ارتدوا زياً عربياً وأمازيغياً باللون الأبيض، كي يظهروا كأنهم قريبون من السكان الأصليين، وبدأوا نشاطهم التبشيري في الجزائر أواخر القرن التاسع عشر خلال الاستعمار الفرنسي، قبل أن ينتشروا في كلّ أرجاء إفريقيا ويصلوا إلى فلسطين والشام.
إنهم "الآباء البيض"؛ جمعية كاثوليكية تبشيرية، أسّسها الكاردينال لافيجري في عام 1868، وتُعرف أيضاً باسم "جمعية مُرسلي إفريقيا"، هدفت إلى نشر المسيحية في القارة الإفريقية.
بنى زعيمهم، شارل ألمان لافيجري (وهو أسقف فرنسي)، أكبر ديرٍ في المنطقة قبل أن تهدمه الجزائر بعد استقلالها عن فرنسا، وتحوّله إلى أكبر مسجدٍ في القارة السمراء، وثالث أكبر جامع في العالم، بعد الحرمين الشريفين.
تضمّ جمعية "الآباء البيض" بين أعضائها الكهنة والرهبان والعلمانيين، وهي غير مقيّدة بقوانين الرهبنة المعروفة، بل إن قوانينها خاصة. لم يكتفوا بنشر المسيحية في إفريقيا فقط، بل امتدّ نشاطهم إلى الشرق الأوسط كذلك، فأنشأوا في فلسطين دير القديسة حنّة في عام 1878، واتخذوه مقراً لهم. كما وصلوا إلى لبنان، فأسّسوا مركزين: واحد في زحلة عام 1901، وآخر في بيروت عام 1967.
مجزرة مسجد "كتشاوة" أجّلت نشر المسيحية في الجزائر
احتلت فرنسا، رسمياً، العاصمة الجزائرية في 5 يوليو/تموز 1830؛ وركزت جهودها في البداية لبسط سيطرتها على كامل البلاد، عسكرياً وسياسياً وإدارياً، ولذلك فإنّها لم تهتم بنشر المسيحية وسط السكان الأصليين، بخلاف ما كانت تفعله مع مستعمراتها الأخرى.
وكان الحكام الفرنسيون الأوائل للجزائر من العسكريين والضباط السابقين للإمبراطور نابليون بونابرت، وكانوا حاربوا الدول الكاثوليكية الكبرى في أوروبا. لذلك، فقد كانت لهم توجسّات كبيرة تجاه الكنيسة الكاثوليكية، وفق ما جاء في كتاب La France en terre d'Islam، للكاتب الفرنسي بيار فيرمن.
كذلك.. فإنهم لم يهتموا بنشر المسيحية في البلاد، بعد مجزرة مسجد "كتشاوة" الشهيرة التي وقعت في نوفمبر/تشرين الثاني 1832، عندما أراد القائد الأعلى للقوات الفرنسية الجنرال الدوق دو روفيغو هدم الجامع وتحويله إلى كنيسة.
حينها، انتفض سكان العاصمة واعتصم حوالي 4 آلاف مصلٍّ بداخله، دفاعاً عنه، ولم يتوانَ الجنرال بإصدار الأمر لجنوده بمحاصرة المسجد ودكّه بالمدافع، فضلاً عن سحب المعتصمين عنوة إلى "ساحة العنزة" (ساحة الشهداء حالياً)، وقتلهم جميعاً.
وبسبب الدمار الذي لحق بمبنى المسجد، اكتفوا بتحويله إلى إسطبل في ذلك الوقت. لذا، وأمام شراسة المقاومة الجزائرية، فضّل المستعمر الفرنسي التريث فيما خصّ نشر المسيحية بالبلاد.
تعيين أول أسقفٍ فرنسي للجزائر
ما هي إلا 6 سنوات حتى عيّن بابا الفاتيكان، غريغوري السادس عشر، الفرنسي أنطوان أدولف دوبيش أسقفاً للجزائر؛ قبل أن يُبنى ديرٌ صغير للرهبان ببلدة سطوالي (الضاحية الغربية للجزائر) سنة 1840، ومن ثم تحويل مسجد كتشاوة إلى كاتدرائية سان فيليب، حيث أُقيمت الصلاة المسيحية الأولى ليلة عيد الميلاد في 24 ديسمبر/كانون الأول 1844.
ووفقاً لموقع Academic الفرنسي، استمر أنطوان أدولف دوبيش أسقفاً للجزائر من عام 1838 إلى 1846، قبل أن يلجأ إلى إسبانيا ثم إيطاليا، هرباً من تسديد الديون التي تراكمت عليه من أجل تطوير الكنيسة في الجزائر.
فخلفه لويس أنطوان أوغيستين بافي حتى نوفمبر/تشرين الثاني 1866، الذي دشّن أول كنيسة في مدينة وهران "السيدة سانتا كروز" عام 1950، كما بدأ في عهده (1858) بناء كاتدرائية السيدة الإفريقية بالجزائر العاصمة.
وبعد وفاة أوغيستين، عرض حاكم الجزائر (الماريشال باتريس دو ماك ماهون) على شارل مارسيال ألمان لافيجري منصب أسقف الجزائر، فقبل العرض من دون تردد. وقد طلبت الحكومة الفرنسية من بابا الفاتيكان توسيع مهام الأسقف الجديد، ليصبح رئيس أساقفة الجزائر، فتمّ ذلك وتسلّم لافيجري منصبه رسمياً في 15 مايو/أيار 1867.
من هو الكاردينال لافيجري، مؤسّس جمعية " الآباء البيض"؟
ولد شارل مارسيال لافيجري في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1825 بمدينة بايون الفرنسية، وسط عائلة ليبرالية، من دون ميولٍ دينية محدّدة. ولكن، بحكم أنّ المدرسة الوحيدة التي كانت موجودة بالمنطقة هي كاثوليكية، فقد تلقى الطفل مارسيال تعليمه الابتدائي فيها، فأحبّ التعمّق بدراسة المسيحية.
وصل به حبّ التعمّق إلى أن أصبح كاهناً في عام 1849، قبل أن ينال شهادة الدكتوراه في الأدب عام 1850، وأخرى في "علم اللاهوت" سنة 1853.
عمل لافيجري أستاذاً لمادة تاريخ المسيحية بجامعة "سوربون" في العاصمة باريس، ثم انتقل إلى سوريا حيث أنشأ، رفقة أساتذة فرنسيين آخرين، جمعية "عمل مدارس الشرق" l'Œuvre des écoles d'Orient، التي أصبحت تُسمى فيما بعد "عمل الشرق". كما ترأس إدارة تحرير المجلة التي كانت تحمل الاسم نفسه.
وكان عمل الجمعية يتمثل في دعم مسيحيّي الشام، ومساعدة الإرساليات التبشيرية المسيحية في المنطقة، من خلال إنشاء مدارس للأطفال وبناء المستشفيات.
إقامته في سوريا ولبنان، سمحت له بالتعرف عن قرب على الإسلام والثقافة العربية عموماً، قبل أن يعود إلى أوروبا سنة 1861، لشغل منصب قاضٍ في محكمة "روث"، إحدى المحاكم القضائية الثلاث للكنيسة الكاثوليكية بروما، ثم عُيّن أسقفاً لمدينة نانسي الفرنسية، في سنة 1863.
أصبح شارل مارسيال لافيجري رئيس أساقفة الجزائر عام 1867، فتفرغ لنشر المسيحية في إفريقيا. وأسّس بعد عام جمعية "الآباء البيض"، ثم مجمع "الراهبات التبشيريات للسيدة الإفريقية" سنة 1869.
وبعدما أصبحت تونس تحت الحماية الفرنسية في 1881، أُنشئ منصب أسقف قرطاج وأوكلت مهمته إلى لافيجري الذي احتفظ في الوقت نفسه بمركزه كرئيس أساقفة الجزائر. وفي العام نفسه، عهد إليه الفاتيكان بمهمة التبشير بالصحراء والسودان (في ذلك الوقت كان اسم السودان يُطلق على دولة مالي الحالية)، ومُنح اللقب الشرفي "رئيس أساقفة إفريقيا".
وفي يوم 27 مارس/آذار 1882، منحه البابا "ليون الثالث عشر" لقب "الكاردينال"، إلى غاية وفاته يوم 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1892 بالجزائر العاصمة.
تحدثوا لغة الجزائريين.. مهام "الآباء البيض"
لم يهتم الأسقفان الأولان للجزائر كثيراً بنشر المسيحية، بل كان اهتمامهما الرئيسي يتمثل في توفير ظروف الحياة الروحية للمستوطنين الأوروبيين الذين كانوا يتوافدون إلى الجزائر بمئات الآلاف سنوياً ضمن الحملة الاستعمارية الفرنسية، وكان معظمهم مسيحيين.
وبخلاف سابقيه، فإن شارل مارسيال لافيجري ركزّ كثيراً على التبشير، فأسّس جمعية "الآباء البيض" واتخذ مقرّها في هضبة صغيرة عند مصب وادي الحراش على البحر الأبيض المتوسط، بالضاحية الشرقية للجزائر العاصمة، حيث بنى الدير التي كان يدرس ويعيش فيها الرهبان.
كانت المهمة الرئيسية لـ"الآباء البيض" و"الأخوات البيضاوات" نشر المسيحية وسط الأهالي، أي السكان الأصليين للبلاد. وقد وضع لافيجري الرهبان والراهبات، الذين يعملون في الإرساليات التبشيرية، أمام 3 تحديات، وهي: "التحدث بلغة القوم (العربية والآمازيغية) وارتداء لباسهم نفسه وأكل طعامهم".
وعلى هذا الأساس، فقد ارتدى رهبان هذه الجمعية التبشيرية الجديدة اللباس العربي الأمازيغي، المتمثل في "القندورة" و"البرنوس" و"الشاشية"، مع وضع "مسبحة" حول العنق على شكل قلادة كعلامةٍ دينية.
وكان عمل الآباء البيض يتمثل في القيام بالأعمال الخيرية لسكان الجزائر، بهدف كسب ودّهم. فبنوا المستوصفات الطبية والمدارس التعليمية ودور الأيتام، كما طوّروا الزراعة، وصبّوا اهتمامهم بشكلٍ أكبر على الاعتناء بالأطفال اليتامى وتربيتهم.
وتزامن بداية نشاط جمعية الآباء البيض مع المجاعة ووباء "الكوليرا"، اللذين ضربا العديد من المدن الساحلية الجزائرية وخلّفا نحو 100 ألف ضحية، وعشرات الآلاف من الأطفال اليتامى.. ما سهّل من عمل جمعية لافيجري فيما يخصّ تربية اليتامى على الديانة المسيحية.
ولم يقتصر عمل "الآباء البيض" على الجزائر العاصمة فقط، بل امتدّ نشاطهم إلى أقاليم أخرى، وبالأخصّ منطقتي القبائل والتيتري ومدينتي وهران وقسنطينة، وحتى في بعض الواحات داخل الصحراء.. وذلك في سياق استراتيجية لافيجري، الذي كان يحلم بنشر المسيحية في كل إفريقيا، أو على الأقل في المناطق الواقعة تحت السيادة الفرنسية.
كانت الإرساليات تضمّ عدداً من "الأخوات البيضاوات"، قصد تسهيل العمل مع النساء والفتيات من السكان الأصليين اللواتي كنّ ممنوعات، حسب تقاليد المنطقة، من التعامل مع الرجال.
وبحسب الموقع الفرنسي، فإنّ لافيجري، لما قبل منصب رئيس أساقفة الجزائر، كتب رسالة لأحد أصدقائه يقول فيها: "الجزائر ليست سوى باب مفتوح أمام قارة".
ولذلك فقد قام "الآباء البيض" سنة 1876، انطلاقاً من بلدة متليلي بالصحراء الجزائرية، بإرسال قافلة من 3 أفراد نحو مدينة تمبوكتو المالية، من دون أن يصلوا إلى هدفهم بحيث يُقال إنهم تعرّضوا للقتل من طرف رجال "الطوارق".
وبعد مرور سنتين، أي في 1878، وصلت قافلة تضمّ عدداً كبيراً من "الآباء البيض" إلى ميناء مدينة مومباسا الكينية في الساحل الشرقي لإفريقيا، ثم وصلت بعد 3 أشهر من السير على الأقدام إلى ضفاف بحيرة فيكتوريا بأوغندا.
وتبعتها قوافل أخرى بعدة مناطق إفريقية، حتى أصبح العدد عند وفاة الكاردينال لافيجري في سنة 1892، نحو 278 إرسالية تبشيرية من "الآباء البيض" وحدهم، موزّعين على 5 جنسيات مختلفة، ويمارسون مهامهم في 6 بلدان إفريقية من بينها: الجزائر، وتونس، وأوغندا، والكونغو.
وتوجد حالياً 1600 إرسالية تبشيرية للآباء البيض، من 36 جنسية في 42 دولة إفريقية.
دير "الآباء البيض" صار ثالث أكبر مسجد في العالم
بعد استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، تم تحويل الدير الكبير للآباء البيض في الحراش إلى مدرسة لتعليم صغار الصم والبكم. لاحقاً، أُرسل التلاميذ إلى مدرسةٍ جديدة في شرق العاصمة، وتم هدم الدير لبناء جامع الجزائر الأعظم مكانه.
وقد وُضع الحجر الأساس للجامع في عام 2012، وانتهت الأشغال فيه عام 2019، قبل أن يتم افتتاحه رسمياً أمام المصلين يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول 2020.
تبلغ المساحة الإجمالية لجامع الجزائر الأعظم 27 ألف هكتار، وتتألف المئذنة من 43 طابقاً، يُمكن رؤيتها من جميع أنحاء العاصمة، إضافةً إلى قاعات صلاة واسعة يمكنها أن تسع نحو 120 ألف مصلٍّ؛ ما يجعل هذا الصرح الديني ثالث أكبر مسجد في العالم، بعد الحرمين الشريفين.
اليوم، وبسبب جائحة كورونا، فإنّ الصلاة في المسجد مقتصرة فقط على الصلوات الخمس اليومية، أي من دون صلوات الجمعة والتراويح وعيدَي الفطر والأضحى.