لا جدال حول أن الحضارة الفرعونية واحدة من أهم الحضارات القديمة حول العالم، التي كانت -وما زالت- مصدر إلهامٍ للباحثين والمؤرخين. ولعل أبرز معالم تلك الحضارة تتجلى في المسلات الفرعونية.
والمسلّة هي عمودٌ من الغرانيت، رباعي الأضلاع والقاعدة. يكون ممدوداً ويضيق تدريجياً إلى الأعلى، حيث ينتهي بطرفٍ مُدبَّب (يشبه الهرم). وكانت المسلة تحمل ألقاب الملك الذي بناها، وصلته بإله الشمس رع.
لا يزال هناك نحو 28 مسلّة مصرية موجودة في العالم، منها 6 فقط في مصر، في حين تنتشر المسلات الأخرى في دول عدة. وقد تتفاجأ عندما تزور فرنسا أو إيطاليا أو حتى تركيا، حين تجد مسلاتٍ فرعونية شاهقة الطول منصوبةً في هذا الميدان أو ذاك، بلغةٍ هيروغليفية واضحة.
فحين تزور منطقة السلطان أحمد في تركيا على سبيل المثال، ستلاحظ وجود مسلة فرعونية في الطرف الجنوبي من ميدان جامع السلطان أحمد. وهي مسلّة كان قد أحضرها، من مصر إلى القسطنطينية، الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول عام 390 قبل الميلاد.
أمر الإمبراطور بحملها على السفن وتثبيتها في مكانها الحالي، وما زالت كما هي على مرّ القرون والظروف.
وهذه المسلّة تحديداً بناها الفرعون المصري توت موسيس الثالث، في القرن الخامس عشر قبل الميلاد. وأثناء نقلها من مصر، تعرّضت للتخريب والضرر، فأصبح طولها 18.45 متر، بينما كان -بالأصل- 30 متراً.
وتُعتبر مسلة "حمورابي" في العراق القديم أقدم مسلة كُتبت عليها قوانين وتشريعات، في تاريخ الحضارة الإنسانية.
تختلف المراجع حول العدد المحدّد للمسلات الموجودة حول العالم. منها ما يُشير إلى أن عددها 30 أو 78، وأخرى تقول إنها 100. كما تختلف المراجع حول العدد المؤكد وجوده في مصر اليوم، ولكنها تتراوح بين 5 و8.
عدد المسلات المصرية الأكبر موجود في إيطاليا
بينما تشتهر مدينة روما عموماً بـ"الكولوسيوم" ونافورة تريفي، فإن أرضها تحتضن أيضاً عدداً من المسلات الفرعونية أكثر من تلك الموجودة على أرض مصر نفسها.
وفقاً لموقع Middle East Eye، يوجد في روما حالياً 13 مسلّة فرعونية -غالباً ما تكون منقوشة بالكتابة الهيروغليفية- بناها المصريون القدماء، في حين بقيت 6 مسلات فقط في موطنها الأساسي بمصر. لماذا؟
عندما نجح الإمبراطور أوكتافيان (المعروف أيضاً باسم أغسطس قيصر) في ضمّ مصر إلى الإمبراطورية الرومانية، بات الحكام الجدد للبلاد مفتونين بما لديها من عجائب معمارية، وسَعوا إلى نقل أكبر عددٍ من كنوزها إلى مدينتهم، روما.
مثَّلت المسلات الفرعونية مجرد جانب واحد فقط من جوانب الاهتمام الروماني بمصر القديمة، جنباً إلى جنب مع المعتقدات الدينية، وعلم التنجيم، والتقنيات الزراعية التي اعتمدتها روما أيضاً.
تعالوا نتعرّف إلى بعض المسلات الموجودة في إيطاليا:
1- مسلة لاتيران
تُعد هذه المسلة واحدة من أكبر وأطول المسلات المصرية الموجودة في روما حالياً. بُنيت في الأصل بمعبد الكرنك نحو عام 1400 قبل الميلاد، في عهد الفرعون تحتمس الثالث، لكنها أُنجزت في عهد حفيده تحتمس الرابع.
كانت واحدة من اثنتين أمر ببنائهما تحتمس الثالث، واحدة له وأخرى لوالده، تحتمس الثاني. لكن لم يكتمل أي منهما بسبب وفاة تحتمس الثالث. وقد تقرَّر وضع المسلّة شرق معبد آمون العظيم بمجمع معابد الكرنك في مصر، بعد أن استكمل بناءها تحتمس الرابع.
وفي أوائل القرن الرابع الميلادي، نُقلت المسلّة إلى مدينة الإسكندرية على متن سفينة عبر نهر النيل، حيث بقيت هناك عقود عدة، قبل أن يأمر الإمبراطور قنسطاطينوس الثاني بإرسالها إلى روما.
كانت تزن في الأصل 413 طناً؛ لكن بعد انهيار أجزاءٍ منها، بمرور الوقت وإعادة ترميمها، أصبحت تزن الآن 300 طن. اكتملت جهود إعادة بنائها أواخر ثمانينيات القرن الـ16 بوضع صليب معدني على قمتها ونُقلت إلى موقعها الحالي في ساحة سان جيوفاني بمدينة روما.
2- مسلة ساحة القديس بطرس
يقف في وسط مدينة الفاتيكان هيكل معماري أُحضر من مصر عام 37 ميلادياً. لم يُعرف بعد هوية الفرعون المصري، الذي كلَّف ببنائها قبل نحو 2000 عام، ما يجعلها أقدم بكثير من مدينة روما نفسها.
تعتبر هذه المسلّة، التي يطلق عليها أحياناً "مسلة الإمبراطور كاليغولا"، فريدة من نوعها لأن جوانبها خالية من الكتابة الهيروغليفية، على عكس بقية المسلات.
صحيح أنها بُنيت تمجيداً وتكريماً لإله الشمس عند المصريين القدماء، لكن جوانبها الخالية من النقوشات جعلت من الصعب على المؤرخين معرفة المزيد عن أصولها.
أُحضرت هذه المسلّة من مصر إلى روما بأمر من الإمبراطور الروماني، كاليغولا، المعروف بوحشيته وحكمه الاستبدادي وعدم اتزانه العقلي. ولإحضارها، بُنيت سفينة خصيصاً لإنجاز مهمة نقلها من مصر إلى الفاتيكان. لم تكن العملية سهلة، خاصةً وأنها كانت تزن حوالي 326 طناً ويبلغ ارتفاعها حوالي 40 متراً.
أُخذت المسلّة من مصر وُوضعت في روما لتخليد ذكرى أسلاف كاليغولا- أغسطس وتيبريوس- ولا يزال من الممكن رؤية النقوش المُخصَّصة لهما على جوانب المسلّة. في عام 1817، بنيت ساعة شمسية في ساحة القديس بطرس، وكان ظل المسلّة يشير إلى منتصف النهار.
3- مسلة ماكوتو
توجد الآن أمام مبنى معبد بانثيون في روما، بعد نقلها من مكانها الأصلي في معبد رع بمصر. تظهر كتابات هيروغليفية منقوشة على جوانبها الأربعة، توضح بالتفصيل العلاقة بين الفرعون ورع.
شُيَّدت المسلّة، التي كانت واحدة من مسلَّتين، في عهد الملك رمسيس الثاني الذي حكم مصر في الفترة من 1279 حتى 1213 قبل الميلاد. وقد أُخذت من مصر لتزيين معبد الإله إيزيس والإله سيرابيس في روما القديمة -وهما إلهان مصريان كان يُقدّسهما بعض الرومان قبل قرون من غزو الإمبراطورية الرومانية لمصر- لا سيما أن المسلة مصنوعة من الغرانيت الأحمر.
لم يُعرف الكثير من التفاصيل بشأن كيفية نقلها إلى روما؛ لكن في عام 1711، أضاف النحات الإيطالي، فيليبو بايجينو، صليباً إلى المسلّة.
4- مسلة فلامينيو
موجودة في ساحة بياتزا ديل بوبولو، وهي من أولى المسلات التي جرى إحضارها من مصر إلى روما.
بَنى المصريون القدماء هذا المعلم المعماري بارتفاع حوالي 36 متراً في عام 1300 قبل الميلاد تقريباً، وقد تقرَّر وضعها في البداية بمعبد رع في مصر. بقيت في مكانها الأصلي على مدار أكثر من ألف عام، حتى سيطر الإمبراطور الروماني أغسطس قيصر على حكم مصر وقرَّر نقلها إلى روما.
صُنعت مسلة فلامينيو من الغرانيت الأحمر، وخضعت على مر السنين لعمليات تفكيك أجزائها وإعادة تجميعها، من أجل أعمال الصيانة والترميم.
أمر البابا سيكتوس الخامس بإصلاحها ووضعها في ساحة بياتزا ديل بوبولو في عام 1589. وفي عام 1823، أضاف المهندس المعماري الإيطالي، جوزيبي فالادير، نحت أشكال أسود إلى قاعدة المسلّة.
5- مسلّة مونتيسيتوريو
هي أيضاً أحضرها الإمبراطور أغسطس قيصر إلى روما، بعد سيطرة الإمبراطورية الرومانية على مصر. مصنوعة من الغرانيت الأحمر ويبلغ ارتفاعها حوالي 20 متراً ويعود تاريخها إلى عهد بسامتيك الثاني، الذي حكم مصر في الفترة من 595 إلى 589 قبل الميلاد.
على غرار العديد من المسلات الأخرى في روما، تضررت أجزاء المسلّة بمرور الوقت بفعل الزلازل والحرائق وغزو النورمان لجنوب إيطاليا في عام 1084، وهو الهجوم الذي دمَّر المسلّة.
في عام 1748، جرى تكليف مهندس معماري يدعى أنطونيو زاباغليا بمهمة إصلاحها بعدما انهارت إلى عدة أجزاء، واكتملت عملية ترميمها عام 1792.
كانت المسلّة في البداية بمثابة ساعة شمسية وتقويم، وتقرَّر وضعها بطريقة معينة لتلقي بظلالها على مذبح السلام الأوغسطي في 23 سبتمبر/أيلول، وهو يوم اكتمال بناء المذبح وذكرى ميلاد الإمبراطور أغسطس قيصر. أصدر مجلس الشيوخ الروماني تكليفاً ببناء هذا المذبح تكريماً للإمبراطور أغسطس.
تاريخ المسلات الفرعونية
يرجع تاريخ إنشاء المسلات المصرية إلى حوالي 5000 سنة، حيث أقيمت المعابد وشُيِّدت أمامها المسلات، وكتب على أوجه المسلات الأربعة اسم الملك، والسبب الذي جعله يشيّد تلك المسلّة، كما تحتوي أيضاً على تأريخٍ لأبرز الإنجازات التي قام بها، وملامح الحياة وقت تشييدها.
كانت مدينة أسوان هي المدينة التي يأتي منها حجر الغرانيت الضخم، الذي تتكوّن منه المسلّة. وتواجدت المسلات الفرعونية في مدن مثل: هليوبوليس والفيوم وعين شمس وتانيس في الدلتا، إضافةً إلى معبدي الأقصر والكرنك في صعيد مصر.
كان الفراعنة يقطعون الصخور إلى قطعةٍ واحدةٍ ضخمة، من محاجر الغرانيت في أسوان، ثمّ ينقلونها إلى مكان تشييد المسلّة، ثمّ يصقلونها وينقشونها.
وفي أحد هذه المحاجر تُركت مسلّةٌ غير مكتملة الصقل، ووفقاً لما نشره موقع جريدة المصري اليوم، فلو اكتملت هذه المسلّة لصارت أطول وأضخم المسلات الفرعونية، ولو اكتملت لوصل طولها إلى 41 متراً، ووزنها إلى 1168 طناً، بينما أطول المسلات الفرعونية إطلاقاً في أسوان يبلغ ارتفاعها 39 متراً.
أنشأ المصريون القدماء تلك الأعمدة الحجرية للاحتفاء بالملوك السابقين، وتخليداً للمملكة المصرية القديمة، وكذلك لإظهار التبجيل للآلهة المصرية القديمة.