في أحد أيام ربيع عام 1943، جرفت الأمواج جثة جندي بريطاني يحمل حقيبة ممتلئة بالوثائق السرية بالقرب من مدينة ولبة الإسبانية. نبّه الصيادون الذين عثروا عليه السلطات الإسبانية، التي أبلغت بدورها النازيين. غير أن الجثة التي امتلأت بالمياه كانت في واقع الأمر حيلة مدروسة عُرفت باسم "عملية اللحم المفروم".
و"عملية اللحم المفروم" خطة دبرتها الاستخبارات البريطانية لتضليل العدو في منتصف الحرب العالمية الثانية. أمل البريطانيون أن تقنع الوثائقُ، التي كانت في حوزة الجندي المزيف، النازيين بأن الحلفاء كانوا يخططون لغزو اليونان وليس صقلية مثلما خططوا.
قد تبدو هذه العملية الطموحة أشبه بفصل من فصول رواية جاسوسية، لكنها نجحت في مآربها. حوّل النازيون بالفعل مسار قواتهم نحو اليونان، ونجح الحلفاء في الاستيلاء على صقلية.
وقد ترجم نجاح هذه العملية في عمل درامي من خلال فيلم يحمل الاسم نفسه "عملية اللحم المفروم" (Operation Mincemeat) بطولة النجمين البريطانيين كولين فيرث وماثيو ماكفادين.
لماذا أطلق البريطانيون "عملية اللحم المفروم"؟
بحلول نهاية عام 1942، بدأت ديناميكيات الحرب العالمية الثانية في التحول. نجح الحلفاء في معاركهم ضد قوى المحور بشمال إفريقيا وبدأوا يتأملون تحويل تركيزهم نحو أوروبا. أراد الحلفاء الاستيلاء على صقلية، لكن القلق انتابهم من أنها كانت استراتيجية واضحة للغاية.
قال رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، ونستون تشرشل: "باستثناء أي مغفل لَعين، سيعلم الجميع أنها صقلية".
سواءٌ كانت واضحة أم لا، كان الحلفاء مقتنعين باحتياجهم إلى الاستيلاء على هذه الجزيرة ذات الموقع الاستراتيجي، والتي وصفها تشرشل بـ"نقطة ضعف أوروبا".
ومن أجل المضي قدماً في هذا المسعى، شرعت الاستخبارات البريطانية في تطوير عملية باركلي، التي كانت حملة معلومات مضللة أشارت إلى أن تركيزهم موجهٌ نحو منطقة البلقان.
ومن رحم هذه الخطة، وُلدت مكيدة طموحة بشدة، تتلخص في إرسال جثة تحمل وثائق "سرية" مزورة لخداع النازيين. برزت الفكرة للمرة الأولى في مذكرة تعود إلى عام 1939 كتبها مدير الاستخبارات البحرية البريطانية، جون جودفري. لكنها، وفقاً لموقع History Extra، كُتبت على الأرجح عن طريق مساعده إيان فلمنغ، الذي صار لاحقاً مؤلف سلسلة جيمس بوند.
اقترحت المذكرة، التي حملت اسم "مذكرة السلمون المرقط"، طرقاً عديدة يمكن أن تستخدم بها الاستخبارات البريطانية المعلومات المضللة. اقترحت الفكرة رقم 28: "يمكن إسقاط جثة رجل يرتدي زي طيار، ومعه رسائل في جيبه، على الشاطئ، بافتراض أن المظلة لم تفتح".
وأضافت: "أفهم أنه لا توجد صعوبة في الحصول على جثث بمستشفى البحرية، ولكن يجب بكل تأكيد أن تكون جثة حديثة".
وبعد وقت قصير، وُضعت الخطة المعروفة بـ"خطة اللحم المفروم" موضع التنفيذ. لكن ضباط الاستخبارات كانوا أمام مشكلة واحدة: الحاجة إلى جثة.
كيف صنع ضباط الاستخبارات جندياً مزيفاً؟
تولى مهمة تطوير عملية اللحم المفروم -ومن ثم العثور على جثة لتؤدي دورها- عميلا الاستخبارات إوين مونتاجو وتشارلز شولمونديلي. بحسب موقع Sky History، تواصل مونتاجو مع طبيب شرعي من لندن، أبلغه بالعثور على جثة في مستودع بمنطقة كينغز كروس.
تعود الجثة إلى رجل ويلزي يبلغ من العمر 34 عاماً ويدعى جليندور مايكل، كان مشرداً وتوفي بعد تناول سم فئران. كانت الجثة ملائمة تماماً لمونتاجو وشولمونديلي، وبدآ في استخراج هوية جندي بريطاني مزورة يدعى الكابتن ويليام مارتن.
ولكن من أجل إنجاح عملية اللحم المفروم، احتاج مونتاجو وشولمونديلي أن يعطيا إلى جثة الجندي المزيف أكثر من مجرد اسم ورتبة. ولذا بدأ كلاهما في خلق حياة ثرية مفصلة للجندي الذي لم يوجد من الأساس، وضمن ذلك خطيبته التي تدعى بام، وعلاقته المتوترة مع أبيه الوهمي.
جاء في خطابٍ من "بام" اختلقه العميلان: "أرجوك لا تدعهم يرسلونك إلى السماء بالطريقة الفظيعة التي يفعلونها هذه الأيام، بعد أن وجد كل منا الآخر في هذا العالم، لا أعتقد أنني سوف أتحمل ذلك". حتى إنهما أرفقاه بصورةٍ لموظفةٍ من المكتب الخامس.
لم يدخر مونتاجو وشولمونديلي جهداً في الإسهاب في التفاصيل حول حياة مارتن المزيفة. فقد حمل الجندي السابق خطاباً نزاعياً من أبيه، وبقايا تذاكر مسرح، وفاتورة خاتم خطوبة من الألماس، بل حمل معه إشعاراً من مصرف لويدز بنك يطالبه بالدفع مقابل سحب رصيد على المكشوف.
خلال حديثه مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC، قال المؤرخ بن ماكنتاير، الذي كتب كتاباً في عام 2010 بعنوان Operation Mincemeat: How a Dead Man and a Bizarre Plan Fooled the Nazis and Assured an Allied Victor (عملية اللحم المفروم: كيف خدع رجل ميت وخطة غريبةٌ النازيين وضمنت نصراً للحلفاء؟): "كان مستوى التفصيل الذي وصلا إليه مذهلاً: وضمن ذلك الزي الرسمي والملابس الداخلية لمن زُعم أنه مارتن، كي تبدو كأنها بمقاس صحيح".
الأهم أن عميلي الاستخبارات أدرجا خطاباً مصنفاً بأنه "شخصي وسري للغاية" من الفريق أرشيبالد ناي، نائب رئيس الأركان العامة الإمبراطورية. وأشار الخطاب إلى أن البريطانيين خططوا لبناء قواتهم في اليونان وسردينيا، وليس في صقلية.
بل إن الخطاب ورد فيه: "لدينا فرصة جدية للغاية لجعل [هتلر] يظن أننا سوف نذهب إلى صقلية، إنه هدف واضح سوف يكون قلقاً بشأنه".
وبذلك، كانت عملية اللحم المفروم مستعدة للانطلاق.
صدق النازيون الخطة الجاسوسية الجريئة
بعد 10 أيام، جرفته الأمواج نحو شواطئ إسبانيا، وذلك بعد أن وضع إوين مونتاجو وتشارلز شولمونديلي "الكابتن ويليام مارتن" داخل شاحنة ممتلئة بالثلج الجاف وقادوا السيارة نحو أسكتلندا. ومن هناك وضعوه داخل الغواصة إتش إم إس سيراف، التي أوصلته إلى خليج قادس الإسباني.
وفي 30 أبريل/نيسان 1943، عثر صياد سردين على الرجل المتوفى والحقيبة التي كانت مقيدة برسغه، ثم أبلغ السلطات الإسبانية بذلك.
صحيحٌ أن الإسبان كانوا محايدين رسمياً في الحرب العالمية الثانية، لكن الاستخبارات البريطانية علمت أن النازيين كان لهم حضور في البلاد. وبالفعل، نُقلت أخبار اكتشاف الجثة بسرعة إلى الاستخبارات الألمانية "أبفير"، من خلال جاسوس يُدعى أدولف كلاوس.
ولكن من باب الاحتياط، أرسل البريطانيون رسالة إلى إسبانيا يطالبون باستعادة جثة الرجل والحقيبة. وقد جاء في الخطاب: "يرجح أن تكون هناك أوراق سرية في الحقيبة السوداء، نطلب إمدادنا بالمعلومات في أقرب وقت ممكن، يجب أن تستعاد كلها، يجب إيلاء العناية؛ كي لا تصل إلى الأيادي غير المرغوب فيها".
رمش عين يكشف فتح الرسالة
صدّق الألمان الخدعة. بحسب موقع Sky History، فُحصت الحقيبة وفُتحت الرسالة المزيفة الخاصة بالفريق ناي. وبعد ذلك، أغرقها الألمان في مياه البحر؛ كي تبدو كأنها لم تصل إليها الأيادي.
لم يدرك الألمان أن مونتاجو وشولمونديلي تركا رمش عين في الخطاب كي يتحققوا من الأمر في حال فُتح الخطاب عن طريق أي شخص. وبكل تأكيد، اختفى رمش العين عندما عادت الحقيبة.
الأكثر من هذا أن خبراء فك الشيفرات في حديقة بلتشلي فكوا رموز رسائل مرسلة إلى أدولف هتلر أكدت أن الجواسيس النازيين أبلغوه بشأن الجثة. وفي برقية إلى تشرشل، كتب ضباط الاستخبارات في تعبير عن انتصار العملية: "طُعم اللحم المفروم ابتُلع بغطاس وخيط وعصا الصنارة".
ولكن هل أحدثت عملية اللحم المفروم فارقاً حقاً؟
كيف أدت عملية اللحم المفروم إلى نجاح غزو صقلية؟
بعد أن فحص النازيون جثة ويليام مارتن في إسبانيا، اتخذت استراتيجية الحرب منعطفاً دراماتيكياً. حرَّك الألمان دباباتهم من فرنسا إلى اليونان، ونقلوا كثيراً من الرجال والسلاح إلى البلقان. حتى إنهم أعادوا توزيع قواتهم في صقلية.
وعندما غزت قوات الحلفاء صقلية في 10 يوليو/تموز 1943 -مثلما خططوا- استطاعوا الاستيلاء على الجزيرة في نحو شهر من القتال. وعانوا من خسائر أقل بكثير من المتوقع في البداية.
وبرغم النتيجة الدراماتيكية التي حققتها عملية اللحم المفروم، لم يعلم أحد بهذه المكيدة الجريئة قبل عام 1953. حينها، وصف إوين مونتاجو العملية في كتابه: "الرجل الذي لم يوجد قط" (The Man Who Never Was)، والتي تحولت إلى فيلم بعد سنوات قليلة. والآن، تُعرض القصة للجيل الجديد في فيلم يُعرض على منصة نتفلكس بالاسم نفسه: Operation Mincemeat.
لكن الرجل المشرد الذي استُخدم لتنفيذ هذه المؤامرة -جليندور مايكل- نُسي تماماً. حتى إنه دُفن في ولبة بإسبانيا بالاسم المزيف نفسه. ولكن في عام 1998، جرى تحديث المعلومات الواردة في شاهد القبر الخاص به بسطرٍ يقول: "جليندور مايكل، خدم بوصفه اللواء ويليام مارتن".