الأدوات الحادة والسياط والسلاسل كانت من الأساليب التي استخدمها البشر لتعذيب بعضهم منذ القدم، وعلى مر التاريخ طوروا أساليب مريعة جديدة للتنكيل ببعضهم؛ فقد انتشرت في العصور الوسطى طرق تعذيب تقشعر لها الأبدان. لكن هل كنت لتتخيل أن يكون "الماء" أحد تلك الأساليب المروعة؟
التعذيب بالماء.. من الصين إلى غوانتانامو وأبو غريب
يتضمن التعذيب بالماء تثبيت السجين في مكان ما وتقييده، ثم سكب الماء البارد ببطء على وجهه أو جبهته أو فروة رأسه، بحيث تكون دفعات المياه المسكوبة صادمة ومفاجئة، فلا يستطيع السجين أن يتوقع دفعة المياه التالية التي ستنسكب عليه، وفقاً لما ورد في مجلة The New York Times Magazine.
وقد يبدو سكب الماء على الوجه طريقة لطيفة في التعذيب إذا ما قورنت بتقطيع الأصابع أو حرق الأعضاء، لكن في الواقع كانت تلك الطريقة "اللطيفة" تقود المساجين للجنون وتفقدهم عقولهم.
وقد نسبت هذه الطريقة في التعذيب إلى الصينيين، حتى إنها اكتسبت تسمية "التعذيب الصيني بالمياه"، لكنها استخدمت بكثرة في العصر الحديث، لا سيما من قبل القوات الأمريكية في غوانتانامو وسجن أبو غريب.
وقد أطلق الأمريكيون على هذا الأسلوب تسمية "أسلوب الاستجواب المعزز"؛ إذ يدعون أن انتزاع الاعترافات من المساجين سهل للغاية باستخدام التعذيب بالمياه، والذي يشمل أيضاً في الحالة الأمريكية إيهام السجين بالغرق وغيرها من الطرق التي تستخدم الماء وسيلة للتعذيب.
التاريخ المروع للتعذيب الصيني بالمياه
رغم ندرة السجلات التاريخية المتعلقة بالتعذيب الصيني بالمياه، يقول موقع Odd Feed إن المرة الأولى التي وُصف فيها كانت في أواخر القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، وذلك عن طريق هيبوليتوس دي مارسيليس.
كان دي مارسيليس القادم من مدينة بولونيا الإيطالية، محامياً ناجحاً، لكنه مشهور أيضاً بأنه أول من وثَّق طريقة التعذيب التي تُعرف اليوم بالتعذيب الصيني بالمياه.
تقول الأسطورة إن دي مارسيليس ابتكر الفكرة بعد أن لاحظ كيف أدى استمرار تساقط المياه فوق صخرة إلى تآكل أجزاء منها، وبعد ذلك طبق الفكرة على البشر.
وفقاً لما ورد في مجلد Encyclopedia of Asylum Therapeutics (موسوعة علاجات المصحات العقلية)، صمد أسلوب التعذيب بالمياه أمام الزمن؛ فقد استُخدم في المصحات العقلية في ألمانيا وفرنسا في أواسط القرن التاسع عشر. اعتقد بعض الأطباء في ذلك الزمان أن الجنون مرتبط بأسباب جسدية، وأن التعذيب بالمياه يمكن أن يشفي المرضى من مشكلاتهم العقلية.
ونتيجة لاقتناعهم بأن تجمعاً دموياً في الرأس هو الذي يقود الناس إلى الجنون، استخدم العاملون في المصحات العقلية "آلة تقطير" لتخفيف الاحتقان الداخلي. كان المرضى يقيدون، وتوضع عصابات على أعينهم قبل الشروع في سكب الماء البارد فوق رؤوسهم، على فترات منتظمة، من دلو موجود فوق رؤوسهم. استُخدم هذا العلاج أيضاً لعلاج الصداع والأرق، لكنه لم يسجل أي نجاح.
يحيط الغموض بالتوقيت الذي بدأ فيه استخدام مصطلح "التعذيب الصيني بالمياه"، ولكن بحلول عام 1892، دخل هذا المصطلح في القاموس الشعبي، وذُكر في خبر قصير في مجلة Overland Monthly بعنوان "The Compromiser" (المساوم). وفي نهاية المطاف، كان الساحر هاري هوديني هو الذي أكسب المصطلح شهرته.
ففي عام 1911، بنى هوديني، أستاذ فن الوهم المجري الشهير، صهريجاً ممتلئاً بالمياه في إنجلترا، وأطلق عليه "زنزانة التعذيب بالمياه الصينية". بعد تقييد قدميه، جرى إنزاله إلى داخل المياه وهو مقلوب رأساً على عقب. بعد أن رآه المشاهدون عبر الزجاج الشفاف للصهريج، استطاعت الستائر أن تخفي طريقته الخارقة في الهروب منه. بحسب موقع The Public Domain Review، نفذ هوديني الخدعة للمرة الأولى أمام الجمهور في 21 سبتمبر/أيلول 1912 في مدينة برلين الألمانية.
طرق أخرى للتعذيب بالمياه على مر التاريخ
بعد أن نفذ هاري هوديني عرضه المبهر، انتشرت الحكايات حول شجاعته حول أوروبا، واكتسب اسم الخدعة إثر ذلك شعبيةً أيضاً.
في الوقت نفسه، انتشر التعذيب الفعلي بالمياه في صورة فظائع جريمة حرب في الجزء المتبقي من القرن العشرين، وجرى إضفاء صبغة شرعية عليه عبر وصفه بـ"أساليب الاستجواب المعززة" في القرن الحادي والعشرين.
وُجد الإيهام بالغرق قبل وقت طويل من تعرض نزلاء سجن خليج غوانتانامو للتعذيب بهذه الطريقة، في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
بحسب مجلة The Nation، فإن القوات الأمريكية، التي سحقت حركة تحرير فلبينية، استخدمت هذه الطريقة في بدايات القرن العشرين، بجانب أن كلاً من القوات الأمريكية والجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام (فيت كونغ)، استخدمت هذا الأسلوب خلال حرب فيتنام.
صار الإيهام بالغرق فعلاً سيئ السمعة عندما افتضح أمر الحكومة الأمريكية باستخدام هذه الممارسة الوحشية في العقد الأول من القرن الحالي في خليج غوانتانامو، واكتُشف استخدام أساليب تعذيب مماثلة في سجون مثل سجن أبو غريب. وإذا كان لاتفاقيات جنيف أن تتدخل وتبدي رأيها حول هذه الممارسة، لصُنَّفت على أنها "جريمة حرب"، لكنها لم تُصنف هكذا في نهاية المطاف.
الأمريكيون يدعون أن هذا الأسلوب فعال في انتزاع الاعترافات
في ضوء اكتشاف لجوء أمريكا إلى التعذيب بهذا الأسلوب، أطلق البرنامج التلفزيوني MythBusters تحقيقاً حول الأمر.
صحيحٌ أن مقدم البرنامج، آدم سافاج، استنتج أن أسلوب التعذيب الصيني بالمياه كان فعالاً في إجبار السجناء على الاعتراف؛ إذ اعتقد سافاج أن القيود التي كانت تسيطر على الضحايا هي التي كانت مسؤولة عن انهيار السجناء، وليست المياه نفسها.
إلا أنه كشف لاحقاً في سلسلته على الإنترنت Mind Field، أن هذا الأسلوب كان يقود السجناء نحو الجنون.
وقال إن شخصاً راسله بعد بث حلقة MythBusters، ليوضح له أن عشوائية سكب المياه كانت فعالةً بشكل لا يصدق. وقد ادعوا أن أي شيء يحدث بوتيرة منتظمة يكون مُهدئاً ويدفع للتأمل، لكن سكب المياه بصورة عشوائية يمكن أن يقود الناس نحو الجنون.
قال سافاج في حديثه عن رسالة البريد الإلكتروني التي وصلت إليه: "إذا لم تستطع التنبؤ بها (أي دفعة المياه التالية)، قال (صاحب الرسالة): "وجدنا أننا كنا قادرين على إحداث انهيار نفسي خلال 20 ساعة"".
ووفقاً لموقع All That's Interesting الأمريكي، لا يزال الغموض يحيط بالحقيقة المتعلقة بما إذا كان التعذيب الصيني بالمياه ابتُكر عن طريق الصينيين، أو أنه حصل على اسمه من الانتهازيين في العصور الوسطى. وفي نهاية المطاف، يبدو أنه من غير المرجح أن هذا الأسلوب كان شائعاً ضمن أساليب التعذيب في القرون العديدة السابقة، مثل الإيهام بالغرق، وأشكال التعذيب الأكثر رعباً التي أعقبتها.