روايات شعبية ومراجع تاريخية تحدثت عن قريتي "العزيزية" و"بوصير"، التابعتين لمركز البدرشين بمحافظة الجيزة وتبعدان عن جنوب العاصمة المصرية 20 كيلومتراً، باعتبارهما مركزاً لحياة النبي يوسف بن يعقوب، عليه السلام، والسجن يقال إنه سجن يوسف عليه السلام، وُضع به، وكان مسرحاً لوقائع تفسير الرؤى.
القريتان تاريخياً من إحدى أربع قرى بمركز البدرشين الذي يضم أيضاً قريتي سقارة وميت رهينة وكونتا قديماً مدينة "منف" التي أسسها الملك مينا أول عاصمة في تاريخ مصر.
وقد اشتق اسم العزيزية من اسم "عزيز مصر" (قوطفير أو قوطيفار أو بوتيفار بن روحيب هو عزيز مصر (لقب الوزير الأول) أثناء فترة قدوم النبي يوسف، حسب الروايات التوراتية، وكان ملك مصر في هذا الوقت هو "الريان بن الوليد"، أما زوجة عزيز مصر فهي راعيل بنت رماييل وشهرتها "زليخة").
على الرغم من أنه لا توجد دلائل مادية تثبت أن المبنى الموجود بقرية "أبو صير" بالقرب من الهرم المدرج، هو سجن سيدنا يوسف، إلا أن المكان يشيع راحة نفسية وروحانيات للزائرين تجعلهم يتلهفون للعودة كما قال أهالي القرية لـ"عربي بوست"، فهم يعتبرون أنفسهم محظوظين على الرغم من فقرهم المدقع، حيث يعيشون وسط المشاهد الطبيعية الخلابة التي تنسجها حولهم أشجار النخيل والجبال التي تحتضن تاريخ مصر الفرعوني وأسراراً كثيرة لم يتم اكتشافها بعد.
كان الدخول إلى المعلم الموجود به "سجن يوسف" صعباً بسبب تواجد شرطة السياحة ضمن فرق الحراسة المنتشرة بالمكان، وفقاً لتعليمات من وزارة الآثار التي أقدمت على إغلاق السجن مؤقتاً أمام الزائرين لحين تطويره، بسبب الإهمال الذي يضرب المكان بالكامل أو خوفاً من التنقيب عن الآثار.
لم تلمح العين بعد المرور من السور الحجري- الذي تم بناؤه مؤخراً ولا يتعدى طوله مترين- إلا تلالاً رملية لا يكسر لونها الأصفر إلا بضع شجيرات متناثرة هنا أو هناك، على استحياء تتمايل بفعل لفحة الهواء الساخنة والتي انعكست على الرمال التي سرنا عليها لمسافة عشرات الأمتار للوصول إلى المكان الذي يقال إنه سجن سيدنا يوسف عليه السلام.
ففي الثلث الأخير من الصحراء الممتدة على مرمى البصر كانت تقبع حجرة قديمة جداً ومتهالكة تتغير أحجارها بفعل العوامل الجوية وتهدم كل فترة ليقام مكانها غرفة أخرى جديدة، حتى لا يضل موقع السجن للزائرين أو يضيع أثره، كما قال أحد الأهالي لـ"عربي بوست".
شبابيك مسيخة تدخل الضوء
الحجرة مغلقة بباب حديدي أسود اللون له مزلاج فتحناه بصعوبة شديدة لنجد جدراناً صماء بها شبابيك مسيخة تدخل الضوء من جميع الاتجاهات ويتوسطها كتلة أسمنتية مغطاة بثوب أخضر وعليها مصليات كثيرة هبة من الزائرين الذين يأتون للتبرك بالمكان.
للوهلة الأولى يشعر الزائر أنه مقام أحد الأولياء، وأن الكتلة الأسمنتية ضريحه، لكن أحد الأثريين أوضح أنه يوجد تحتها سرداب يمتد تحت الأرض عدة أمتار يقود إلى غرفة كبيرة.
أما سقف الغرفة فعبارة عن عروق خشبية بالكاد تحمي من الشمس لكنها بالتأكيد لا تحمي من مياه الأمطار، لأن السقف به ثقوب كثيرة سببها كما قال الأثري "لكي يهبط الضوء كل ليلة على سرير النبي يوسف بالسجن".
يشير الأثري إلى أنه لا يوجد دليل قطعي على وجود سجن يوسف، عليه السلام، في هذا المكان، لكن هناك عدة شواهد لذلك أبرزها بواقٍ من قصر العزيز، وحمام "زليخة" العائد تاريخهما للعصر الانتقالي الأول الذي يعود له نفس زمن السجن.
ليست مقبرة فرعونية..
يتردد على المكان من حين لآخر وفود أجنبية آخرهم وفد برازيلي جاء للزيارة الأسبوع الماضي، كما قال المرشد السياحي عمرو إبراهيم لـ"عربي بوست" مشيراً إلى أن المكان لم يكُن تحت حراسة وزارة الآثار والآن محمي بحراسة تابعة لها، وهناك بعثة روسية تعمل حالياً لتطوير منطقة ميت رهينة الأثرية بالكامل، فضلاً عن أن جهات عدة أجرت أبحاثاً داخل السجن، لكنها لم تصل إلى أنه مقبرة فرعونية، أو معبد فرعوني، لذلك رجحوا أن يكون سجن يوسف.
يستكمل الأثري: هناك وفود كثيرة من طلاب أزهريين يأتون لزيارة السجن فقط دون غيره من الآثار المنتشرة بالمنطقة، لكن أكثر من لفت انتباهه هم الإندونيسيون لأنهم يخلعون نعالهم بمجرد الدخول من السور الذي يحيط المكان ويسيرون مسافة كبيرة على الرمال الملتهبة وهم حفاة القدمين حتى يصلوا للحجرة التي تم بناؤها أكثر من مرة لكي تكون إشارة إلى وجود السجن في هذا المكان.
الزائرون يؤمنون بأن هذا المكان يستجاب فيه الدعاء ويكونون في خشوع تام للحصول على البركة والتضرع إلى الله، ويعرف المكان أيضاً سجن زاويرا، الذي سُجن فيه نبي الله يوسف بن يعقوب.
يقول مفتش آثار بمنطقة سقارة لـ"عربي بوست": "إلى الآن يأتي أهالي القرى المجاورة لـ"السجن" للزيارة والتبرك، وبعضهم جاء ليفي بنذر قطعه على نفسه لأن دعاءه استجيب له".
في الماضي كانت النذور عبارة عن شموع تضيء المكان كله في عتمة الليل، أما الآن فهناك من يأتي بمصابيح كهربائية وهناك من ينذر حصائر بلاستيكية لكي يجد الزائرون ما يجلسون عليه أثناء زيارتهم أو مصاحف يقرأون بها.
أساطير مثيرة وخرافات نسجها الأجداد عن بركة سجن "زاويرا" الذي سُجن فيه سيدنا يوسف، عليه السلام، رصدها "عربي بوست" عززت لدى الأجيال المتعاقبة الاعتقاد بأن المكان مبارك وله قدسية خاصة، منها أنه لا يحتمل وجود سقف فوقه، وكلما وضعوا سقفاً وجدوه ينهار من تلقاء نفسه بعد فترة، وعندما تم بناء سقف حديدي فوجئ الأهالي في اليوم التالي أن أسياخ الحديد نزعت من مكانها وتم طرحها أرضاً، وكأن هناك قوى خفية وراء ذلك، وإن كان ذلك بهدف السرقة من المؤكد أنهم لن يتركوا الحديد، ووجد الأهالي أن ذلك إشارة إلى أن المكان يحب دخول الضوء إليه وقاموا بعمل سقف مثقوب يدخل منه الضوء للسجن.
وهناك قصة متداولة بين الأهالي بأن لصوصاً سرقوا حيوانات فلاحين بالقرية وعندما مروا من أمام سجن سيدنا يوسف تعثرت خطاهم وثبتوا مكانهم، إلى أن تم إلقاء القبض عليهم، ومن وقتها لا يقترب اللصوص من المنازل الموجودة بمحاذاة السجن. وهناك من يزعم أن هناك ثعباناً يهاجم كل من يقترب من المكان بغرض التنقيب.
معجزة القبر المقدس..
يحكي أحد الأهالي أن المنطقة أثرية، وعندما يحاول المنقبون الحفر ويقتربون من السجن تحدث معجزة وتدفن الرمال المكان المحفور من تلقاء نفسها، حتى لا يقتربوا من السجن لأنه مكان مقدس.
يقول الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، إن سيدنا يوسف، عليه السلام، عندما دخل السجن، دخل معه خباز الملك وساقي الملك، وكان السجن المتواجدين به على درجة التوقيف وليس معتقلاً، ولا يوجد به عذاب أو تضييق؛ لكون عزيز مصر يعلم أن سيدنا يوسف، عليه السلام، بريء من التحرش بزوجة عزيز مصر السابق، فما حدث معه بمثابة إبعاد اجتماعي.
وكشف "جمعة"، خلال حواره ببرنامج "مصر أرض الأنبياء"، المذاع عبر قناة مصر الأولى، حقيقة تواجد سجن سيدنا يوسف في البدرشين، منوهاً إلى أن هذه رواية شعبية غير موثقة وملامح الوضع عليها بادية، وتم وضعها من أجل التبرك ووضع النذور بها، ولا يوجد أي شيء مؤكد على ذلك.
في النهاية، ربما تكون الأقاويل التي يتناقلها الأهالي دون إثبات وتداولتها الأجيال وراء الأخرى دون دراية هي خزعبلات، وربما تكون الأساطير التي نسجت حول المكان باعتباره سجن سيدنا يوسف سبوبة للبعض للحصول على مبلغ مالي من الزائرين مقابل التبرك بالمكان، لكنه في النهاية سيظل قبلة المحتاجين للدعم والملحّين فى الدعاء، حتى لو كان احتمال إثبات كونه السجن المقصود ضعيفاً.