أُعلن استقلال أول دولة إفريقية في العصر الحديث، في العام 1847، ولم يكن استقلال ليبيريا استقلالاً عن إحدى القوى الاستعمارية المعروفة في ذلك الوقت مثل المملكة المتحدة أو فرنسا أو البرتغال، بل كان انفصالاً عن سيادة الولايات المتحدة، التي كانت وراء تأسيس النواة الأولى لهذا البلد الواقع على الساحل الغربي للقارة السمراء.
استقلال ليبيريا وإلغاء العبودية في الولايات المتحدة
صحيح أن الاستقلال حدث في العام 1847، لكن نقطة البداية الحقيقية كانت قبلها بنحو 30 عاماً، وتحديداً في العام 1816، وذلك قبل حوالي نصف قرن من الإعلان الرسمي عن قانون إنهاء العبودية بالولايات المتحدة الأمريكية (1865)، وهذا الرابط بين إلغاء العبودية في الولايات المتحدة واستقلال ليبيريا يعود إلى زيارة القس روبريت فينل، الذي كان سياسياً مرموقاً في ولاية نيوجيرسي، إلى العاصمة واشنطن، لكسب مساندة ودعم لفكرته المتمثلة في إنشاء مستعمرة جديدة للعبيد المحررين.
كان القصد من فكرة إنشاء هذه المستعمرة هو الحد من النمو الديمغرافي الكبير لأصحاب البشرة السوداء بالولايات المتحدة الأمريكية، ورأى فينلي أنهم "قد يشكلون خطراً على الرفاهية الوطنية"، وذلك بحسب ما جاء في موقع Black Past الأمريكي، في تقرير بالعام 2008.
التقى روبيرت فينلي بعدة سياسيين أمريكين بارزين، على غرار هنري كلاي، وجون راندلوف، ودانيال ويبستر، وقاموا بتأسيس "جمعية الاستعمار الأمريكية" (American Colonization Society)، التي تتبنى أفكار القس القادم من نيوجيرسي.
سعت الشركة في السنوات الأولى لتأسيسها لشراء أراضٍ بغرب إفريقيا وتأمينها، فتوصلت في العام 1821 إلى اتفاق مع زعماء بعض القبائل المحلية لإنشاء مستعمرة أو مدينة برأس "ميسورادو" (cap Mesurado)، الواقع بالمنطقة التي كانت تسمى بـ"ساحل الفلفل"، أو "ساحل الحبوب" (Pepper Coast).
كانت قطعة الأرض المتفق عليها تقدر بنحو 58 كيلومتراً طولاً، ونحو 5 كيلومترات عرضاً، أي بمساحة 174 كيلومتراً مربعاً، في حين أنّ مساحة ليبيريا الحالية تقدر بـ 61.5 ألف كيلومتر مربع.
وبدأت الشركة في العام التالي (1922) في إرسال العبيد المحررين أو الذين وُلدوا أحراراً إلى "ميسيرادو"، وكانت البداية بـ30 عائلة، وهو ما مجموعه 528 شخصاً، أسسوا أول مستعمرة أمريكية بإفريقيا، وسُميت بـ"مونروفيا"، نسبة للرئيس الأمريكي جيمس مونرو، الذي ترأس الولايات المتحدة في الفترة من 1817 إلى 1825.
الرئيس الأول للبلاد لم يكن عبداً، وولد في ولاية أمريكية
نقلت الشركة 12 ألف أمريكي أسود إلى مونروفيا طيلة 20 سنة، منهم 3 آلاف بين 1820 إلى 1831، وكان من بينهم جوزيف جينكين، الذي لم يكن عبداً وولد حراً في فيرجينيا (في العام 1809)، وهاجر إلى المستعمرة الجديدة في عمر الـ20 عاماً، ثم أصبح حاكماً لها في العام 1847 (بعمر الـ38 عاماً) وتجرأ بعدها ليعلن استقلالها.
وقد اعترفت المملكة المتحدة وفرنسا بجمهورية ليبيريا في العام 1848، لكن الولايات المتحدة الأمريكية تأخرت في الاعتراف حتى سنة 1862.
لكن مع تزايُد عدد المهاجرين، بدأ البحث عن أراضٍ جديدة تسعهم وتسع تطلعاتهم، فضمت في العام 1848 منطقة "غاليناس"، بشمال غرب مونروفيا، ثم في سنة 1857، ضمت جمهورية "ميرلاند"، التي كانت هي أيضاً مستعمرة من العبيد الأمريكيين السود، منذ العام 1834، واستقلت في العام 1854، كما استولت ليبيريا على منطقة "كازا" في العام 1862، ومملكة "ميدينا" في العام 1882، بحسب موقع Cosmovisions الفرنسي، المهتم بالتاريخ.
ورغم تشكيلهم نسبة 5% فقط من مجموع سكان البلد، فإنّ السكان القادمين من أمريكا وأحفادهم هيمنوا على دواليب الحكم بليبيريا منذ استقلالها ولأكثر من قرن من الزمن، من خلال الحزب السياسي الوحيد الذي كان يسير البلاد، المُسمى "اليميني الحقيقي" (True Whig)، المُتأسس في العام 1869.
السكان الأصليون كانوا بعيدين عن الحكم لـ133 عاماً
بالمقابل، عانى السكان الأصليون من الظلم، وكانت تُفرض عليهم ضرائب كبيرة تُشكل قيمتها المالية في بداية القرن الماضي (1900) ثلث خزينة الدولة، ما جعلهم يقومون بانتفاضات عديدة، واجهتها الطبقة الحاكمة وأخمدتها بالعنف.
كان السكان يُخضعون للأعمال الشاقة، خاصة في الشركات المتعددة الجنسيات التي كنت تنشط بالبلاد، وذلك حتى العام 1936، بعد تدخل الحكومة بضغط من "عصبة الأمم" (التي أصبحت الأمم المتحدة)، كما كانوا محرومين من حق الانتخاب حتى مايو/أيار 1945، حتى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في عهد الرئيس الـ19 للبلاد، وليام توبرمان، الذي سعى إلى تقليص الفوارق الاجتماعية بين السكان.
وبعد وفاة توبرمان في سنة 1971، واستخلافه في الحكم بنائبه ويليام ريتشارد تولبرت، أصبح التمييز بين "الأفروأمريكيين" والسكان الأصليين أكثر حدة، ما أوصل الأمور إلى حدوث انقلاب عسكري، يوم 12 أبريل/نيسان 1980، قاده الرقيب صامويل دوي، وهو من السكان الأصليين للبلد.
لكن خلال ذلك الانقلاب العسكري قُتل الرئيس توبرمان وعدة وزراء من الحكومة، وانتهى على إثره هيمنة حزب "اليميني الحقيقي" على مقاليد السلطة التي تسلمها صامويل ايدو، الذي كان رئيساً للمجلس الرئاسي المعروف بـ"مجلس الفداء الشعبي" من 1980 إلى 1986، ثم رئيساً منتخباً لجمهورية ليبيريا من 1986 إلى 1990.
عرفت فترة حكم صامويل ايدو ديكتاتورية وتمييزاً من نوع آخر، إذ انفرد بالسلطة أبناء قبيلة "كراهن"، ما خلق توترات جديدة بين باقي العرقيات، التي تشكل النسيج الاجتماعي لليبيريا، وأدى إلى اندلاع حربين أهليتين (1989 إلى 1997، ثم من 1999 إلى 2003)، وأسفرتا عن مقتل 250 ألف شخص.
حربان أهليتان طاحنتان بسبب التعصب العرقي
اندلعت الحرب الأهلية الأولى في العام 1989، عندما قاد وزير سابق في حكومة ايدو، اسمه تشارلز تايلور، تمرداً انطلق من حدود ليبيريا مع جارتها كوت ديفوار، وتقدم بقواته نحو العاصمة مونروفيا، ثم انشق عنه أحد كبار مساعديه، برانس جونسون، الذي نجح في الإطاحة بالرئيس صامويل ايدو وإعدامه، ولكن دون أن يستولي على الحكم، بحيث جرت معارك طاحنة بين قوات تايلور وجونسون طيلة 7 سنوات، كانت تُسير خلالها ليبيريا من طرف مجلس دولة انتقالي، مدعوم من طرف المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "أكواس"، والتي أشرفت على انتخابات رئاسية، في يوليو/تموز 1997، أسفرت عن فوز تشارلز تايلور بنسبة 75% من الأصوات.
تشارلز تايلوز، المولود من أب أفرو-أمريكي وأم من السكان الأصليين، فرض بعد وصوله إلى الحكم ديكتاتورية جديدة، ما فسح المجال لاندلاع حرب أهلية جديدة، بعد أقل من سنة واحدة من انتخابه، وشاركت في تلك الحرب جماعات عسكرية ذات نزعة عرقية ومدعومة من دول أجنبية، وانتهت باستقالة تايلور، يوم 11 أغسطس/آب 2003، ثم باتفاق سلام تم التوقيع عليه يوم 18 أغسطس/آب بالعاصمة الغانية أكرا، ثم بتدخل قوات حفظ الأمن التابعة للأمم المتحدة التي أشرفت على نزع السلاح لمختلف الجماعات المتقاتلة.
كما أشرفت الأمم المتحدة على مرافقة حكومة انتقالية إلى إجراء انتخابات رئاسية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2005، فازت بها السيدة إيلين جونسون شيرياف، التي حكمت البلاد حتى 26 ديسمبر/كانون الأول 2017، تاريخ انتخاب النجم السابق لنادي ميلان الإيطالي لكرة القدم، جورج وياه، رئيساً جديداً لليبيريا، والذي يتحدث عن سعيه لإخراج شعب بلاده من الفقر المدقع الذي تعيشه، والذي أنهكته الحروب الأهلية والصراعات العرقية، على الرغم من توفر باطن أراضيه على ثروات ثمينة كالذهب والحديد.