"لقد حاربنا في معارك عبر البحار، وكان بعضهم شجعاناً بواسل وبعضهم لم يكن كذلك، غير أن البجا كان أروعهم، محاربكم محارب من الطراز الأول، أهدي لكم هذه الكلمات المخلصة لكم ولوطنكم السودان".
هذه الكلمات كانت من قصيدة تحمل اسم Fuzzy-Wuzzy، للأديب الإنجليزي روديارد كبلنغ الحائز على جائزة نوبل في الأدب، كتبها في شعب البجا نهاية القرن التاسع عشر، وتغنى بها في البجاوي ذي الشعر الأشعث، يصف فيها بسالتهم وطريقة قتالهم التي لم يرَ الجنود الإنجليز مثلها، ويصف هؤلاء المقاتلين الذين ينتمون إلى شعب عريق، فمن شعب البجا؟
شعب البجا.. شعب عمره آلاف السنين
يسكن شعب البجا في منطقة كبيرة تمتد حدودها من أسوان في مصر حتى مصوع في إريتريا، تضم مدينة سواكن، وعدة مناطق في السودان، أتوا إليها منذ أكثر من 4 آلاف عام قبل الميلاد.
إذ تحدث المؤرخون عن أصلهم، واختلفت الآراء حول المناطق الأصلية التي جاؤوا منها، بين اليمن والجزيرة العربية ثم عبروا البحر الأحمر واستقروا في شرق إفريقيا بين النيل والبحر، أم أنهم جاءوا من مصر، ولكن اتفقت العديد من المصادر على أن نسلهم يعود إلى كوش بن حام بن نوح، وهاجروا إلى تلك المنطقة بعد طوفان سفينة نوح، كما أورد الإنجليزي أندرو بول في كتابه "تاريخ قبائل البجا بشرق السودان".
يقول المؤرخ أبو الحسن المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" إن شعوب البجا نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر، وتشعبوا فرقاً، وملَّكوا عليهم ملكاً، وفي أرضهم معادن الذهب، وهو التبر، ومعادن الزمرّد، وتتصل سراياهم ومناسرهم على النُّجُبِ إلى بلاد النوبة.
ويضيف المسعودي أنه بعد ظهور الإسلام وانتشاره بفترة، سكن في تلك الديار مجموعات من العرب من ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، فاشتدت شوكتهم، وتزوجوا من البجا، فقويت البجا بمن صاهرها من ربيعة، وقويت ربيعة بالبجا على ما ناوأها وجاورها من قحطان وغيرهم من مضر بن نزار ممن سكن تلك الديار.
أما الرحالة الشهير ابن بطوطة فقد زار سكان البجا ووصف زيارته بقوله: "وصلنا إلى مدينة عيذاب (ميناء على ساحل البحر الأحمر في مثلث حلايب) وهي مدينة كبيرة كثيرة الحوت واللبن، ويحمل إليها الزرع والتمر من صعيد مصر، وأهلها البجاة، وهم سود الألوان يلتحفون بملاحف صفراء، ويشدون على رؤوسهم عصائب يكون عرض العصابة أصبعاً وهم لا يورثون البنات. وطعامهم ألبان الإبل، ويركبون المهاري، ويسمونها الصهب.
بعض البجا يتحدثون لغة كوشية يسمونها إلى البدوي، والبعض الآخر يتحدث تيغري، كما يتحدث الكثيرون أيضاً اللغة العربية. وقد تحول العديد منهم إلى المسيحية في القرن السادس، ولكن معظمهم أصبحوا مسلمين منذ القرن الثالث عشر، حين بدأ الكثير من أبناء القبائل العربية يأتون ويستقرون فيها من الجزيرة العربية، ثم تحول جميعهم إلى الإسلام في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
فيما تتكون القومية البجاوية من عدة قبائل كبيرة على رأس كل واحدة منها ناظر، ومن القبائل، الهدندوة، الأمرار، البني عامر، الحلنقة، البشاريين، الأشراف، الارتيقة، الشياياب، العبابدة، الكميلاب والملهيتنكناب.
البجا تحت حكم العثمانيين ومصر العلوية
في منتصف القرن السادس عشر، وصلت الدولة العثمانية إلى سواحل إريتريا، وسيطروا على مدينة مصوع وما حولها، وأديرت هذه المنطقة باسم إيالة الحبشة، ولكن التوسع العثماني في تلك المنطقة بقي محصوراً مكتفياً على بعض الأماكن الاستراتيجية التي يسكنها البجا، ولم تستطع فرض نفوذها بشكل تام على تلك المنطقة التي كانت تكثر فيها الثورات، والتدخلات الأجنبية من البرتغال أو إثيوبيا.
عام 1821، استطاع محمد علي الكبير ضم السودان بعد سنوات من تثبيت حكمه ودولته الجديدة في مصر، لأجل الاستفادة من ثروات السودان، وقد أصبح السودان النيلي من النوبة إلى التلال الإثيوبية ومن نهر عطبرة إلى دارفور جزءاً من إمبراطورية محمد علي.
وقد لاقى تمردات من بعض قبائل البجا، وأصبح السودان يعاني من وطأة الضرائب التي كانت تفرضها الحكومة المصرية على السودانيين، وتمييزها بين الفقراء والأغنياء. كما عانى الشعب السوداني من التعامل العنيف من حكومة المصريين، وتشريدها لكل من يعترض وينكر على الحكومة أفعالها.
استمر حكم الأسرة العلوية للسودان مستتباً حتى عهد الخديوي إسماعيل عام 1863، الذي عمل على مواصلة السياسة التوسعية في الجنوب، مستعيناً بالإنجليز لمساعدته في وضع أساس الهيمنة المصرية على المناطق الاستوائية وسط إفريقيا، وأخذت الأوضاع تأخذ منحى سيئاً إلى أن تسلم الخديوي توفيق الحكم عام 1879 بدلاً عن إسماعيل الذي أرغم على التنحي، لتزداد الاضطرابات في مصر والسودان، وخاصة مع التدخل الإنجليزي في الشؤون الداخلية المصرية، والذي انتهى باحتلال مصر عام 1882.
خلال تلك الظروف المضطربة، التي كان يمر بها السودان ككل، ظهر أحد مشايخ الطرق الصوفية في السودان، في جزيرة أبا، وهو محمد أحمد الذي سرعان ما ذاع صيته في السودان وتوافد إليه المريدون الكارهون للأوضاع الحالية، مطالبين بالتغيير على ظهور المهدي المنتظر.
قبائل البجا.. شعلة الثورة المهدية في السودان
في عام 1881، تحمل محمد أحمد تلك الدعوى على عاتقه، وادعى بأنه المهدي المنتظر، خاصة أن الكثير من مريديه ظنوا فيه ذلك، وبذلك أصبح يلقِّب نفسه منذ ذلك الوقت بـ"محمد أحمد المهدي"، ليعلن قيام الثورة المهدية، ثائراً على الحكم الإنجليزي-المصري، لينضم إليه الكثير من شعب البجا وعلى رأسهم عثمان دقنة من قبيلة الهدندوة، الذي بدأ بخوض معارك بسيطة هُزم في فيها بادئ الأمر.
ثم في بداية عام 1884، حاصرت قوات الجيش البجاوي بقيادة عثمان دقنة القوات المصرية في مدن طوكر وسنكات وسواكن في السودان على البحر الأحمر، لتنطلق قوة بريطانية مصرية تبلغ 3500 مقاتل بقيادة فالنتاين بيكر، المشهور باسم بيكر باشا، متجهة نحو مدينة طوكر بالسودان، وعندما وصلوا إلى آبار التيب هاجمها جنود البجا البالغ عددهم 1200 رجل.
وعن هذه المعركة، قال الإنجليزي أندرو بول في كتابه "تاريخ قبائل البجا بشرق السودان" إن جيش البجا أباد جميع جيش بيكر، الذي فقد 2500 من رجاله بين قتيل وجريح، و3000 بندقية تركها رجاله من حالة الفزع أثناء المعركة أمام جنود البجا الذين تسلحوا بالأسلحة التقليدية كالسيوف والدروع والحراب، وبعضهم تسلح فقط بالعصي.
سيطر جيش عثمان دقنة على مدينة سكنات، وأثارت هزيمة بيكر الرأي العام في إنجلترا، وعلى إثرها تحركت الحكومة البريطانية لاتخاذ تدابير عسكرية أكثر صرامة ضد شرق السودان، وأرسلت في شهر مارس عام 1884 الجنرال غراهام إلى سواكن على رأس جيش مكون من 4000 جندي.
ببساطة، كانت مهمة السير جيرالد جراهام كسب ثقة الشعب البريطاني بجيشه الاستعماري في السودان، فذهب بجيشه المنظم لتأديب قبائل البجا الذين لم يكن لديهم أسلحة حديثة بالمطلق، فالتقى بجيش دقنة عند التيب مرة أخرى، وكانت الكلمة هذه المرة للأسلحة الحديثة في يد الجنود الإنجليز الذين قتلوا من البجا 1500 محارب.
ونقل أندرو بول في كتابه شهادة أحد الجنود الإنجليز المشاركين في المعركة قوله: "المقاومة الحقيقية كانت من البجاويين المسلحين بالرماح، حيث كانوا يوجهون رماحهم بدقة متناهية وفي الوقت المناسب نحو الخيول، ما يقود إلى تعطيلها أو قتلها".
معركة تأماي.. حين كسر البجاويون المربع الذهبي البريطاني
قرر غراهام العودة إلى سواكن، وفي تلك الأثناء أصدر لجنوده الأمر بتمشيط منطقة حول تأماي (تبعد 8 كيلومترات عن سواكن)، وأثناء مرورهم بتلك المنطقة باغتهم البجاويون، من خلال الشجيرات التي تغطي تلك المنطقة وقضوا على جزء من جيشه في هجمة بطولية استخدموا فيها السيوف.
استطاع جيش عثمان دقنة كسر المربع الذهبي البريطاني في معركة تأماي التي خاضها في شرق السودان في 13 مارس/آذار 1884، عندما اعتمد أسلوب المفاجأة؛ وذلك أنهم انقضوا على البريطانيين في هجمة سريعة أربكتهم، وحولت المعركة لمواجهات فردية بين الجنود، فاستخدموا بالأيدي والأسلحة البيضاء دون تكتيكات حربية، قتل فيها أكثر من 120 بريطانياً، مقابل 4000 من البجاويين بين قتيل وجريح.
المربع البريطاني هو تكتيك حربي بريطاني عريق، يوفر الأمن والسلامة عندما يتحرك الجيش في أرض مكشوفة في مواجهة الفرسان والمشاة المسلحين بالأسلحة البيضاء، وأثبت جدواه في معارك كثيرة، وبالذات في حرب القرم مع الروس ومع الفرنسيين في معركة وترلو الشهيرة. ولكن كفاءته القتالية تكون أكثر جدوى عندما لا يمتلك الخصم قوة نارية رادعة.
كانت شجاعة البجاويين في هذه المعركة مشهودة، حتى إن الإنجليز أنفسهم امتدحوه قبل غيرهم، وألهمت عدداً من الشعراء البريطانيين أمثال نيولوت وروديارد كبلنغ، الذين نظموا أشعاراً تغنوا فيها بشجاعة المحارب البجاوي.
خاض الإنجليز بعدها معارك مع البجاويين، مارس فيها دقنة الكر والفر، مثل معركتي "هاشين" و"توفريك"، التي انتصرت فيها القوات البريطانية، بعد أن تلقت هجمات شرسة من البجاويين، بعد هذه المعركة بشهرين قررت بريطانيا سحب قواتها من السودان.
هزيمة جيش البجا بعد مقاومة باسلة
كانت آخر المعارك هي معركة أم درمان الحاسمة في بداية سبتمبر/أيلول عام 1898، حيث انتصر فيها الإنجليز، بعدما ارتكبوا مجزرة استعرضوا فيها تفوق جيشهم المزود ببنادق ومدفعية حديثة على قوة مسلحة بأسلحة قديمة.
كما بينت المعركة نجاح الجهود البريطانية لإعادة إخضاع السودان عام 1899، ثم حدثت معركة "أم دويكرات" بعدها بشهر وكانت الهزيمة النهائية للدولة المهدية في السودان، بعد أن خلفت آلاف القتلى من جنود البجا، وقد أشارت بعض المصادر إلى أنها بلغت 10 آلاف شخص، وكادت أن تتسبب في انقراض بعض قبائل البجا.
وعن واقعة "أم درمان"، قال ونستون تشرشل في كتابه "حرب النهر": "كانت الخيول تعدوا مسرعة في السهول، والفرسان المسمرون على ظهورها يتمايلون يمنة ويسرة، وكست أجسادهم الدماء، ربما من جروح عدة، والخيول أيضاً كانت مدرجة بالدماء بسبب إصابات مروعة ثم تقع هاوية بفرسانها، وفي 120 ثانية فقط، سقط خمسة من الضباط و65 جندياً و119 فرساً من مجموع 400 فرس".
وهكذا جرى تقاسم السيادة على السودان بين الخديوي والتاج البريطاني، حيث جرى رفع العلمين المصري والبريطاني جنباً إلى جنب، وبات للسودان حاكم عام بيده السلطة العسكرية والمدنية ويعينه خديوي مصر، ولكن بترشيح من قبل الحكومة البريطانية. وفي حقيقة الأمر تفرد البريطانيون بالسيطرة على السودان.