في الـ17 من يناير/كانون الثاني 1961، سارت قافلة من الجنود الكونغوليين باتجاه سهل جنوب كاتانغا، وهي تقتاد 3 أشخاصٍ وجوههم متورّمة. توقفت القافلة العسكرية بعد حين، ترجَّل الجنود وأوقفوا كلَّ واحدٍ من هؤلاء الثلاثة أمام شجرة، وأطلقوا الرصاص عليهم واحداً تلو الآخر، قبل أن يركلوهم داخل حفرةٍ ويهيلوا عليهم التراب.
لاحقاً، حين أُرسلت إحدى الفرق لإزالة آثار الجريمة من مكان الحادث، لم تُفاجأ بمشاهدة يد أحد الضحايا مرفوعةً من تحت التراب، كأنها تريد لفت انتباه العالم إلى الجريمة المروّعة التي وقعت في ذلك المكان.
كانت تلك يد باتريس لومومبا، رئيس الوزراء المنتخب لدولة الكونغو المستقلة.
لم يكن لومومبا رجلاً عادياً، لا بل استثنائياً؛ كان مناضلاً شرساً ضدّ الاستعمار البلجيكي لبلاده، وشغل منصب أول رئيس وزراء مُنتخَب لجمهورية الكونغو الديمقراطية تحت اسمها السابق "جمهورية الكونغو"، قبل أن يُعدَم بعد سنةٍ واحدة من تولّيه الحكم؛ في "جريمةٍ نكراء" -كما وصفتها صحيفة The Guardian في العام 2011- جاءت تتويجاً لعمليات اغتيالٍ مترابطة نفّذتها الولايات المتحدة بالتعاون مع بلجيكا، استخدمتا خلالها شركاء كونغوليين وفرقة إعدام بلجيكية للتنفيذ.
الجريمة التي قام بعدها القتلة بتقطيع جثمان لومومبا وإذابته في حمض الكبريتيك، محتفظين ببعض أسنانه تذكاراً، يمكن اعتبارها "أهم اغتيالٍ حصل في القرن العشرين". وترتبط الأهمية التاريخية للاغتيال بالسياق العالمي الذي وقعت فيه، وتأثيره على السياسة الكونغولية منذ ذلك الحين.
من هو باتريس لومومبا، وكيف وصل إلى رئاسة الوزراء؟
وُلد باتريس إيمري لومومبا في الثاني من يوليو/تموز عام 1925، بمنطقة كاتاكو كومبي في الكونغو التي كانت بلجيكا تحتلها في ذلك الوقت. ينتمي إلى قبيلة باتيليلا، وهي جزء من قبيلة المونغو، ويُعتبر لومومبا من النخبة الكونغولية التي حظيت بالتعليم خلال فترة الاستعمار البلجيكي.
انخرط الشاب العشريني في السياسة، وقاوم الاستعمار البلجيكي بشراسة، إلى أن أسّس لاحقاً "الحركة الوطنية" في العام 1958، والتي كانت أقوى الحركات السياسية بالكونغو. حظيَ لومومبا بشعبيةٍ واسعة، لا سيما بعدما قاد مظاهرات احتجاجية ضد الاستعمار، كانت السبب في اعتقاله مدة ستة أشهر.
أُفرج عنه بعد ذلك لإنجاح المفاوضات، التي كانت تُقام في بروكسل للبحث في مستقبل الكونغو؛ فنُقل من السجن مباشرةً إلى بروكسل بالطائرة، حيث تمّ الاتفاق على استقلال الكونغو، وإنهاء نحو 80 عاماً من الاستعمار البلجيكي.
في مايو/أيار من العام 1960، أجريت انتخابات نيابية تنافَسَ فيها أكثر من مئة حزب، وحقّقت "الحركة الوطنية" بقيادة لومومبا انتصاراً غير متوقَّعٍ وقتئذٍ.
حاولت بلجيكا إخفاء النتائج وإسناد رئاسة الوزراء إلى حليفها جوزيف إليو، لكن الضغط الشعبي أجبرها على تكليف لومومبا بتشكيل الحكومة في النهاية. وبالفعل، شكّل أول حكومة كونغولية منتخَبة في 23 يونيو/حزيران 1960، وقام ملك بلجيكا بودوان بتسليمه الحكم رسمياً.
خلال حفل التسليم، ألقى باتريس لومومبا خطاباً أغضبَ البلجيكيين؛ سُمّي بخطاب "الدموع والدم والنار"، تحدث فيه عن معاناة الكونغوليين وما تعرّضوا له من ظلمٍ واضطهاد. جاء خطابه بعد كلمة للملك بودوان أغضبت بدورها الكونغوليين، واعتبروها مهينة وتفتقر إلى اللياقة.
الأزمات في عهد باتريس لومومبا
لم تنعم الكونغو بالاستقلال إلا لأسبوعين فقط، قبل أن تدخل البلاد في سلسلة من الأزمات، وتجد حكومة لومومبا نفسها بمواجهة أزماتٍ كثيرة: تمرّد عسكري داخل الجيش، وانفصال إقليم كاتانغا بدعمٍ من بلجيكا، إضافةً إلى مظاهراتٍ عمّالية.
على أثر كلّ ذلك، قرّر لومومبا دعوة الأمم المتحدة إلى التدخل بهدف مساعدته على توحيد الكونغو وتحقيق الاستقرار، ولكنها تدخلت ضدّه. حينها، ساءت علاقته مع رئيس الجمهورية كازافوبو وانقلب عليه عددٌ من حلفائه الأساسيين بدعمٍ أمريكي-بلجيكي.
أعلن كازافوبو إقالة الحكومة، ولكن مجلس الشيوخ صوَّت بأغلبيةٍ ساحقة ضدّ القرار، ثم أعلنت مقاطعة "كازائي" انفصالها عن الكونغو ودخولها في اتحادٍ مع كاتانغا. فاستغلّ رئيس هيئة الأركان موبوتو سيسيكو هذه الفوضى، واستولى على السلطة عام 1961 في انقلابٍ عسكري هو الأول من نوعه بإفريقيا في ذلك الوقت.
أُلقيَ القبض على لومومبا واثنين من أبرز رفاقه بعد ذلك، وهما: وزير الإعلام موريس موبولو، ونائب رئيس مجلس الشيوخ جوزيف أوكيتو؛ تعرَّض الثلاثة للتعذيب قبل أن يُعدموا على يد فصيلٍ من الجيش البلجيكي.
في كتابه الشهير "اغتيال لومومبا"، يؤكد المؤلف البلجيكي لودو ديفيت أن المناضل الكونغولي اعتُقل في مطار إليزابثفيل عام 1961.
ومعتمداً على وثائق بلجيكية سرّية، حصل عليها، يُشير المؤلف إلى أن لومومبا اعتُقل لحظة هبوطه من الطائرة على يد جنود إقليم كاتانغا، بقيادة خصمه تشومبي، المتحالف مع موبوتو. ويؤكد ديفين أن ستة جنود سويديين، تابعين لقوات الأمم المتحدة، كانوا حاضرين لحظة الاعتقال.
نُقل لومومبا ورفاقه إلى سجنٍ بلجيكي في سيارةٍ يقودها ضابط بلجيكي، وأُعدموا في 17 يناير/كانون الثاني 1961 رمياً بالرصاص، على يد كتيبة إعدام بلجيكية. تمّ التخلّص نهائياً من الجثث، بعد أربعة أيام، من خلال تقطيعها إلى قطعٍ صغيرة وإذابتها في حمض الكبريتيك (Sulfuric Acid).
عائلة لومومبا إلى مصر والرسالة الأخيرة لزوجته
قبل كل تلك الفورة والانقلاب العسكري الذي أودى بحياته، أدرك باتريس لومومبا أن حياته وحياة عائلته في خطر. وفي سبتمبر/أيلول من العام 1960، وبعد انتخابه رئيساً للوزراء، نجح في تهريب عائلته إلى القاهرة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، الذي زار منزل العائلة بعد اغتيال لومومبا.
وخلال وجوده في سجن تيسفيل، قبل أيامٍ على اغتياله، كتب لومومبا رسالته الأخيرة المؤثرة إلى زوجته. وقد جاء فيها: "لست أدري إنْ كانت ستصلك، أو إن كنتُ حيّاً عندما تقرئينها. طوال نضالي لاستقلال بلادنا، لم أشكّك- ولو للحظة- في أن قضيتنا المقدّسة التي كرّستُ لها أنا ورِفاقي حياتنا كلها، ستنتصر في النهاية".
وتابع: "كل ما أردناهُ لبلادنا هو الحقُّ بالحياة الكريمة، والكرامة الحقيقية، والاستقلال دون قيود. لم يرغب المستعمرون البلجيكيون ولا حلفاؤهم الغربيون في ذلك، وقد تلقّوا دعماً مباشراً أو غير مباشر، مقصوداً أو غير مقصود، من بعض كبار مسؤولي الأمم المتحدة، المنظّمة التي عقدنا عليها كلَّ آمالنا حين طلبنا منها المساعدة".
وأضاف: "سواء كنتُ حيّاً أو ميتاً، حرّاً أو سجيناً بأمرِ المستعمِرين، لست أنا هو المهم، المهم هو الكونغو، وشعبنا الفقير واستقلالنا الذي حوَّلوه لسجنٍ، يتفرَّج عليه العالم الخارجي بتعاطفٍ أحياناً، وأحياناً أخرى بشماتة وسرور. لكن إيماني باقٍ منيع. أنا متيقِّن بأن شعبي سيخلِّص نفسه من الأعداء الداخليين والخارجيين عاجلاً أم آجلاً".
وختم لومومبا يقول: "لا الوحشية ولا الإهانة ولا التعذيب ستجعلني أطلب الرحمة، لأني أفضِّل الموت مرفوعَ الرأس، على العيش في المهانة والتخلي عن المبادئ المقدَّسة. سيأتي اليوم الذي سيقولُ فيه التاريخ كلمته، لكنه ليس التاريخَ الذي سيُعلَّم في بروكسل أو باريس أو واشنطن أو الأمم المتحدة. بل تاريخ البلدان التي انتزعت الحريّة في وجه الاستعمار وأذياله. لا تبكي عليّ، زوجتي العزيزة، فأنا أعرفُ أن بلادي المعذّبة قادرةٌ على الدفاع عن حريّتها واستقلالها".
اعترافٌ بلجيكي بتحمّل المسؤولية بعد 40 عاماً
اعترفت بلجيكا بأنها تتحمل "المسؤولية الأخلاقية" عن اغتيال باتريس لومومبا بعد 40 عاماً على الجريمة التي بدت غامضة لحظة ارتكابها، عندما أجرت لجنة برلمانية تحقيقاً خاصاً حول الملف في العام 2000. وقد كشفت وثائق أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية شاركت في التدبير لقتله.
لكن الأمر استغرق عقوداً حتى تبينت الحقائق في ملابسات الاغتيال؛ وبالتزامن، أي في العام 2000، أجرى مفوّضٌ بالشرطة البلجيكية يُدعى جيرارد سويت لقاءً في فيلم وثائقي عُرض على التلفزيون الألماني، واعترف فيه بأنه قطّع جثة باتريس لومومبا، وأذاب البقايا في حمض الكبريتيك، ثم أظهر سنَّين وقال إنهما من بقايا لومومبا وإنه احتفظ بهما تذكاراً.
وفي العام 2016، تقدّم المؤلف والأكاديمي البلجيكي لودو ديفيت بشكوى ضدّ ابنة سويت بعد أن أظهرت سنّاً ذهبية، وقالت إنها تخصّ لومومبا، خلال لقاءٍ مع إحدى الصحف. فقرّرت السلطات البلجيكية بعدها مصادرة السنّ.
من المقرّر أن يُقام حفل رسمي يحضره رئيس وزراء بلجيكا ورئيس وزراء جمهورية الكونغو الديمقراطية، يجري فيه تسليم السنّ إلى عائلة لومومبا في صندوقٍ مصنوع خصوصاً لها.
هذه الخطوة من شأنها أن تسمح لعائلة لومومبا، وبلاده، بإقامة جنازةٍ وطنية -بعد أكثر من 40 عاماً- للمناضل والرجل الذي كان أوّل رئيس وزراء للكونغو المستقلة.
وقال رولان لومومبا، ثالث أبنائه بعد فرنسوا وجوليانا، لوكالة "فرانس برس": "بالنسبة لنا، يمثل لنا رفاته الكثير. وجوليانا هي التي طلبت السنّ، العام الماضي، في رسالةٍ إلى ملك بلجيكا فيليب".
وتابع رولان لومومبا: "كأفارقة، لا يمكننا إنهاء حدادنا من دون أن يكون بحوزتنا جزءٌ من رفاته. وصلنا إلى نهاية نزاعٍ دامَ ستين عاماً، ونحن راضون".