قبل بداية "حرب استقلال كوبا" عن مملكة إسبانيا في عام 1895، والتي استمرت 3 سنوات، شهدت الجمهورية الكوبية انتفاضات وثورات عدّة من سكان الجزيرة. ويمكن القول إن الحرب الكبرى، التي دامت 10 سنوات كاملة، كان لها تأثيرٌ كبير على استقلال الدولة فيما بعد.
قاد "حرب السنوات العشر" (1868-1878) كارلوس مانويل دي سيسبيديس، وهو مالك مزرعة قصب سكّر وأحد أحفاد المستوطنين، بجيشٍ من "العبيد" المزارعين، قبل أن ينضمّ إليهم سكّان أثرياء آخرون.
تُعرف هذه الحرب أيضاً بـ"الحرب العظمى" و"حرب 68″، وكانت جزءاً أساسياً من معركة تحرير كوبا.. ولسنا نبالغ لو قلنا إنها كانت بمثابة الحرب الحقيقية، التي مهّدت لاستقلال البلاد عن إسبانيا، ما جعل الكوبيين يطلقون على دي سيسبيديس اسم "أبي الوطن".
تقع جمهورية كوبا عند التقاء البحر الكاريبي، في المحيط الأطلسي، بمدخل خليج المكسيك، على بعد 208 كيلومترات شمال شبه جزيرة "يوكاتان" المكسيكية، و212 كيلومتراً جنوب شرق شبه جزيرة فلوريدا الأمريكية.
وتتكون الجمهورية من جزيرتَي كوبا وجوفنتود، إضافةً إلى 4095 جزيرة صغيرة. عدد سكانها 11 مليون و330 ألف نسمة، بحسب آخر إحصاء رسمي أُجري في عام 2020، ويتمركز أغلبهم في جزيرة كوبا، حيث تقع عاصمة البلد "هافانا".
كوبا.. مستعمرة إسبانية اكتشفها كريستوف كولومبوس
بدأ التأريخ لكوبا بعدما اكتشفها كريستوف كولومبوس يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول 1492، خلال رحلته الأولى نحو أمريكا أو الهند الغربية حسبما كان يعتقد. فأطلق على الجزيرة اسم "خوانا"، نسبةً إلى "دان خوان" الطفل الوحيد للعاهلين الإسبانيين، الملكة إيزابيلا والملك فرديناند، اللذين موّلا رحلته.
عاد كولومبوس إلى استكشاف كوبا أكثر، خلال رحلته الثانية في أواخر عام 1493، من دون أن يحطّ الرحال بها. فقد استقرّ في أكبر جزر الأنتيل، وهي الجزيرة التي سماها "هسبانيولا"، وتضمّ حالياً دولتَي هايتي وجمهورية الدومينيكان.
غادر كولومبوس الجزيرة في 20 أبريل/نيسان 1496، بعدما ترك نحو 700 مستوطنٍ فيها، لينشئ بذلك أول مستعمرة في منطقة الكاريبي. ومن هيسبانيولا، انطلقت حملة استكشافية وعسكرية نحو جزيرة كوبا في عام 1511، ضمّت 300 رجل على متن 4 سفن، بقيادة دييغو فيلاسكيز وبأمر من دييغو كولومبوس، ابن كريستوف، الذي ورث عن والده منصب "حاكم بلاد الهند".
استولى فيلاسكيز على جزيرة كوبا بعد مقاومة ضعيفة من سكانها الأصليين، وبعدما قام بحرق أشرس زعماء القبائل وهو حي، بحسب موقع infotravel الفرنسي.
أصبحت كوبا مستعمرة إسبانية بشكلٍ رسميٍ في عام 1511، وتمّ تعيين دييغو فيلاسكيز حاكماً لها.. فبنى أول مدينة في عام 1512، وسمّاها "باراكوا"، قبل مدينة "هافانا" في 1514.
كيف انتشر "العبيد" في كوبا؟
سرعان ما تناقص عدد السكان الأصليين لكوبا، وهم من قبائل "تاينوس" و"سيبونيس" و"كاليناغوس"، بسبب همجية المستعمر والأمراض التي جلبها الجنود الإسبان من أوروبا. فلجأ الحاكم فيلاسكيز إلى استيراد "العبيد" من إفريقيا واستغلّهم في الأشغال الشاقة، وتحديداً في مناجم الذهب والمزارع الواسعة التي بدأت تتكاثر في الجزيرة، والذي كان هو شخصياً واحداً من كبار مالكيها حتى وفاته في عام 1524.
مع مرور السنين استُحدثت طبقة من كبار مُلاك مزارع قصب السكر والبن والتبغ، وأصبحوا يشكّلون ما يُعرف بـ"لوبي" خاص، له كلمته في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمستعمرة الإسبانية.
ازداد عدد "العبيد" بشكلٍ رهيبٍ، حيث بلغ ما يقارب 3 ملايين شخص. وإضافة للذين تمّ استحضارهم إلى كوبا بشكلٍ مباشر من إفريقيا، فقد دخلها عشرات الآلاف الآخرين رفقة "أسيادهم" الفرنسيين، الذين لجؤوا إليها بعد اندلاع الثورة الهايتية في أغسطس/آب 1791.
انتفاضتان لـ"العبيد" سبقتا حرب السنوات العشر
في ظلّ الظلم والبؤس الذي اختبروه بشكلٍ يومي، على الرغم من مساهمتهم الفعالة في تطور اقتصاد المستعمرة، التي كانت في مطلع القرن التاسع عشر من أكبر منتجي ومصدّري مادتَي السكر والبن في العالم؛ كان من المنطقي أن ينتفض "العبيد" في كوبا.
بدأت الانتفاضة الأولى في 5 يناير/كانون الثاني 1812، بقيادة خوسيه أنطونيو أبونتي؛ كان "عبداً مُحرّراً"، لكن الثورة لم تلبث أن تبدأ حتى أُلقي القبض على قائدها ومساعديه المقرّبين، فأُعدموا بساحةٍ عمومية في هافانا.
انتفاضة "العبيد" الثانية بدأت عام 1844 في مدينة ماتانزاس، قُتل على أثرها نحو 3 آلاف ثائر، فيما سُجن آلافٌ آخرون. وقد اندلعت هذه الثورة بعدما رفض الحاكم العام لكوبا الموافقة على عريضة، وقّع عليها 94 مالك مزرعة، يطالبون فيها بإنهاء العبودية في البلاد.
لم يأتِ طلب أصحاب المزارع لإنهاء العبودية، من باب الإنسانية، بل من أجل مصالح شخصية واقتصادية محضة. فقد جاء من ضمن مُبررات الطلب، ارتفاع سعر "العبيد" في السوق والتكلفة الكبيرة التي تلزم العناية بهم وحراستهم.
وفي الفترة التي سبقت ثورة 1868، كانت معظم المستعمرات الإسبانية في أمريكا الجنوبية والوسطى والبحر الكاريبي قد أعلنت استقلالها، لكن كوبا بقيت وفية للملكة حتى تدهورت الأحوال المعيشية بسبب كثرة الضرائب التي فرضتها إسبانيا على أصحاب المزارع ورجال الأعمال والسلع المصدّرة والمستوردة.
وفي 10 أكتوبر/تشرين الأول 1868، أعلن مالك مزرعة ومطحنة قصب السكر "كارلوس مانويل دي سيسبيديس" وأتباعه الاستقلال، وهكذا بدأ الصراع الذي استمرّ 10 سنوات، وعُرف باسم "حرب السنوات العشر".
حرب السنوات العشر
إضافةً إلى كونه صاحب مزرعة ومطحنة، كان كارلوس مانويل دي سيسبيديس محامياً. وفي 10 أكتوبر/تشرين الأول 1868 حرّر "عبيده" ومنحهم السلاح، وتبعه بعد ذلك 37 من كبار مالكي المزارع. أعلنوا جميعهم تمرّدهم على الإدارة الإسبانية لكوبا، كما أعلنوا استقلال البلاد عن إسبانيا.
التحق بقادة جيش دي سيسبديس، بعد يومين من إعلان الثورة، الشقيقان أنطونيو وخوسيه ماسيو، وهما من "العبيد المُحرّرين" اللذين وُلدا من أبٍ فنزويلي حر. ووفقاً لموقع Herodote الفرنسي، انضمّ إلى الانتفاضة المنفيون الدومينكيون بقيادة ماكسيمو لوبيز.
ومع تواصل القتال ضد القوات الإسبانية، اجتمع كبار القادة المتمرّدين يوم 10 أبريل/نيسان 1869 في مدينة غييارمارو، وشكّلوا مجلساً تأسيسياً لتحضير الدستور الأول لجمهورية كوبا، وانتخبوا كارلوس مانويل دي سيسبيديس رئيساً للبلاد.
حاول الإسبان، الذين كانوا على علم بتعنّت سيسبيديس المناهض للاستعمار، إجباره على الاستسلام من خلال سجن ابنه أوسكار. ووفقاً لكتاب "كوبا: بين الإصلاح والثورة"، الذي صدر في العام 1988، فإنه حين رفض سيسبيديس التفاوض مع الإسبان، أُعدِم ابنه.
أبرز إنجازات حرب السنوات العشر
في 27 فبراير/شباط 1874 توفي دي سيسبيديس خلال معركة سان لورانزو، فخلفه العبد المُحرّر أنطونيو ماسيو، وقاد جيش الثوار، من دون أن يُنتخب رئيساً للجمهورية.
وعلى الرغم من الدعم السياسي الذي تلقاه الثوار الكوبيون من قِبل دول جنوب أمريكا الجنوبية، وعلى رغم التضحية بأكثر من 200 ألف شخص، إلا أن حرب السنوات العشر انتهت من دون تحقيق هدف الاستقلال.
فقد وافق جزءٌ كبير من قادة الثورة وجنودهم على وقف القتال وقبول عرض الحاكم العام الإسباني الجديد لكوبا، إرنستو مارتينيز كامبوس، بالعفو عن المتمرّدين والبدء بإصلاحاتٍ سياسية واجتماعية في البلاد، مقابل وضع السلاح.
وقد تمّ ترسيم وتوثيق العرض في اتفاقٍ بين رئيس جمهورية كوبا المؤقتة، فيسانتي غارسيا، والحاكم العام الإسباني لكوبا في 10 فبراير/شباط 1878، وسُمّي بـ"ميثاق زانخون".
ومن أبرز ما تضمنه هذا الميثاق:
- تحرير "العبيد" الذين كانوا في جيش الثوار.
- الاعتراف بالحكومة الإسبانية كأكبر هيئة حاكمة في كوبا.
- حرية الصحافة وعقد الاجتماعات شرط عدم الدعوة لمهاجمة إسبانيا.
- الترخيص بإنشاء الأحزاب السياسية التي لا تدعو إلى محاربة النظام الإسباني.
لم يعترف الجنرال ماجور أنطونيو ماسيو بتلك الاتفاقية، ورفض وضع السلاح رفقة الجنود الذين بقوا تحت إمرته، فقام بإعلام الحاكم كامبوس استعداده لاستئناف القتال في حال عدم تغيير بنود الاتفاق وإنهاء نظام العبودية بشكلٍ نهائي.
وقد نفّذ أنطونيو ماسيو تهديداته بالفعل، وعاد لقتال القوات الإسبانية، في 24 أغسطس/آب 1879 حتى سبتمبر/أيلول 1880، حين هرب من البلاد ولجأ إلى كوستاريكا.. وذلك بعد الإجهاد الكبير الذي نال من جنوده، في حربٍ يُطلق عليها الكوبيون اسم "الحرب الصغيرة"، مقارنةً بـ"حرب السنوات العشر".
حرب الاستقلال بمساعدة الولايات المتحدة
لجأ أنطونيو ماسيو إلى هايتي، ثم جامايكا فكوستاريكا، التي استقرّ بها قبل أن يعود إلى كوبا في عام 1895 للمشاركة في حرب الاستقلال التي قادها الفيلسوف والشاعر خوسيه مارتي (مؤسّس الحزب الثوري الكوبي)، في 24 فبراير/شباط من العام نفسه.
وتلقى الثوار الكوبيون في حرب الاستقلال مساعدة عسكرية أمريكية كبيرة بالسلاح والجنود، ما أسهم في ترجيح الكفة لصالحهم وإجلاء القوات الإسبانية من الجزيرة في 1898.
وبقيت كوبا تحت الادارة الأمريكية بشكلٍ مؤقت قبل أن تستقل رسمياً في 20 مايو/آذار 1902، لكن الولايات المتحدة احتفظت بقاعدتها العسكرية "غوانتانامو" في جنوب شرق الجزيرة والمساحة الأرضية المحيطة بها تحت سيادتها، مقابل مبلغ 2000 دولار سنوياً، الذي ارتفع إلى 4085 دولار في عام 1934.