على مدار ما يُقارب الـ33 عاماً، تعرّض أكثر من 2100 جزائري للترحيل إلى مُستَعمرة نوميا، لمقاومتهم الاستعمار الفرنسي لبلادهم.
ونوميا هو الاسم الذي أُطلق على المدينة الصغيرة التي بنتها فرنسا، كمعسكرٍ صغير في جنوب غرب جزيرة Grande Terre يضمّ سجناء من مستعمراتها البعيدة، بعد إعلان كاليدونيا الجديدة مستعمرة فرنسية.
أغلب السجناء استُقدموا من الجزائر، إضافة إلى عدد قليل جداً من المغاربة والتونسيين؛ وعدد كبير من هؤلاء المساجين كانوا من "المرحّلين السياسيين"، والثوريين الجزائريين المنتفضين ضدّ الاستعمار الفرنسي الذي احتلّ البلاد في يوليو/تموز 1830، وأغلبهم من زعماء وقادة ثورة المقراني والشيخ الحداد التي انطلقت في 15 مارس/آذار 1871 واستمرت عاماً كاملاً.
في الذكرى الستين لانتهاء حرب الاستقلال (1954-1962)، يسرد أحفاد أحفاد الجزائريين، الذين رُحّلوا إلى كاليدونيا الجديدة خلال مرحلة الاستعمار في القرن التاسع عشر، "الألم الصامت" لأسلافهم؛ وهي حقبة من التاريخ الاستعماري لا تزال غير معروفة بالنسبة لكثيرين.
تاريخ كاليدونيا الجديدة المحظور
في الفترة ما بين عامَي 1864 و1897، وبعد تقدّم القوات الفرنسية إلى الجزائر، حوكم أكثر من 2100 جزائري أمام محاكم خاصة أو عسكرية. جميعهم رُحِّلوا لاحقاً إلى سجن نوميا في كاليدونيا الجديدة، في جنوب غرب المحيط الهادئ.
في حديثٍ لوكالة AFP الفرنسية، يقول السيد طيب عيفة (83 عاماً): "وصلوا بعد رحلةٍ استغرقت خمسة أشهر، وهم مقيّدون بالسلاسل في الحجز. ولا يزال عدد القتلى، الذين أُلقِيَت جثثهم في البحر خلال رحلة العبور، مجهولاً".
كان والد عيفة واحداً من آخر المُدانين في العام 1898، ووالدته ابنة أحد أوائل المُرحّلين إلى كاليدونيا. ويشرح الرجل الثمانيني: "كان تاريخ أسلافنا موضوعاً محظوراً، فقانون الصمت ساد على عائلات المُبعَدين".
يتذكر طيب عيفة، الذي حُكِم على والده بالسجن 25 عاماً، لدفاعه عن أرضه في سطيف (شرق الجزائر) ضدّ الفرنسيين: "نحن أبناء القبعات المصنوعة من القش، كان يُطلَق علينا البيكوت، وهي إهانة عنصرية".
وفي مفارقة مأساوية، يؤكد عيفة -أحد أعضاء بلدية بوراي في Grande Terre: "بعدما كانوا مُستعمَرين في الجزائر، صاروا مُستَعمِرين رغماً عنهم، على الأراضي المُصادَرَة من الكاناك، السكان الأصليين".
في كاليدونيا الجديدة، لمّ الشمل ممنوع على الجزائريين
"في كاليدونيا الجديدة، هدفت الدولة الفرنسية -كما هو الحال في الجزائر- إلى إيجاد تسوية؛ يقول كريستوف ساند، عالم الآثار في معهد البحوث والتنمية في نوميا، ويُضيف: "حوّلوا المُرحَّلين إلى مُستَعمِرِين". ويُعتبر ساند من نسل الجزائريين المُرحّلين.
ووفق صحيفة Le Monde الفرنسية؛ إذا سُمِح للمُدانين الفرنسيين بإحضار زوجاتهم لاحقاً، فقد حُظر لمّ شمل الأسرة على الجزائريين، الذين تزوّجوا من نساءٍ في كاليدونيا الجديدة.
ويؤكد ساند أن المحكوم عليهم بأكثر من ثماني سنوات في السجن -وانطبق هذا على معظمهم- لم يكن لهم الحق في العودة إلى الجزائر، بعد إنهاء عقوبتهم. ويُشير الباحث إلى أنه "وبحسب حساباتنا، فقد أدّى ذلك إلى وجود ما بين 3000 و5000 يتيم في الجزائر".
بدوره، يؤكد موريس سوتيريو، حفيد أحد المتهمين من منطقة قسنطينة (شمال شرق): "لقد ترك جدي طفلين في الجزائر لم يرَهما مرة أخرى".
ووفقاً لساند، كان هؤلاء الجزائريون المُرحّلون مواطنين من الدرجة الثانية في كاليدونيا الجديدة، لا سيما أنهم لا يتحدثون الفرنسية غالباً، بل العربية أو البربرية فقط. وقد عانى أبناؤهم بشدة من هذه الوصمة واستطاع عددٌ قليل من العائلات حماية أصولهم بفخر.
ويعود طيب عيفة، الذي لُقِب بـ"الخليفة" عندما أصبح رئيس بلدية بوراي، ليؤكد على "مواطنته الجزائرية": "صرت عاملاً منذ سنّ 17 عاماً، وانضممتُ إلى النقابات العمالية. وعلى مدى 30 عاماً، طوال شغلي منصب العمدة، وقّعتُ على الوثائق الرسمية باسم طيب عيفة، في انتقامٍ تاريخي".
عودة الأحفاد بعد موت الأجداد
يتذكر عيفة رحلته الأولى إلى الجزائر في العام 2006، عندما شعر أنه استحضر والده "الذي مُنع من العودة إلى موطنه الأصلي والموت فيه، مثله مثل كثيرين غيره من الجزائريين".
وقال طيبة بفخر: "أؤكد مواطنتي الكاليدونية، لكنني أيضاً جزائري، وتربطني صلة بالجزائر والأسرة والأرض. لقد تمكنتُ من الحصول على أوراقي الثبوتية الجزائرية قبل 20 عاماً".
بدوره، يستذكر كريستوف ساند عندما ذهب إلى الجزائر مع اثنين من أحفاد المتّهمين، قائلاً: "كان لديَّ انطباع خلال الرحلة، بأني أحمل أسلافي على كتفيّ. عندما رأيتُ ميناء الجزائر العاصمة، حيث أُلقي بجدّي ورفاقه في الحجز، شعرتُ بألمٍ صارخ".
وصل ساند إلى قرية أغراراج، في منطقة القبائل الشرقية، حيث يقبع منزله الأصلي ولمس الأرض قائلاً: "شعرتُ بأن الثقل الذي كان على كاهلي قد اختفى منذ بداية الرحلة، وقد عادت روحي المنفية إلى حيث وُلِدَت".
ويرى ساند أن "عملية الشفاء هذه ضرورية لإغلاق الباب، وبناء مستقبل في كاليدونيا الجديدة. فالشفاء من صدمة المنفى يسمح لنا، بصفتنا من مواطني كاليدونيا الجديدة اليوم، بأن نتطلع إلى المستقبل من دون أن نبقى أسرى للماضي".