تقع غويانا الفرنسية في شمال شرقي أمريكا الجنوبية، على ساحل المحيط الأطلسي؛ تبلغ مساحتها 83.846 كيلومتر مربع، وهي قريبة من بحر الكاريبي، كما أن 90% من أراضيها موجودة داخل غابة الأمازون، بحيث تحدّها من الشرق دولة سورينام، ومن الجنوب البرازيل.
و"غويانا" هي كلمة من لغة "أرواك"، إحدى أكبر قبائل السكان الأصليين للبلد، وتعني "المياه المتدفقة"، وذلك في إشارةٍ إلى كثرة الأنهار والوديان الموجودة فيها، وفقاً لموقع Entreprendre en guyane الفرنسي.
اكتشفها كريستوفر كولومبوس.. وتجاهلتها إسبانيا
اكتُشفت سواحل غويانا من طرف كريستوفر كولومبوس، للمرة الأولى، خلال رحلته الاستكشافية الثالثة، من دون أن يحط بها الرحال؛ قبل أن يدخل أراضيها لاحقاً القبطان الإسباني فيسانتي بنزو في عام 1500.
لم تهتم مملكة إسبانيا باستيطان غويانا وقتئذٍ، بسبب غاباتها الأمازونية الكثيفة وعدوانية سكانها، ما فتح المجال لقوى استعمارية أخرى لاحتلالها. فتقاسمتها كلّ من إنجلترا، وهولندا، وفرنسا، ونشأت بذلك 3 مستعمرات جديدة، هي: غويانا البريطانية، وغويانا الهولندية، وغويانا الفرنسية.
وفي عام 1604، تم الإعلان رسمياً عن جزءٍ من غويانا كمستعمرة فرنسية، من قِبل القبطان دانيال دو لا توش دو لا رافاردير، مُمثلاً عن الملك هنري الرابع، وأُطلق عليها في البداية اسم "فرنسا الاستوائية".
ثم بدأ الفرنسيون يستوطنون البلد في عام 1624، وقد بنوا فيها، بعد سنة، مدينة "كايان"، التي أصبحت العاصمة الحالية لـ"غويانا الفرنسية".
من جانبها، بدأت هولندا، في الفترة ما بين 1616 و1626، في إنشاء مستوطناتها الأولى بالجزء الذي احتلته من غويانا، فيما دخل البريطانيون إلى المنطقة لاحقاً في عام 1630.
وقعت عدة معارك وحروب قصيرة بين المستعمرات الثلاث لغويانا، انطلاقاً من تلك التي كانت تدور بين الدول الأوروبية الثلاث داخل القارة العجوز؛ كانت آخرها الحرب التي وقعت في مطلع القرن التاسع عشر، حين هاجمت القوات البريطانية، مع حليفتها البرتغالية، غويانا الفرنسية في عام 1809، رداً على غزو الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت للبرتغال في العام نفسه. فاحتلت البرتغال الجزء الفرنسي لغويانا، حتى منتصف عام 1814، أي بعد التنازل الأول لنابليون عن الحكم بفرنسا في أبريل/نيسان.
مستعمرة من "العبيد" الأفارقة
عندما بدأ الفرنسيون باستيطان غويانا في القرن السابع عشر، كان عدد السكان الأصليين للمنطقة قليلاً جداً، يُقدّر بحوالي 25 ألفاً، ويعيش معظمه في مناطق منعزلة. لذلك، وفي ظل نقص اليد العاملة، لجأت فرنسا إلى استحضار "العبيد" من إفريقيا للعمل على وجه التحديد في مزارع الكاكاو والبن. فتحولت غويانا شيئاً فشيئاً إلى مستعمرة من "العبيد".
لاحقاً وبعد قيام الثورة الفرنسية في 1789 وإطاحتها بالنظام الملكي، عاقب الحكام الجدد عدداً كبيراً من المعارضين السياسيين ورجال الدين الرافضين لمبادئ الثورة، من خلال نفيهم إلى غويانا.
وفي سنة 1794، قررت الجمهورية الفرنسية إلغاء نظام الرق، ولكن نابليون بونابرت، بعد وصوله إلى الحكم، إثر انقلابه العسكري عام 1799، قرر إعادة نظام الرق بمرسومٍ تنفيذي في ديسمبر/كانون الأول 1802.
لجأ سكان غويانا السود إلى الغابات، خوفاً من استعبادهم بالقوة، فاستقرّوا على ضفاف نهر ماروني.. ما أدى إلى نقصٍ كبير في اليد العاملة.
وفي عهد نابليون بونابرت، أو في الفترة التي احتلت فيها البرتغال غويانا (من 1809 إلى 1814)، لجأ الفرنسيون في المستعمرة إلى استيراد "العبيد" من إفريقيا، مرة أخرى، حتى إنهاء نظام الرق مجدداً، بعد إصدار الدستور الجديد للجمهورية الثانية في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1848.
تسبب إلغاء نظام العبودية بفرنسا ومستعمراتها إلى رحيلٍ جماعي لليد العاملة عن المزارع الشاسعة لغويانا، ما أدى إلى انهيار اقتصاد البلد. فقرر نابليون الثالث، حاكم فرنسا في ذلك الوقت، استبدال "العبيد" بآلاف السجناء المحكوم عليهم بالأعمال الشاقة في فرنسا؛ وذلك بعد بناء سجن كبير بمدينة "كيان" في عام 1854، وآخرَين في جزيرتي "الشيطان" و"سان لوران دي ماروني" عام 1858.
وحتى إغلاق تلك السجون سنة 1946، تمت الاستعانة بـ92 ألف سجين من فرنسا، من بينهم 2000 امرأة. وكان السجين، بعد انقضاء فترة عقوبته وعمله في الأعمال الشاقة، يبقى في غويانا ويُجبر على مواصلة العمل الشاق مقابل أجرٍ زهيد.
ويُقال إن ثلث عدد أولئك السجناء قد توفي في المعتقل، بسبب الظروف القاسية واللاإنسانية التي كانوا يعملون فيها، إضافةً إلى المعاملة العنيفة التي كانوا يتلقونها.
سجناء جزيرة الشيطان و"كيان".. أبطال فيلم Papillon!
وقد اشتهر سجنا "كيان" وجزيرة الشيطان من خلال عدة أفلام سينمائية عالمية، خلدت القصة الحقيقية لأحد السجناء الفارين من جحيم المعتقلين، ويُدعى هنري شاريير، كما رواها هو في كتابٍ على شكل سيرة ذاتية.
نُشر الكتاب في عام 1969 وحمل عنوان Papillon، أي "الفراشة"، وهو اللقب الذي كان يُطلق على هنري شاريير بسبب وشم الفراشة على صدره.
ويحكي شاريير -وهو مؤلف وكاتب سيناريو- في كتابه كيف تم ترحيله إلى معتقل "كيان" في عام 1933، بعد سنتين من الحكم عليه بالسجن مدى الحياة مع الأعمال الشاقة، بتهمة ارتكاب جريمة قتل، يقول إنه بريء منها، وكيف قام بمحاولات عدة للهرب قبل أن ينجح في الأخير، مع 4 سجناء، في مارس/آذار 1944.
نجح شاريير بالوصول إلى دولة فنزويلا، التي لم تكن تعيد السجناء الهاربين إليها من المعتقلات الفرنسية، وقتئذٍ. فأصبح مواطناً فنزويلياً في سنة 1956، ثم عاد إلى فرنسا في العام 1967 بعد العفو عنه، وألف كتابه الشهير؛ ليُصبح واحداً من أكثر الشخصيات المطلوبة إعلامياً، حتى وفاته بالعاصمة الإسبانية مدريد، في يوليو/تموز 1973.
الكتاب تحوّل إلى فيلم في العام 1973، وحضر هنري شاريير تصويره كما تمكن من مشاهدة "Papillon" قبل وفاته، من إخراج الأمريكي فرانكلين جيمس شافنر، وتمثيل ستيف ماكوين وداستن هوفمان.
وفي عام 2017، أُنتج فيلم آخر من إخراج مايكل نوير، يحمل العنوان نفسه ويروي قصة شاريير أيضاً في المعتقل، وكيفية هروبه منه بعد عدة محاولات باءت بالفشل.
الفيلم حقق نجاحاً هوليودياً كبيراً، وعُرض في جميع أنحاء العالم؛ لكن مشهد الهروب الأخير تم تعديله، بحيث ظهر في الفيلم أن شاريير هرب من جزيرة الشيطان، في حين أنه نجح بالفرار من مركز غابي في الحقيقة.
سكان غويانا لم يُطالبوا بالاستقلال ورفضوا الحكم الذاتي
أُغلقت المعتقلات في الجزيرة بشكلٍ نهائيٍ في عام 1946، بعدما أصبحت غويانا رسمياً إقليماً فرنسياً لما وراء البحار، ولا زالت كذلك إلى يومنا هذا. لم يُطالب سكانها يوماً بالاستقلال، كما رفضوا الحكم الذاتي، الذي عُرض عليهم في استفتاءٍ جرى يوم 10 يناير/كانون الثاني 2010.
نسبة 70.22% صوّتت بـ"لا"، ضد الحكم الذاتي، من إجمالي المصوّتين البالغ عددهم 32.486 ناخب، من أصل 67.460 مسجل.
وبخلاف ذلك، فإن غويانا البريطانية استقلت عن بريطانيا في عام 1966، وأضحت تُسمى "غويانا"، كما نالت غويانا الهولندية استقلالها سنة 1975، وأصبح اسمها سورينام.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعدما أصبحوا مواطنين فرنسيين رسمياً في عام 1946، سعت فرنسا إلى تحسين المستوى المعيشي لسكان غويانا. وقد ازداد اهتمام الحكومة الفرنسية بالمستعمرة، لما اختارها الجنرال ديغول في عام 1964 لإنشاء مركز علمي كبير، وهو مركز غويانا الفضائي الموجود بمدينة "كورو".
أدى إنشاء هذا المركز إلى تطور كبير في النشاط الاقتصادي لغويانا، من خلال إنجاز طرق جديدة ومستشفيات ومدارس، وبالتالي خلق فرص عملٍ جديدة. وتطور كل ذلك أكثر في تسعينيات القرن الماضي، مع دخول غويانا، بصفتها إقليماً فرنسياً، إلى الاتحاد الأوروبي، واتخاذ مركز "كورو" كمحطةٍ لإطلاق صواريخ وكالة الفضاء الأوروبية.
وبحكم أنّ غويانا أصبحت جزءاً من الاتحاد الأوروبي، وارتفع مستوى المعيشة بها مقارنةً بالدول المجاورة، فإنّها جذبت المهاجرين من البرازيل وسورينام في أمريكا الجنوبية، إضافةً إلى هايتي بالبحر الكاريبي.
ووفقاً لإحصائيات موقع L'aménagement linguistique dans le monde الكندي، فقد ارتفع عدد سكانها إلى نحو 297 ألف نسمة في يناير/كانون الثاني 2020، من بينهم 1500 لبناني، بعدما كان العدد الإجمالي للسكان يُقدر بـ33 ألفاً فقط في عام 1961 و160 ألفاً في 1999.
اليوم، يتمركز معظم السكان في المدن الواقعة على ساحل المحيط الأطلسي، فيما يعيش السكان الأصليون "الهندو أمريكيين"، والمُقدَّر عددهم بين 6 و9 آلاف، داخل محمياتٍ في الغابات الأمازونية وعلى ضفاف الأنهار. وعلى الرغم من أنّ غويانا الفرنسية تُعتبر غنية، مقارنةً بالدول المجاورة لها، إلّا أنها فقيرة بالمقياس الأوروبي.. ما يمنحها حق الاستفادة من إعانات الاتحاد الأوروبي، مثلها مثل جزر ماديرا البرتغالية، وجزر الكناري الإسبانية في المحيط الأطلسي، بحسب موقع Open Edition journal الفرنسي.