الهدف المفترض من برامج الرعاية الاجتماعية للأطفال في كل دول العالم، هو توفير فرصة حياة كريمة للأطفال الذين يعانون من ظروف صعبة، لكن ذلك الأمر لا ينطبق على "مشروع كنتلر"، الذي انطلق بداية السبعينيات في برلين، واستمر 30 عاماً، والذي كان تجربة مريعة أجراها أستاذ علم النفس "هيلموت كنتلر".
حيث تم وضع الأطفال عن عمد، في بيوت رعاية يديرها رجال معروف عنهم التحرش الجنسي بالأطفال، وكانت لدى بعضهم خلفية إجرامية، ومدانون بارتكاب الاعتداءات الجنسية على الأطفال.
والأدهى من ذلك أن تفاصيل المشروع كانت معروفة لبعض المسؤولين الحكوميين، وحتى بعد كشف الحقيقة لم تتم محاسبة أحد.
"كنتلر" أبرز طبيب للتربية الجنسية في ألمانيا الغربية
كان الطبيب الألماني "هيلموت كنتلر" اسماً لامعاً في ألمانيا الغربية؛ إذ كان أستاذاً للتربية الجنسية في الستينيات والسبعينيات، ومارس عمله خبيراً قضائياً وخبيراً في النشاط الجنسي للأطفال والمراهقين، وحصل على التقدير في الأوساط المهنية بسبب أبحاثه في المجال وما نشره من مؤلفات.
من 1979 إلى 1982، تولى كنتلر منصب رئيس "الجمعية الألمانية للبحوث الجنسية الاجتماعية العلمية"، وبعد ذلك كان عضواً في المجلس الاستشاري لاتحاد العلوم الإنسانية.
وبرز اسمه خلال عمله مع المراهقين والشباب، خلال السنوات الخمس التي قضاها في العمل في المؤسسات التعليمية التابعة للكنيسة الإنجيلية اللوثرية في ولاية بافاريا.
وعمل كنتلر أيضاً مستشاراً نفسياً لقضايا الشرطة، وانتشرت دعوته التي نشرها في رسالته عام 1975 للتربية الجنسية التحررية في المنزل، وأصبح كنتلر اسماً له وزنه ومكانته العلمية في التربية الجنسية.
"مشروع كنتلر" الاعتداءات الجنسية على الأطفال برعاية حكومية
في نهاية الستينيات، أقنع كنتلر بحكم اسمه المعروف، الحكومة المحلية في برلين، بتمويل مشروع رعاية اجتماعية للأطفال والمراهقين الذين كانوا بحاجة لدور رعاية مؤقتة أو دائمة.
وأقنع كنتلر المسؤولين أن يقوم بنفسه بالإشراف على المشروع، وأُطلق عليه فيما بعد اسم "مشروع كنتلر".
ابتداءً من عام 1969 وعلى مدى 30 عاماً، سلمت سلطات الرعاية الاجتماعية في برلين الغربية مئات الأطفال والمراهقين، إلى الدكتور كنتلر، والذي كان بدوره يوزَّعهم على دور الرعاية، وكان كنتلر يعلن في أطروحاته، أن نتائج التجربة كانت مذهلة على الصعيد النفسي للأطفال.
وأن مشروعه وفر للمراهقين والأطفال المصابين بصدمات نفسية، "مرساة اجتماعية" بينما منح القائمين على دور الرعاية، فرصة ليصبحوا آباء حاضنين محبين، وتم تكريم كنتلر عدة مرات من قبل السلطات في برلين.
لكن حقيقة المشروع كانت مفزعة، فالقائمون على دور الرعاية تلك، لم يكونوا سوى مجموعة من المتحرشين ومشتهي الأطفال، وبعضهم كانت له سوابق، ومعروف لدى السلطات ارتكابهم الاعتداءات الجنسية على الأطفال.
وكان أولئك المتحرشون يحصلون على بدل رعاية مالي منتظم من الحكومة، وكان كنتلر قد تعمَّد وضع الأطفال تحت رعاية أولئك الأشخاص، الذي كانو يقيمون معهم علاقات جنسية.
وتذكر صحيفة "The New Yorker" أن "كنتلر" قال في مناقشة تجربته: "لقد اعتنينا بهذه العلاقات ونصحنا بها بشكل مكثف للغاية".
تم نشر التقرير الأول عن حقيقة "مشروع كنتلر" في عام 2016 من قبل جامعة "غوتنغن"، ومنذ ذلك الحين، تقدم العشرات من ضحايا تلك التجربة، وتحدثوا عن الرعب الذي تعرضوا له أثناء المشروع، والذي استمر لبعضهم عدة سنوات.
تواطؤ حكومي في برلين لإخفاء حقيقة الاعتداءات الجنسية والتحرش بالأطفال
يروي تقرير نُشر في صحيفة The New Yorker محنة شاب يدعى "ماركو" وهو أحد ضحايا المشروع، والذي أُجبر حين كان طفلاً، على العيش مع بيدوفيلي، يبلغ من العمر 47 عاماً يُدعى "هنكل".
عام 1988 كان ماركو في الـ5 من عمره، وكان يعبر الشارع بمفرده فدهسته سيارة، لم يصب ماركو بجروح خطيرة، لكن الحادث لفت انتباه مكتب رعاية الأطفال، الذي تديره حكومة ولاية برلين.
لاحظ العاملون في المكتب أن والدة ماركو بدت "غير قادرة على منحه الاهتمام اللازم". فقد كانت تعمل في كشك النقانق، وتكافح من أجل رعاية أطفالها بمفردها.
بعد أن طلقها والد ماركو، وهو لاجئ فلسطيني، وكانت ترسل ماركو وشقيقه الأكبر إلى الحضانة في ملابس متسخة، وتركتهم هناك لمدة 11 ساعة، فأوصى مكتب الرعاية أن يتم وضع ماركو في دار رعاية.
فوضعته السلطات تحت رعاية "هنكل" الذي كان جزءاً من "مشروع كنتلر" منذ بدايته، والذي اتّضح أكثر من مرّة أنّه كان على "علاقة جنسية" مع أحد أبنائه بالتبني.
وعندما يتم التحقيق في الأمر، يظهر "هيلموت كنتلر" واصفاً نفسه بأنه "المستشار الدائم" لهنكل، ويشهد له أمام السلطات، ويتم تعليق التحقيق.
قال "ماركو" إنه اعتاد على الأشياء التي فعلها هنكل به لأنه كان مهيَّأً للاعتقاد بأنها طبيعية، وعندما حاول ذات مرة مقاومة هنكل بسكين، تلاعب به الطبيب "كنتلر" نفسياً لجعله يذعن.
سُمح لوالدة ماركو بالزيارة مرة واحدة في الشهر، لكن زياراتها ألغيت في كثير من الأحيان من قبل "هنكل" أو كان أحياناً يُنهي الزيارة مبكراً قبل انتهاء الوقت المحدد لها، مدعياً أنها كانت مزعجة لماركو.
ومع حرمان ماركو من زيارات والدته، بدأ يعاني من سلس البول وقلة التركيز على تعليمه، لكن "كنتلر" حذر السلطات من أن "نجاحات ماركو التعليمية تدمرت بسبب تواجده مع والدته لبضع ساعات".
بعد ذلك، كتب كنتلر خطاباً إلى القاضي، يجادل فيه أنَّه من أجل مصلحة ماركو، يجب تعليق الاتصال بينه وبين عائلته لمدة عامين.
وشدد كنتلر في خطابه على أن ماركو كان بحاجة إلى الابتعاد عن عائلته الأصلية، وحكمت المحكمة لصالح هنكل، وحُرم "ماركو" من مقابلة عائلته بشكل نهائي.
بين الحين والآخر، كانت تقارير كثيرة تكشف الفظائع التي حدثت في "مشروع كنتلر".
وبحسب صحيفة "The New Yorker"، فإن كنتلر أجرى مناقشات مع الرجال المتحرشين والأطفال الذين تعرض العديد منهم؛ للإهمال لدرجة أنهم لم يتعلموا القراءة أو الكتابة، وعند مناقشته عن ذلك الإهمال، وضع كنتلر اللوم على الأطفال واتهمهم بالغباء.
انتهى "مشروع كنتلر" ولم تتم محاسبة أحد
حتى اليوم، وبعد كثير من التحقيقات الصحفية، لم يُعرف على وجه الدقة، عدد الأطفال الذين وُضعوا ضمن "مشروع كنتلر" مع مشتهي الأطفال، وكم دفعت الحكومة من المال لأولئك الأشخاص.
في 2015 كلفت سلطات ولاية برلين الدكتورة تيريزا نينتويغ من جامعة غوتنغن بالبحث في التقارير لكن دون جدوى، قالت "نينتويغ" إن أمناء الأرشيف في برلين منعوا الوصول إلى البيانات المهمة، مدعين أن الملفات كانت مفقودة أو غير مصنفة أو مقفلة لأسباب تتعلق بحماية البيانات.
وبحسب تقرير من جامعة "هيلدسهايم" عن القضية، كانت هناك شبكة عبر المؤسسات التعليمية ومكتب رعاية الشباب بالولاية ومجلس الشيوخ في برلين؛ حيث تم "قبول الاعتداء الجنسي على الأطفال ودعمه والدفاع عنه".
وأن مجلس الشيوخ في برلين الغربية كان يدير أيضاً دور رعاية أو شققاً مشتركة لمراهقين وأطفال وبالغين يشتهون الأطفال، وكانت ممارسات الاعتداءات الجنسية والتحرش بالأطفال تتم بشكل مستمر وممنهج.
وفي أجزاء أخرى من ألمانيا الغربية، كانت دور الحضانة هذه، يديرها أحياناً مشتهو الأطفال، والذين تم منحهم هذه المناصب من قبل الأوساط الأكاديمية، والمؤسسات البحثية والبيئات التربوية الأخرى، التي قبلت أو دعمت أو حتى عاشت مواقف الاستغلال الجنسي للأطفال.
إلى جانب ذلك، وجدت التقارير أيضاً أن بعض أولئك الآباء بالتبني الذين اعتدوا على الأطفال جنسياً، كانوا أكاديميين رفيعي المستوى، بما في ذلك أعضاء في معهد ماكس بلانك، وجامعة برلين الحرة، ومدرسة "أودنوالد" سيئة السمعة في هيس، ألمانيا الغربية.
التي كانت عام 2010 في قلب فضيحة الاعتداء الجنسي على الأطفال، كانت تلك المدرسة واحدة من أشهر المؤسسات التقدمية والإصلاحية في ألمانيا الغربية، اتضح لاحقاً أن المدير السابق للمدرسة، جيرولد بيكر، قام إلى جانب 7 موظفين آخرين على الأقل، بالاعتداء جنسياً على 132 تلميذاً على الأقل.
قبل أن يتوفى كنتلر عام 2008، كان قد نشر أطروحاته عدة مرات، وتم جمعها لاحقاً في كتاب بعنوان "الآباء البديلون"، في كل تلك الأطروحات، يصف كنتلر مشروعه بأنه "قصة نجاح".
وعلى الرغم من ظهور الاتهامات ضده، لم تتم مقاضاته أبداً؛ لأنه بحلول الوقت الذي استجمع الضحايا شجاعتهم وأعلنوا ما حدث لهم، كان قانون التقادم قد انتهى، والذي يضع في ألمانيا حداً أقصى 20 عاماً بعد وقوع الجريمة للإبلاغ عنها وبدء الإجراءات القانونية.
لكن ولاية برلين أعلنت عام 2021 دفع تعويضات لضحايا التحرش.
وفي نفس السنة، اعتذرت الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في ولاية بافاريا في بيان عبرت فيه عن "شعور مجلس الكنيسة الإقليمي بالخجل بسبب استغلال هيلموت كنتلر انفتاح الكنيسة الإنجيلية لموقف مستنير ومتحرر تجاه الجنس، وفي نفس الوقت شوهها من خلال التزامه بالاعتداء الجنسي على الأطفال". ورحبت إدارة الكنيسة بدفع التعويضات للضحايا.
وأقرت الكنيسة في البيان كيف كانت منشآتها جزءاً من البيئة التي جعلت كنتلر عالماً معترفاً به، وجعلت أفكاره مقبولة اجتماعياً، ولم تعارض علانية تصريحاته لتبرير الاعتداء الجنسي على القُصَّر.