في شمال السودان وقرب الحدود مع مصر، تمتد أرض صحراوية شاسعة تسمى النوبة، والتي كانت قبل ما يقرب من 5000 عام موطناً لحضارة إفريقية قوية وغنية ومملكة تسمى "كوش" في السودان.
وقد حكمت هذه المملكة بين سنة 40 و10 قبل الميلاد، الملكة "أماني ريناس" التي حملت لقب "كنداكة" الذي يعني الحاكم، وعرفت بقوتها وحنكتها ومهاراتها في التفاوض.
كانت أماني ريناس أشهر الملكات اللواتي حكمن كوش، وعُرفت باسم ملكة العين الواحدة؛ لأنها فقدت عينها في حروبها لصد الغزو الروماني ودحره.
رافقونا في رحلة تاريخية للتعرف على الملكة النوبية "أماني ريناس" التي اشتهرت بتكتيكاتها الحربية ومفاوضاتها الناجحة مع أقوى حاكم ذكر في ذلك الوقت، أغسطس قيصر.
الحكام النساء "كنداكة".. تقليد له تاريخ طويل في النوبة
لأكثر من 3000 عام، حكمت ثلاث ممالك كوشية، وهي: كرمة ونبتة ومروي- على التوالي وادي النيل الأوسط في منطقة النوبة، ولفترة طويلة من هذا الحكم، لعبت الملكات التي يطلق عليهن لقب "كنداكة" دوراً حيوياً في الحياة السياسية، كما يشير موقع History.
وأشهرهن كانت أماني ريناس، الملكة المحاربة التي حكمت مملكة كوش المروية (نسبة لمدينة مروي)، من حوالي سنة 40 إلى 10 قبل الميلاد بالتزامن مع عهد كليوباترا في مصر ومارك أنتوني في روما، حتى تم خلعهم في عام 30 قبل الميلاد من قِبل أغسطس قيصر.
وحتى بعد أماني ريناس، خلَّفتها أماني شاكيتو وأماني توري التي وصلت مملكة مروي في عصرها إلى أوج ازدهارها.
تهديد الروم لأراضي كوش وتعديهم عليها
بعد وفاة زوجها، الإمبراطور تيريكيتاس، في إحدى معاركه في أواخر سنة 25 قبل الميلاد، أي بعد خمس سنوات من الاحتلال الروماني للنوبة السفلى، تولت أماني ريناس العرش في مملكة كوش.
كانت مملكة كوش قبل الاحتلال الروماني لمصر قوية وغنية تعتمد على تداول الذهب والعاج والبرونز وخشب الأبنوس والعبيد بين مصر وبلدان البحر المتوسط شمالاً ومدن الصحراء الإفريقية جنوباً.
لكن المشهد السياسي تغيَّر عندما استولت القوات الرومانية تحت قيادة أغسطس قيصر على مصر التي كانت تحت حكم مارك أنطوني وكليوباترا حينها، وفقاً لما ذكره موقع World History.
وبدأت الإمبراطورية الرومانية تتوسع وتحتل مناطق مختلفة في مصر القديمة. وسرعان ما بدأ هذا التوسع يتجه جنوباً ليصل إلى الحدود الجنوبية لمصر المتاخمة لمملكة كوش والمعروفة باسم النوبة.
حشدت جيشاً استثنائياً واستولت على المدن وأخذت تمثالاً للقيصر
استمر اليونان بالتوغل في الأراضي الخصبة في المنطقة وفرضوا ضرائب عالية على سكان مروي – عاصمة كوش.
ولمعرفتها بقوة الروم وأسلحتهم وعدد جيشهم الهائل مقابل جيشها وعتادها، استغلت أماني ريناس الانسحاب المؤقت للقوات الرومانية بقيادة الحاكم الروماني لمصر أيليوس غالوس لشن حملة في شبه الجزيرة العربية وحشدت جيشها استراتيجياً من حوالي 30.000 جندي لقتال الغزاة الرومان.
ويشير موقع Beyond Single History إلى أن أماني ريناس استطاعت مع قواتها من الاستيلاء على مدن أسوان وفيلة والفنتين التي كان يسيطر عليها الرومان وأسرت منهم الكثير.
كما استولى جنود كوش على كنوز المدن التي احتلها الرومان والعديد من التماثيل، من بينها تمثال للإمبراطور أغسطس قيصر نفسه، والذي دفنته تحت درجات المعبد حتى يمشي الناس فوقه في زياراتهم اليومية، كتذكير دائم بانتصار الملكة على الحاكم الروماني القوي.
ومع وصول جيوش الإمبراطور الروماني، تراجعت أماني ريناس إلى مدينة الدقّة؛ حيث بدأت المناوشات الأولى للحرب المروية- الرومانية التي دامت أربع سنوات.
الحرب المروية الرومانية 4 سنوات من الغارات والصمود
فجَّرت الغارات التي شنتها أماني ريناس على مصر غضباً كبيراً عند الإمبراطور الروماني أغسطس قيصر الذي أراد أن يثأر مما فعلته الملكة فأمر الحاكم الروماني لمصر، جايوس بترونيوس، بشن غارات لغزو كوش فيما عرف بالحرب المروية الرومانية التي استمرت أربع سنوات (27-22 ق.م).
قام بترونيوس بمواجهة أماني ريناس وجيشها في الدقة أولاً، وطالبها بإعادة الغنائم من غارات جيشها. وعندما رفضت أماني ريناس إعادتها، قام بترونيوس وفرقة المشاة المكونة من 10000 رجل بمهاجمة قوات أماني ريناس ومطاردتها إلى نبتة، مكان إقامتها الملكي.
وفي الطريق، استولى بترونيوس على بريميس (قصر إبريم حالياً)، حيث أنشأ حصناً رومانياً لقواته. لكن بعض المؤرخين يشككون في هذه الرواية لبُعد المسافة بين المدينتين بشكل غير معقول لجيش بترونيوس للسفر خلال درجات الحرارة المرتفعة.
لم تخضع أماني ريناس بأي حال من الأحوال وردت بمزيد من العدوان والغارات حتى إنها فقدت عينها في إحدى هذه الغارات. وتم تصويرها على أنها ملكة شجاعة ومفاوضة ماهرة عندما بدأت في المفاوضات لصالح مملكتها.
معاهدة سلام تنتهي بانسحاب الروم ومنح الامتيازات
شكلت الحرب المروية منعطفاً رئيسياً في التاريخ النوبي والروماني. فقد أجبرت أماني ريناس الروم على منح الامتيازات لمملكة مروي مما أضعف مكانة روما السياسية والاقتصادية وأثبت السيادة المروية.
وبحلول بداية عام 21 قبل الميلاد، تم استنفاد قوى كلا الجيشين بعد سنوات الحرب الطويلة. وأرسلت أماني ريناس مبعوثين إلى جزيرة ساموس للتفاوض مع أغسطس، الذي منح أماني ريناس تنازلين مهمين؛ الأول هو إلغاء الضريبة على نهر مروي، والثاني هو انسحاب الاحتلال الروماني إلى مدينة محرقة، على حدود مصر تقريباً.
وفي حين أن تفاصيل هذه المعاهدة غير واضحة، تشير الأدلة إلى أن مقاومة أماني ريناس أدت إلى مكاسب لمملكتها من دون أي خسائر عسكرية. فقد كانت منطقة النوبة السفلى منطقة متنازعاً عليها بشدة قبل الاحتلال الروماني واليوناني لمصر. لكن تم فرض الهيمنة المرَّوية عليها بعد المفاوضات.
موت أماني ريناس بعد 30 سنة من الحكم
بعد أن أمضت حياتها في القتال من أجل بلدها، ماتت أماني ريناس عام 10 قبل الميلاد. وقد لعبت دوراً مهماً في تأمين مملكة كوش لعدة قرون بعد ذلك ومكاسبها ضد القوات الرومانية ميزتها كواحدة من الشخصيات التاريخية القليلة التي قاومت الحكم الروماني واستطاعت التصدي له ودحر تقدمه.