظيم على قتل المساجين في زنزانات مراكز الشرطة، مثلما حدث في مركز شرطة حسين داي بالعاصمة، وقتل العديد من المرضى في المستشفيات، وكانت تهمة هؤلاء "الإيمان بضرورة تقرير مصير الجزائر"، حسب مجرمي المنظمة.
وفي 28 فبراير/شباط 1962، ارتكبت المنظمة واحدةً من أبشع مجازرها، حين استهدفت ساحة "الطحطاحة" بمدينة وهران، بقنبلة مدوية، ساعات قبل الإفطار، خلفت تلك المجزرة مقتل أكثر من 100 جزائري.
وفي الثاني من مايو/أيار 1962، قامت عناصر منظمة الجيش السري بتفجير سيارة مفخخة أمام مركز توظيف عمال الموانئ بميناء الجزائر، خلّف التفجير سقوط 62 قتيلاً، وإصابة أكثر من 250 آخرين.
ولم تقتصر جرائم منظمة الجيش السري الفرنسية على البشر فقط، بل تعدته إلى الكتب، حين أحرقت المنظمة مكتبة جامعة الجزائر، حيث أتلف 600 ألف كتاب، كما فُجرت المختبرات والقاعات بالمكتبة.
ولم يسلم الفرنسيون من إرهاب منظمة الجيش السري؛ ففي 14 يوليو/تموز 1961، قامت المنظمة بتدبير ستة تفجيرات، ثلاثة منها كانت موجهة ضد نواب في البرلمان الفرنسي.
باتت المنظمة السرية تهديداً للجزائريين كالفرنسيين، فأجمعت الحكومتان على محاربة المنظمة وقادتها، وبالفعل ألقت السلطات الفرنسية القبض على القائد الفعلي للمنظمة، الجنرال سالان في 20 أبريل/نيسان 1962.
أمّا الجنرال سكزيني فقام بالتفاوض مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية لوقف القتال، وقام بحلّ منظمة الجيش السري الفرنسي نهائياً، خلال سنة 1963، مقابل ضمانات من الجبهة.