في مساء ليلة 22 يوليو/تموز عام 1991، وفي شوارع مدينة ميلواكي بولاية ويسكنسون، فوجئ ضابطا دورية برجل من أصل إفريقي يركض مبعثر الملابس وهو في حالة اضطراب وذعر شديد، وكانت يداه مقيدتين بأصفاد فولاذية، وكان يهذي بكلمات لم يفهمها الضابطان في البداية، ولكنهما سرعان ما أدركا أنه يستغيث من "المعتوه الذي يحاول أن يقيده ويعتدي عليه".
وعندما وصل الشرطيان إلى المكان المشار إليه من الضحية، كانت تلك الصدفة العجيبة التي أدت إلى سقوط "وحش ميلواكي"، أو "جيفري دامر، القاتل الأمريكي المتسلسل الذي ما زالت سيرته تتردد بتفاصيلها المرعبة، المثيرة للغثيان حتى اليوم. القصة التي بدأت بطفل مضطرب تحوَّل إلى وحش يفتك بالصِّبية والشباب، فيغتصبهم ويقطّع أوصالهم ويحتفظ بها في ثلاجته لأكلها لاحقاً.
دامر.. علامات شيطانية مبكرة
وُلد جيفري دامر في ولاية ويسكنسون، وتحديداً مدينة ميلواكي، لأب يحمل الدكتوراه في الكيمياء وأم ربة منزل -اكتشف خبراء الجرائم لاحقاً أنها كانت تعاني مع المرض العقلي- ووصفت السِير الذاتية لجيفري طفولته المبكرة حتى سن 4 سنوات بأنها كانت طفولة حيوية وطبيعية، ولكن عقب خوض الصبي لعملية جراحية معقدة لعلاج فتق أربي، تغيرت صفات الصبي تماماً وبدأت عليه أعراض وصفها والداه بأنه (انسحاب وعزلة) غريبين نتيجة لعملية غير مرتبطة بالنشاط الذهني.
وفي حديث للخبير الجنائي (روبرت ريسلر) وصاحب مصطلح (قاتل متسلسل)، قال عن دامر إنه كان شديد العزلة، وله اهتمام غريب في صباه بجثث الحيوانات وعظامها، وخاصة تلك التي كانت تقتل على الطرق السريعة بواسطة السائقين الغافلين، وأن جيفري الصبي في تلك المرحلة وما تلاها من سنوات المراهقة كانت له ميول جنسية مثلية اختلطت بشغفه الغريب بجثث وعظام الحيوانات، وهنا حدثت الطفرة الغريبة في شخصية جيفري دامر التي أفرزت جرائمه الغريبة لاحقاً. وعلى جانب آخر جاء في اعترافات دامر لاحقاً أنه كان مصاباً بخيالات مرض النيكروفيليا (الشغف الجنسي بالجثث) بداية من سن 14 عاماً..
الاضطرابات التي أشعلها المرض والكحول
في بدايات شبابه، وعقب وفاة أمه، التحق جيفري دامر بإحدى جامعات ولاية أوهايو، ولكنه لم يكن لديه أي شغف لتحديد دراسة بعينها، خاصة مع تزايد استهلاكه للكحوليات، وعزلته، وإحساسه بالوحَشة خاصة مع ميوله الجنسية المثلية، ولكن بعد أشهر قليلة ضغط عليه والده للالتحاق بالجيش الأمريكي، وفي أواخر عام 1978 سافر لأداء خدمته العسكرية في إحدى القواعد الأمريكية في ألمانيا، ولكن بعد عامين تم تسريحه من الخدمة لإدمانه الكحول، ولاحقاً عقب عودته لأمريكا حققت السلطات الألمانية في جرائم قتل في المنطقة المحيطة بمكان خدمة دامر، ولكن لم تستطِع التحريات ربط دامر بهذه الجرائم.
وبعد عودته لم يتقبل والده -الذي كان قد تزوج مرة أخرى- وجوده، ومن ثم لجأ جيفري إلى جدته في مسقط رأسه في ولاية ويسكونسن، وبدأت مشكلته مع إدمان الكحول تتفاقم، وانعكست على سلوكه الذي بدأ في الانحراف، وقُبض عليه أكثر من مرة لارتكابه أفعالاً فاضحة في الطرقات العامة، كان أبرزها التعري بالكامل، والتحرش جنسياً بصبيين في سن المراهقة.
اختيار الضحايا.. بعيدًا عن الضوضاء!
ارتكب دامر جرائم القتل والاغتصاب وتشويه الجثث بين عامَي 1978 و1991، وكان دامر -بحسب اعترافاته لاحقاً- يختار ضحاياه من المتسكعين، والمهمشين ورواد النواد الليلية من الشباب غير المكترث أو الذي لا تبدو عليهم علامات الثراء أو النجاح؛ وكان يعتمد دامر على ملامحه الجذابة وبنيته الجسدية السليمة في اجتذاب ضحاياه بالاستمالة الجنسية المثلية أو بوعود المساعدات المالية مقابل خدمات وهمية. .
أولى جرائمه كانت في إحدى منازل والديه القديمة؛ إذ قام باصطحاب أحد مسافري الطرق العابرين بعد أن وعده بإعطائه المال؛ وهناك قام بخنقه ومارس أفعالاً جنسية مع جثته ثم قام بالتخلص من الجثة بعد تقطيعها..
وتكررت جرائمه بالأسلوب نفسه في أحد الفنادق الرخيصة المتطرفة، وأيضاً في منزل جدته في ميلواكي؛ حيث كان يقوم بتمزيق أطراف ضحاياه أو تهشيم رؤوسهم بمطرقة، ثم بدأت حدة نزعته الشاذة في الازدياد؛ فكان يقطع أوصال ضحاياه ويحتفظ بأجزاء منها لأكلها أو ممارسة خيالاته الجنسية الشاذة بها.
وفي عام 1988 ألقي القبض على دامر في قضية اتهم فيها بارتكاب الرذيلة مع صبي قاصر عمره 13 عاماً، ولكن للغرابة استطاع دامر الإفلات من هذا الاتهام بعد أن ادعى أن الفتى كذب في التصريح بعمره واستغل أنه في الحقيقة الصبي بدا أكبر من عمره لكل من يراه وبدا ذكراً بالغاً..
ولكن حتى بعد إفلاته من هذه الجريمة، لم يتوقف دامر عن أنشطته الدموية الشاذة، بل ارتحل عن منزل جدته وبدأ في اصطياد المزيد من الضحايا الذين كان أغلبهم من الأمريكيين ذوى البشرة السمراء والذيت كان يختارهم جيفري غالباً؛ لأنهم من طبقات فقيرة وقد لا يجذب اختفاؤهم الأنظار.
وخلال 13 عاماً قتل واغتصب وشوه جيفري دامر 17 ضحية، جميعهم من الذكور وأغلبهم من الفتية قبل سن الرشد، وكان نهاية تلك الأنشطة الدموية المرعبة عام 1991 عندما شكّت إحدى جارات دامر في أنشطته، وخاصة الأصوات التي تصدر من بيته في أوقات متأخرة، وفي ليلة 22 يوليو/تموز اتصلت الجارة بالشرطة وأبلغت عن رؤية فتى أسود يخرج من بيت دامر راكضاً، وهنا تلقت إحدى الدوريات المارة بالمصادفة في المنطقة البلاغ حتى عثروا على الضحية الأخيرة التي لم يستطِع دامر قتلها أو التنكيل بها وهو المدعو (تريسي إدوارد)، والذي استطاع الفرار من قاتله بعد أن قيّده بالأصفاد.
وعندما ذهب الضابطان بنيّة سليمة للحصول على مفاتيح الأصفاد لتحرير الشاب، لمحوا بعض الأدوات والآلات الحادة في منزل دامر، مع انتشار رائحة منفرّة في المنزل، ولما بحثوا عن المصدر؛ كانت ثلاجة جيفري دامر المليئة بالأطراف والأجزاء البشرية هي المصدر.
15 حكم مؤبد.. ونهاية عنيفة
بعد أن ألقى القبض على دامر اعترف أثناء تحقيق الشرطة معه بكل شيء، ولكن في إجراءات المحاكمة تراجع عن أقواله وعقد اتفاق قانوني مع المحامي العالم للولاية بأن يعترف بأنه مذنب ولكنه ارتكب جرائمه تحت تأثير نزعات المرض العقلي – أي أنه ادعى الجنون- ولكن هذا الادعاء لم يقنع هيئة المحلفين في الولاية، وبعد محاكمة استمرت 10 أشهر؛ حُكم على جيفري دامر بـ 15 حكم مؤبد متتالي بدون أي فرصة لإطلاق سراح مبكر.
بعدها استطاع جيفري دامر التأقلم مع حياة السجن وبدأ في انتهاج سلوكيات أقرب إلى التوبة، وانتظم في ممارسة الشعائر الدينية المسيحية، ولكن بعد عامين فوجئ حراس السجن بالعثور على جثة دامر في إحدى غرف المهمات في السجن مهشمة الرأس والأطراف إثر ضرب مبرح بقضبان معدنية أفضى إلى موته بعد ساعة واحدة.
واتهم أحد قدامى السجناء بقتله والذي اعترف لاحقًا بأنه فعلها بسبب بغضه الشديد لجرائم دامر؛ بالإضافة إلى أنه صرح بأن توبة دامر كانت (مزيفة) لجذب التعاطف وأن جيفري دامر كان يمارس أفعاله الشاذة داخل السجن لإخافة النزلاء؛ ومن بين هذه الأفعال أن دامر كان يجمع طعام السجن ولا يأكله، بل كان يصنع به أشكال مرعبة و أطراف بشرية لإخافة المساجين الذين قرروا المشاركة في إنهاء حياته.
منزل دامر وأدواته
من غرائب من حدث حول قضية جيفري دامر كان مزاد كبير في ولاية ويسكنسون يتضمن كل الآلات الحادة والسكاكين والمناشير التي استخدمها دامر في جرائمه، إذ قام مجموعة من رجال الأعمال والأثرياء في ميلواكي بشراء هذه الأدوات في مزاد علني أشرفت عليه سلطات الولاية؛ تم بعده التخلص من الأدوات بتدميرها وحرقها في محاولة رمزية للتخلص من إرث جيفري دامر تماماً، خاصة وأن اغلب ضحايا دامر كانوا من الأمريكيين الأفارقة؛ وقد أراد سادة الولاية وأثرياؤها الترميز إلى حرق شُبهة (العنصرية الوحشية) التي خالطت القضية برغم اعترافات دامر بأنه لم يكن يوجه أي كراهية أو بُغض لذوي البشرة السمراء، بل كانت اختياراته تعتمد على (الطبقة الاجتماعية) أكثر منها أسباب عرقية .
وفي واقعة أخرى عام 2012 فوجىء سكان مدينة كليفلاند بولاية أوهايو وأثناء انعقاد مؤتمر للحزب الأمريكي الجمهوري بأن منزل طفولة وشباب جيفري دامر – ليس منزل ولادته بل انتقل إلى الوالدان لاحقًَا – معروضًا للإيجار بمبلغ 8 آلاف دولار وتم الترويج له بأنك تستطيع الإقامة في منزل وحش ميلواكي وتعايش أجواء واحدة من جرائمه التي ارتكبها في هذا المنزل.