تمخَّض حكم الإمبراطور الروماني قسطنطين العظيم عن قيام الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بالغة النفوذ، الأمر الذي جعل منه واحداً من أهم الشخصيات في تاريخ أوروبا، فضلاً عن كونه أحد أقوى حكام روما على الإطلاق.
وعلى الرغم من أن دعمه للمسيحية غيّر حياة الملايين، فإن الكثير من المؤرخين يشكون في إخلاص إيمانه، بل إن بعضهم يعتقد أنه لم يعتنق الدين المسيحي في واقع الأمر، فما هي الحقيقة؟
قسطنطين العظيم.. أسطورة التأسيس
في عام 312، حارب قسطنطين عدوه مكسنتيوس في معركة جسر ميلفيو الكُبرى.
وبعد عدة أعوام، زعم الأسقف المسيحي يوسابيوس أن الإمبراطور قسطنطين أخبره قُبيل المعركة بأنه رأى الصليب المسيحي فوق الشمس، وتحته عبارة "بهذه العلامة ستنتصر"، ووفقاً للحكاية فقد زار المسيح الإمبراطور خلال نومه في نفس الليلة ليؤكد له أنه سينتصر بنصره للمسيحية.
لا نعرف تحديداً مدى صحة هذه القصة التي تجاهلها الكثير من المعاصرين الذين لا يؤمنون بالرؤى والأحلام، بينما قال آخرون إن قسطنطين ربما مرّ بتجربة دينية حقيقية، أو أنه رأى شيئاً ما وفسره بأن له دلالةً دينية، فاعتقد البعض أن قسطنطين ببساطة رأى ظاهرةً طبيعية نادرة على غرار الهالة الشمسية وفسرها على أنها الصليب.
وسواء كانت قصة هذه الرؤيا حقيقة أم لا؛ فقد بدأ قسطنطين بالترويج لنفسه في الأعوام التالية لانتصاره كمتعصبٍ لإله الشمس وليس كمسيحي.
قسطنطين وإله الشمس
وبعد عام 312، أوقف قسطنطين العظيم اضطهاد المسيحيين على الفور، وبدأ بتفضيلهم على الصعيدين المالي والسياسي واستمر ذلك طوال فترة حكمه؛ إذ بُنيت في عهده عدة كنائس مذهلة، بينما ضُيّق على بعض المعابد الوثنية، وفقاً لما ورد في موقع موقع The Collector الكندي.
وعلى الرغم من ذلك، ليس مؤكداً إن كان الإمبراطور قسطنطين مسيحياً متديناً للغاية بالفعل، فقد استمر في تقديس إله الشمس خلال النصف الأول من فترة حكمه.
وكان شائعاً بين الأباطرة الرومانيين اختيار إله مفضل ليُعرفوا به في رسومات الأيقونات، ما يعني أن إله الشمس كان إلهاً شائعاً يتعبد له الناس بالفعل حين تولى قسطنطين العرش.
وظلت العملات المرسوم عليها صورة إله الشمس تُصك لفترةٍ طويلة حتى عام 324؛ أي بعد 12 عاماً من تحول قسطنطين المُفترض إلى المسيحية! بل إنّ لدينا نصاً مكتوباً يُثني على قسطنطين، ويزعم أن الإمبراطور رأى أبولو إله الشمس يضمن له استمرار حكمه ثلاثين عاماً. وهي روايةٌ للأحداث تُعتبر بعيدةً كل البعد عن رواية الأسقف يوسابيوس.
وعلى مدار عهد قسطنطين، بدأ استخدامه لرؤيا مشهد الشمس يتلاشى تدريجياً لصالح الرموز المسيحية. كما أنه كان داعماً للكنيسة بسخاء منذ بداية حكمه. وربما لم يُعمّد قسطنطين سوى قُبيل وفاته، لكن التعميد في سنٍ متأخرة كان شائعاً في العالم القديم، ولهذا فهو لا يدل على التوقيت المُحدد الذي تحول فيه إلى المسيحية.
بينما يرى البعض أن تحوله المُفترض إلى المسيحية كان أول حملةٍ دعائية في التاريخ، وحركةً سياسية محسوبة. في حين يرى آخرون أنه اعتنق المسيحية ببساطة في أواخر حياته.
هل كان دعم المسيحية خياراً براغماتياً؟
تقول حقيقة الأمور إن الثورة الدينية سبقت حكم قسطنطين، وإنها لم تكن متعلقةً بالدين المسيحي في الأساس.
إذ تختلف تقديرات المؤرخين لعدد المسيحيين خلال عهد قسطنطين، لكنها تتراوح بين 5% و10% من تعداد السكان وقتها؛ حيث كان المسيحيون قبل حكمه جماعة مضطهدة اضطهاداً شديداً، وخاصةً في عهد الإمبراطور ديوكلتيانوس. وإذا كان دعم قسطنطين للدين المسيحي خياراً براغماتياً؛ فمن المؤكد أنّ السبب لم يكن تحوّل المسيحية إلى ديانة الأغلبية فجأة.
ويُعتقد أن المسيحية انتشرت في بادئ الأمر بين الفقراء والعبيد والنساء، قبل أن تصل إلى الطبقة الأرستقراطية الرومانية. وكان إيمان المسيح بوجوب رعاية المضطهدين سبباً في ميل مختلف المجموعات المستضعفة إلى هذا الدين.
ومن ناحيةٍ أخرى حلَّت الطوائف والديانات الغريبة محل الديانات القائمة على تعدد الآلهة بسرعة البرق، رغم أن الدين المسيحي لم يكن دين الأغلبية وقتها.
ويرجع السبب جزئياً إلى حركة فلسفية سُميت الأفلاطونية المحدثة؛ حيث سادت هذه المدرسة الفلسفية بلا منازع وتفوقت على غيرها اعتباراً من القرن الثالث. وكان التعليم الفلسفي التقليدي للطبقة الأرستقراطية في أواخر عهد الإمبراطورية الرومانية يستوجب الدراسة على يد أحد الفلاسفة الأفلاطونيين المحدثين الكُثر وقتها.
وتُعد هذه المدرسة الفلسفية بالغة الأهمية في فهم ثقافة أواخر العهد الروماني وديانته.
إذ نصت تعاليمها الفلسفية على وجود إلهٍ واحد جامع أكبر يرتبط بالعقل المقدس، حتى وإن وُجدت كائناتٌ أخرى تشبه الآلهة. وناقشت هذه المدرسة أيضاً ماهية الروح البشرية في التسلسل الهرمي المقدس. وكانت تلك الأفكار في واقعها تفسيراً دينياً لفلسفة أفلاطون.
ترجع بعض الأمثلة الأولى على الحملات الدعائية لقسطنطين إلى فكرة "العقل المقدس" التي انتشرت في فلسفة آخر العهد الروماني. وقد عكست هذه الفكرة الفلسفية القوية أو تأثرت بزيادة الديانات الفلسفية الأجنبية، التي اختلفت إلى حد ما عن تعدد الآلهة الروماني التقليدي؛ إذ كانت الأفكار الأجنبية الشائعة تميل لأن تكون أكثر فلسفية، وكوّنت مفهوماً أكثر تجرداً للإله، وحملت في مضمونها فكرة "خلاص الروح".
كانت الديانة الميثرائية، وهي مرادفة لعبادة الشمس، واحدةً من تلك الأفكار الواردة من الخارج.
كما كانت المسيحية فكرةً أخرى واردة مثلها. وقد اشتكى القديس جاستن، أحد الكتاب المسيحيين الأوائل، من أن الديانة الميثرائية تُشبه المسيحية على نحوٍ يثير الريبة. وفي حين كان انتشار هاتين الديانتين بطيئاً، لكن الأفكار المتعلقة بالإله أو الآلهة تغيرت نوعاً ما بحلول القرن الرابع.
حيث إنّ الإيمان بوجود إله واحد أعظم -سواء كانت له تجليات أصغر أم لا- أحدث تأثيراً بالغاً في الديانة الشعبية.
وكانت آلهة الشمس إحدى الدلالات على ذلك؛ إذ أعلن كل من الإمبراطورين إيل جبل وأوريليان في دعايتهما بالقرن الثالث عن عبادة نسخٍ مختلفة من إله الشمس.
واستمر هذا الاتجاه لبعض الوقت بعد وفاة الإمبراطور قسطنطين، على الرغم من انتصار الديانة المسيحية في نهاية الأمر. ومن أشهر الأمثلة على ذلك هو القديس أغسطينوس في القرن الرابع، وهو أسقف مسيحي كان يؤمن بالديانة المانوية (وهي شكل من أشكال الديانة الغنوصية أو العرفانية المأخوذة من بلاد فارس القديمة)، قبل أن يعتنق المسيحية.
وظل المفكرون الوثنيون الأواخر بعد عهد قسطنطين، ومنهم الإمبراطور يليان والفيلسوف برقلس، يفضلون الشمس باعتبارها أسمى تجسيد للمصدر الإلهي. بينما كانت الديانات المتعمقة الروحانية شبه التوحيدية آخذة في الظهور.
المسيح والدين المسيحي ورؤيا الشمس
لم يكن الخلط بين الدين المسيحي وعبادة الشمس موضع جدل بعد على الأرجح؛ إذ كان النظام العقائدي الروماني توفيقياً؛ حيث كان يُعتقد أن الإله الذي تعبده مجموعة معينة له تجليات مختلفة كثيرة.
وعلى سبيل المثال، ارتبط الإله اليوناني هيرميس بالإله المصري تحوت (توت)، في حين ارتبطت إلهة الماء البريطانية سوليس بالإلهة مينيرفا.
وقد ذكر المؤلف المسيحي المبكر ترتليان أن كثيراً من الناس وقتها اعتقدوا أن المسيحيين عبدوا الشمس بسبب بعض سلوكياتهم. وارتبط المسيح بالشمس مجدداً بعد وفاة الإمبراطور قسطنطين؛ إذ ذكر القديس أوغسطينوس أن بعض المؤمنين بالديانة المانوية ظلوا يخلطون بين المسيح والشمس نفسها. لدرجة أن البابا ليون الأول كان يشتكي في القرن الخامس الميلادي من أن بعض المسيحيين لا يزالون يركعون للشمس مثل الوثنيين.
وثمة احتمال قوي بأن "تذبذب" قسطنطين المزعوم بين إله الشمس وبين المسيحية كان شكلاً مقبولاً تماماً من ممارسة التوفيقية؛ بل الأجمل أن قسطنطين استطاع بغموضه وإبهامه هذا أن يروق لطائفةٍ أوسع من المواطنين؛ حيث كان من المرجح أن تروق الجبهة الدينية متعددة الجوانب لكثيرٍ من الناس، وبالتالي كانت رمزية الشمس رهاناً آمناً.
وقد اختلفت الديانة الشعبية تماماً عن النموذج الإلزامي للمسيحية، التي كانت منغمسةً في الجدل اللاهوتي وتعتمد على الكتاب المقدس؛ حيث كان عامة الناس حينها لا يزالون يختارون بين خليطٍ من الرموز الدينية.
بينما تكشف بردية يونانية، تعود للعصر الروماني في مصر، عن سلسلةٍ من التعاويذ والطلاسم التي تستهدف شخصيات من الأساطير المسيحية واليهودية، والتي ذكرت في سياقٍ يشبه أبولو أو زيوس. ويبدو في كثير من تلك الكتابات أن أبولو (ويُعرف باسم هيليوس أيضاً) ويهوه مترادفان.
ويُحتمل أن يكون قسطنطين قد اعتنق المسيحية الأورثوذوكسية الصريحة في أواخر حياته بعدما تواصل مع أساقفة مسيحيين مهمين؛ إذ إنه عقد في عام 325 مجمع نيقية الأول، الذي مكّن الكنيسة من طرح أفكارها بعباراتٍ أكثر تحديداً. ومن المرجح أن هذا التجمع أحدث فيه أثراً بالغاً. ومن الجدير بالذكر أنه توقف عن الترويج لإله الشمس بعد ذلك التاريخ.
كما يحتمل أن تكون هزيمة قسطنطين للإمبراطور ليسينيوس في تلك الفترة قد أسهمت في دعوته إلى اعتناق الدين المسيحي بشكلٍ أكثر صرامة، بدلاً من اتباع النظام التوفيقي.
إيمان قسطنطين
هل كان الإمبراطور قسطنطين مسيحياً حقيقياً؟ يبدو ذلك محتملاً للغاية، رغم أننا لن نتيقن من الأمر أبداً. وربما تبدو أيقوناته الدينية محيرةً فقط عند انتزاعها من سياق عصره.
وربما استفاد قسطنطين من استخدام إله الشمس باعتباره صورةً توحيدية بديلة، في تحسين صورته. ولكن السبب في ذلك ربما يرجع جزئياً إلى تفسيره الأصلي للدين المسيحي. وفي أواخر حكمه، يُحتمل أن يكون اعتناقه المسيحية الأرثوذوكسية بصورة حاسمة قد جاء بدافعٍ من أفراد عائلته المسيحيين أو غيرهم في بلاطه، أو ربما شعر بما يكفي من الأمان كحاكمٍ منفرد ليُعلن عن مسيحيته بوضوح.
ومع القبول الشعبي للمسيحية؛ ازداد الالتحاق بالكنيسة زيادةً هائلة. كما أصبح الأباطرة اللاحقون لقسطنطين أقل غموضاً بشأن معتقداتهم.