كانت النار الإغريقية سائلاً حارقاً ومدمّراً، استخدمته الإمبراطورية البيزنطية للدفاع عن نفسها ضد أعدائها، كسلاحٍ في حروبها البحرية منذ القرن السابع، بهدف إشعال النار على سفن العدوّ.
استخدم البيزنطيون هذا المُركَّب، الذي يعود إلى عام 674، لصدّ الفتح العربي لسنوات؛ ورغم أنها لم تكن أول سلاحٍ حارق عبر التاريخ، إلا أن النار الإغريقية كانت الأكثر أهمية لناحية فعاليتها.
وما يثير الإعجاب حقاً بشأن النار الإغريقية هو أن الجيوش التي استولت على الخليط السائل فيما بعد، لم تتمكن من إعادة تركيبه، كما فشلت أيضاً في إعادة إنشاء الآلة التي تُطلقه. وحتى يومنا هذا، لا أحد يعرف بالضبط ما هي المكونات الرئيسية لهذا الخليط الكيميائي.
النار الإغريقية.. سلاح قديم فتّاك
كانت النار الإغريقية عبارة عن سائلٍ ابتكرته الإمبراطورية البيزنطية، والتي كانت النصف الشرقي الباقي من الإمبراطورية الرومانية والناطق باللغة اليونانية.
يُطلق على السلاح أيضاً اسم "نار البحر" و"النار السائلة"، من قِبل البيزنطيين أنفسهم، وتنبعث من سلاحٍ يرمي اللهب بعد أن تُسخَّن وتُضغَط، ومن ثم توصَّل عبر أنبوبٍ يُسمى "سيفون".
استُخدِمَت هذه النار بشكلٍ أساسي لإشعال النار في سفن العدو من مسافةٍ آمنة. لكن ما جعل السلاح فريداً وفعالاً للغاية هو قدرته على الاستمرار في الاحتراق حتى فوق سطح المياه، ما منع المقاتلين الأعداء من إخماد النيران أثناء الحروب البحرية. وترجح بعض المصادر أن ألسنة اللهب كانت تشتعل بقوةٍ أكبر عند ملامستها المياه، ما أعطاها طابعاً سحرياً.
وأكثر.. كانت النار الإغريقية عبارة عن سائلٍ خليطٍ يلتصق بكلّ ما يلمسه، سواء كان سفينة أم إنساناً، ولم يكن هذا الخليط ينطفئ إلا بواسطة واحدٍ من أغرب الخلطات: الخلّ الممزوج بالرمل، والبول القديم!
اختلاف حول أصول مخترع النار الإغريقية
يتفق المؤرخون على أن النار الإغريقية اختُرعت بحدود عام 670، على يد مهندسٍ يُدعى كالينيكوس، ولكنهم يختلفون على أصوله. ففي حين تذكر موسوعة ويكيبيديا أنه فينيقي وتعود جذوره إلى مدينة بعلبك اللبنانية، يُشير موقع ati الأمريكي إلى أنه كان يهودياً هرب من سوريا إلى القسطنطينية، بسبب مخاوفه من استيلاء العرب على مدينته.
ووفقاً لموقع Everything Everywhere، فقد تمّ إحضار النار الإغريقية إلى القسطنطينية من هليوبوليس في مصر، بعدما هرب كالينيكوس إلى الرومان إثر غزو مصر ومعظم الشرق الأوسط من قِبل القوات العربية التي كانت تحتل المنطقة.
وبحسب الرواية، حاول كالينيكوس مع مجموعة متنوعة من المواد، قبل أن يكتشف المزيج المثالي لسلاحٍ حارق، ثم أرسل الصيغة النهائية إلى الإمبراطور البيزنطي. وبمجرد أن تمكنت السلطات من وضع يدها على جميع المواد، قاموا بتطوير "سيفون" يعمل إلى حدٍّ ما مثل حقنة، كانت تدفع النيران القاتلة نحو سفينةٍ معادية.
لم تكن النار الإغريقية فعالة بشكلٍ لا يُصدق فحسب، بل كانت مخيفة أيضاً، لأنها كانت تنتج ضوضاء صاخبة وكميات كبيرة من الدخان، تشبه إلى حدٍّ كبير أنفاس التنين. وبسبب قوتها المدمرة، كانت طريقة صنع السائل، الذي يُطلق ويسبّب نيراناً مشتعلة، سراً شديد الحراسة. الطريقة كانت معروفة فقط لعائلة كالينيكوس، والأباطرة البيزنطيين، وقد انتقلت من جيلٍ إلى جيل.
لكن عندما تمكن الأعداء من وضع يدهم على النار الإغريقية، لم يكن لديهم أي فكرة عن كيفية إعادة إنشاء تركيبتها الخاصة. ولعلّ ذلك هو السبب الرئيسي في ضياع سرّ النار الإغريقية في النهاية.
النار الإغريقية.. المنقذ البيزنطي
كان السبب المحتمل لاختراع كالينيكوس للنار اليونانية بسيطاً؛ منع أرضه الجديدة من السقوط في أيدي العرب. ولهذه الغاية، استُخدِمَ الاختراع للمرة الأولى من أجل الدفاع عن القسطنطينية ضدّ الغارات البحرية العربية.
استخدم البيزنطيون النار الإغريقية للمرة الأولى في معركة "سيلايوم البحرية"، عندما حاصر الأمويون المسلمون القسطنطينية فيما يُعرف بـ"حصار القسطنطينية" بين عامَي 674 و678، خلال حملةٍ أرسلها معاوية بن أبي سفيان، بقيادة ابنه يزيد، لمحاولة فتحها.
كانت النار الإغريقية سلاحاً ناجحاً أيضاً، خلال حصار العرب الثاني للقسطنطينية بين عامَي 717 و718، ما تسبّب مرة أخرى في أضرارٍ جسيمة للبحرية العربية.
استمر استخدام السلاح من قبل الإمبراطورية البيزنطية لمئات السنين، ليس فقط في النزاعات مع الغرباء ولكن أيضاً في الحروب الأهلية. ومع مرور الوقت، لعب السلاح دوراً مهماً في استمرار بقاء الإمبراطورية البيزنطية.
حتى إن بعض المؤرخين يجادلون بأنه كان للنار اليونانية دورٌ فعال في إنقاذ الحضارة الغربية بأكملها من غزو واسع النطاق، من خلال حماية الإمبراطورية البيزنطية لعدة قرون.
إعادة تكوين التركيبة
أُجرِيَت تجارب من أجل إعادة تكوين تركيبة النار الإغريقية من قِبل العديد من الأشخاص على مرّ القرون. حتى إن هناك بعض السجلات التاريخية للعرب أنفسهم، الذين استخدموا نسختهم من السلاح ضدّ الصليبيين، خلال الحملة الصليبية السابعة في القرن الثالث عشر.
وبالنسبة للأشخاص الآخرين الذين عانوا من قوتها الرهيبة، مثل العرب والبلغار والروس، كان الاسم الأكثر شيوعاً هو "النار الرومانية"، حيث كان البيزنطيون استمراراً للإمبراطورية الرومانية.
لكن أياً من تجارب المحاكاة لم تكن ترقَ إلى المستوى الحقيقي الأساسي. حتى يومنا هذا، لا أحد يعرف بالضبط ما الذي صنع هذا السلاح القوي وما هي تركيبته الأصلية. لكن بعض الترجيحات تُشير إلى أنه مكوّن من الكبريت و"راتنج الصنوبر"، وهو مادة مانعة للتسرّب كانت تُستخدم في العصور القديمة لمعالجة الشقوق في الكبائن الخشبية وإطارات النوافذ.
كذلك كان النفط من المكونات الأساسية التي استُخدِمت في النار الإغريقية؛ ورغم أنه يكاد يكون من المستحيل تأكيد التركيبة الحقيقية، إلا أن بعض المصادر ترجح أن "الجير الحي" كان جزءاً رئيسياً من الخليط، لأنه يشتعل في الماء.
لا يزال لغز النار اليونانية يأسر المؤرخين والعلماء، الذين ما زالوا يحاولون معرفة تركيبتها. كما أنها أسرت جورج مارتن، الذي استخدمها على الأرجح كمصدر إلهام لحرائق الغابات في كتبه عن سلسلة Game Of Thrones.
سلاح حرائق الغابات هو في الأساس نسخة Westeros من سلاحٍ نووي، لا توجد طريقة للسيطرة على أضراره الجانبية. وقد أثبتت سيرسي لانيستر أنها عدوة لا يُستهان بها إطلاقاً حين استخدمت النار لإبقاء أعدائها في مأزق، وانتهى بها الأمر إلى الانغماس الكامل في المعركة ضدّ Night King، لا سيما أنها تمتلك سلاحاً لا يُقدّر بثمن.
ولكن بغض النظر عن كيفية صنعها وأساس تركيبتها، هناك شيءٌ واحد مؤكد: كانت النيران الإغريقية واحدة من أكثر الاختراعات العسكرية تأثيراً في تاريخ البشرية.