كان الفيلق المصري وجهاً آخر من قوة الجيش البريطاني التي شاركت في الحرب العالمية الأولى، وراح ضحيتها عشرات الآلاف، ومع ذلك نادراً ما يتم توثيقه واضحاً من خلال الأدلة والوثائق المحفوظة القديمة.
إذ تعاني الأبحاث والكتابات الرسمية لما بعد الحرب العالمية الأولى من عدم وجود سجلات العمليات وإحصاء واضح لأعداد المشاركين في الحرب من مصر الذين تم "شحنهم" لتنفيذ الأوامر البريطانية في فلسطين وسوريا وفرنسا.
لكن في وقت مبكر من مارس/آذار 1916، كان هناك نقاشات رسمية حول "جلب أيدٍ عاملة من تلك الدول للمشاركة في مهام الحرب اللوجستية"، ولم يمر أكثر من عام حتى بدأت عناصر عربية تصل أخيراً إلى فرنسا، بحسب ما أورده موقع Long Trail للوثائق التاريخية.
فيلق العمال المصريين والجمالية
كان فيلق العمال المصريين (المعروف أيضاً باسم ELC أو Labour Corps) هو مجموعة من العمال المصريين الذين عملوا مع الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى.
وبعد أن كانت مصر تاريخياً جزءاً من الإمبراطورية العثمانية لمئات السنين، لكن بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر، بدأ النفوذ البريطاني في البلاد في التوسع؛ حيث أثبت سلاطين مصر أنهم غير قادرين بشكل متزايد على إدارة الشؤون المالية للبلاد؛ ما جعلها فرصة سانحة لبريطانيا في تمديد إمبراطوريتها لتلك البقعة المهمة التي تربط أهم قارتين ببعضهما.
لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى في بدايات القرن العشرين، أدركت بريطانيا حاجتها الماسة إلى العُمّال لتيسير العمل، خاصة في الجبهة الفرنسية، لذلك بدأوا في تجنيد العمال من بين الشعب المصري من طبقات الفلاحين والفقراء بشكل إجباري.
شكّلت إنجلترا فريقين من العمال للقيام بالأعمال اليدوية وراء القوات الإنجليزية، وفريق الجمَّالة لنقل المهمات وغيرها من نهاية السكك الحديدية إلى الخطوط الأمامية، حيث بدأوا العمل منذ أغسطس/آب 1914، فيما زادت أعدادهم بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية خلال الحرب، وبلغ الأمر إلى طلب الأهالي الانضمام لفرق العمال، بحسب صحيفة المصري اليوم المصرية.
وفي كتاب "مصر في الحرب العالمية الأولى"، ذكَرت لطيفة سالم، أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة القاهرة، مشاركة المصريين في الحرب العالمية الأولى، بعنوان "المصريون في ميدان الحرب"، من خلال عدة معلومات.
عندما قامت الحرب العالمية الأولى، وكان على مصر وهي تحت النفوذ الإنجليزي أن تكون طرفاً في هذه الحرب، أقحمها قرار 5 أغسطس/آب 1914، بالانضمام لإنجلترا، ومنذ اللحظة الأولى، عملت على جعل مصر معسكراً لقواتها وقوات حلفائها، بسبب موقعها الاستراتيجي وأهمية قناة السويس.
وبالتالي فقد سعت بريطانيا إلى تدعيم موقعها فى مصر بشتى الطرق، لتكون معسكراً لقواتها، وهو ما دفعها لإعلان الأحكام العرفية وتكوين فرق من الجمَّالة والعمال الذين تولوا مهمة بناء الجسور وحفر الآبار فى العديد من الأماكن منها شرق السويس ودول الشام ومنطقة السلوم وليبيا والسودان، وفرنسا وفالونيك في اليونان، بحسب صحيفة الأهرام المصرية.
المهام التي كُلف بها الفيلق المصري
مع بداية الحرب، تم تأسيس شركات لتوريد فيالق من العمال المصريين للعمل في بناء السكك الحديدية والطرق والنقل وغيرها. وتم تكليفهم بإدارة الصرف الصحي ووظفتهم كعمال شحن وتفريغ وبناء أرصفة.
قاموا بتحميل وتفريغ شحنات الأسلحة والمؤن، ونقل المخازن لمستودعات الإمداد والشاحنات المحملة.
كما وضعوا خطوط الأنابيب، وبنوا السدود للسكك الحديدية في مختلف الدول التي وقعت تحت "الحماية" البريطانية، وساعدوا في وضع مسارات القطارات، وتحميل القطارات وتفريغها، وتشغيل قوارب ركوب الأمواج، وتخزين أو تفريغ حمولات قوارب ركوب الأمواج من سفن الإمداد والتخزين، كما تم توظيفهم في كل مكان في مهام الصيانة.
وبحسب موقع Western Front Association، كان فيلق العمل يطبخ وينظف ويهتم بالجنود في الخطوط الأمامية وخلف الخطوط. كما قاموا بحفر الآبار والخنادق، ونقل الجرحى ودفن الموتى.
في كتاب "مصر في الحرب العالمية الأولى"، وثقّت الكاتبة وأستاذة التاريخ المصرية لطيفة سالم، بيان الصحفي القائم بأعمال السفارة البريطانية ومراسل المانشستر جارديان، جاء في متنه التالي:
احتوت فرقة الجمَّالية على 100 ألف رجل، ذهب منهم 23 ألفاً استخدموا في فرنسا، وقدمت هذه الفرقة الخدمات الجليلة، التى يصفها قائلاً: "لا يمكن لقنبلة أو لرصاصة أن تحرك وتثير الفلاحين الذين جمعوا وسجلوا من القرى المصرية".
وتابع: "كلهم عُزّل من السلاح وغير مدربين على الحرب، ولكنهم يسرعون في تلبية نداء ضباطهم البريطانيين والرصاص يدوّي ويتساقط حولهم دون أن يجفلوا".
وبحسب الباحثة المصرية: "كان الكرباج هو الوسيلة الوحيدة لتسخيرهم، وأصبح الجلد من الأعمال اليومية في معسكرات المجندين وأي معسكرات، لا خيام، وسوء تغذية، قلة غطاء، ثم أمراض تفترسهم افتراساً، كانوا يموتون كالذباب في الصحراء، وكثيراً ما رُفض السماح لهؤلاء بالعودة إلى بلادهم حتى انتهاء مدة خدمتهم".
دور منسيّ وتوظيف بالسخرة والإكراه
بالرغم من الدور المحوري لهم، لكن اليوم نادراً ما يتم الاعتراف بمساهمات العمالة المصرية وتضحياتها خلال الحرب، ويصعُب الوصول لبيانات رسمية منشورة في مصادر موثوقة متاحة للجميع.
ومع ذلك، اعترف ريجنالد وينجيت، القائد العسكري البريطاني وحاكم السودان والمندوب السامي لبريطانيا في مصر، في 8 مايو/أيار من عام 1918، بأهمية الحفاظ على قوة العمل المصرية وفيلق الجمالية المصري للنقل ومهام الشحن للجنرال إدموند اللنبي في عمليته العسكرية في فلسطين وسوريا.
وأتى ذلك في الوقت الذي اندلعت فيه أعمال شغب وعصيان بين العمال والفلاحين المصريين نتيجة تردي أوضاعهم وعملهم بالسخرة لساعات طويلة.
ففي البداية، فكر وينجيت في "شكل من أشكال الخدمة الإلزامية".
وبالفعل، من خلال استخدام الطبقات المؤثرة في المجتمع، مثل شيوخ القرى وعُمدة البلدات الزراعية الفقيرة، تم تجنيد الرجال البالغين من مختلف الأعمار، ووعدهم بامتيازات لم تكن واقعية بالضرورة.
كان هؤلاء الرجال في أغلب الأحيان من القرويين الذين يعانون من فقر مدقع، وكان الإغراء اليومي البالغ 7 قروش، وحصص غذائية، امتيازات جذابة للغاية بالنسبة لهم.
أعمال شغب نتيجة السُّخرة وسوء المعاملة
لكن عندما اتضح أن المال والطعام لن يكونا كافيين في تجنيد العمال المصريين، فُرضت السلطة العسكرية بشروط الحماية على جميع المسؤولين والمدنيين المصريين. وبالتالي قام اللورد الملازم أو العمدة، ورؤساء بلديات المدن المصرية بتنظيم عصابات من الحراس المسلحين لتجنيد ومراقبة العمال.
ويُعتقد أيضاً أن أعضاء فيلق العمال المصريين كانوا "مختومين" مثل أعضاء فيلق نقل الجمال المصري بختم مثبت على معاصمهم.
وفي البداية، وبعد نقلهم ببواخر إلى مقار توظيفهم الجديدة، كانت فترات خدمتهم قصيرة ثم زادت تدريجياً. وبحلول النصف الأول من عام 1918، بدأت أعمال الشغب نتيجة السُخرة والقسوة المفرطة في ظروف العمل، وحتى وفاة بعض العمال نتيجة الأوضاع المعيشية السيئة، بحسب موقع Commonwealth War Grave Foundation.
لكن بطبيعة الحال، لا يوجد وثائق رسمية مُفضح عنها من قِبَل الجانب البريطاني للوقوف على أعداد الضحايا وهوياتهم وظروف العمل التي عانوا منها، أو تحديد المسؤولين.
لفتت أستاذة التاريخ المصرية لطيفة سالم لصحيفة المصري، أن "الكرباج كان الوسيلة الوحيدة لتسخيرهم، وأصبح الجلد من الأعمال اليومية في معسكرات المجندين وأي معسكرات، لا خيام، وسوء تغذية، قلة غطاء، ثم أمراض تفترسهم افتراساً، كانوا يموتون كالذباب في الصحراء، وكثيراً ما رُفض السماح لهؤلاء بالعودة إلى بلادهم حتى انتهاء مدة خدمتهم".
أعداد تقريبية للمشاركين في الفيلق المصري
عمل مئات الآلاف من المصريين، معظمهم من العمال والفلاحين الأميين من الريف، في فيلق العمل المصري التابع للجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى.
وفي ذروة الحرب، كان ما لا يقل عن 10,000 عامل من الفيلق يعملون في مدن الموانئ الفرنسية مثل مرسيليا وكاليه وبولوني، بحسب موقع Proquest.
وفي فرنسا، عملوا جنباً إلى جنب مع عمال مهاجرين آخرين تم تجنيدهم من أماكن بعيدة مثل الصين وجزر الهند الغربية، وجنوب وشمال إفريقيا، وكُلفوا بمهام مثل تحميل وتفريغ السفن ونقل محتوياتها إلى أقرب سكة حديد لنقلها إلى الجبهة الغربية.
وعندما دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب بصورة رسمية، غير البريطانيون الوضع القانوني لمصر من مقاطعة عثمانية إلى محمية بريطانية ، وجندوا مئات الآلاف من المصريين للعمل كعمال لوجستيين يدعمون القوات الإمبراطورية البريطانية ضد العثمانيين وحلفائهم في الدردنيل، بلاد ما بين النهرين، وشبه جزيرة سيناء وفلسطين والصحراء الغربية والسودان.
وكان العدد الإجمالي للمصريين المجندين للخدمة في الجيش البريطاني من 17 مارس/آذار 1917 إلى 30 يونيو/حزيران 1918، أكثر من 320 ألف عامل وفلاح مصري، بحسب موقع Proquest.
خسائر بشرية ومادية بدون اعتبار يُذكر
وعلى مدى 4 سنوات من الحرب، عانى المصريون من خسائر بشرية ومادية ضخمة، وتحولت البلاد إلى معسكر للقوات البريطانية.
وبتجنيد مئات الآلاف، وسط تقديرات أخرى تقول إن العدد وصل إلى المليون مصري في وقت كان التعداد السكاني للبلاد 12.7 مليون نسمة تقريباً في 1917، بحسب صحيفة الوطن المصرية، تكبدت مصر أيضاً خسائر مادية تجاوزت 3 ملايين جنيه وتراجعت الزراعة لغياب الفلاحين، وبالتالي ساد الركود والفقر.
وبسبب تجنيد المصريين بالسخرة والإكراه في الحرب التي لا علاقة لهم بها، كانت تلك أسباب اشتعال فتيل ثورة 1919.
كتبت صحيفة العمال البريطانية في 3 أبريل/نيسان 1919 أن الجنود المصريين تُركوا في الصحراء بدون طعام أو غطاء ليموتوا مثل الذباب، وأنه لم يُسمح لهم بالعودة إلى ديارهم حتى بعد انتهاء تجنيدهم وإتمام مهامهم.
وبحسب موقع Egypt Independent، قال المؤرخ عبد الرحمن الرافعي إنهم عوملوا كالحيوانات ومات كثير منهم متأثرين بجروحهم أو مرضهم في سيناء والعريش وغيرها حول العالم.
وقالت صحيفة المقطم المصرية البريطانية التي صدرت بين 1889 و1954، إن كثيرين ماتوا في فرنسا بسبب البرد أو الكوليرا والأوبئة، ولم يُنقل جميعهم إلى الوطن مرة أخرى.
ومع ذلك، يظل دور مصر التي قدمت مئات الآلاف من أبنائها لمساعدة الحلفاء على الانتصار في الحرب مغفولاً حتى اليوم.
"يا عزيز عيني وانا بدّي أروَّح بلدي"
الأغنية التي لحنها سيد درويش في السنوات التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت كلماتها التي تتحدث عن الغربة والخسارة بمثابة مرآة تعكس تجارب التجنيد السابقة.
ونظراً إلى الضغط على الفلاحين من أجل "التطوع" في فيلق العمال الذي سبق وأوضحناه، مُنح الفلاحون إعفاء من التجنيد في الجيش المصري.
لكن باستخدام مصادر أرشيفية بريطانية وجدت الباحثة والمؤرخة المصرية علياء مسلم وثيقة مثيرة لاهتمام في الأرشيف الوطني البريطاني تُظهر بوضوح كيف كان التطوع في فيلق العمل المصري من الناحية القانونية، وهي خدمة مقدمة للجيش البريطاني على أن تدفع مقابلها الحكومة البريطانية، وليس المصرية.
وبتتبع سجلات الأرشيف البريطانية للوقوف على بعض الشخصيات المصرية التي شاركت في الفيلق المصري خلال الحرب، تتبعت علياء أغنية معينة اعتاد هؤلاء الرجال على غنائها خلال تأدية مهامهم الثقيلة، لافتة بحسب الموقع الرسمي لأستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية في القاهرة والباحث في الوثائق المصرية، خالد فهمي، أن الرجال كانوا يغنون أغنية حزينة بشكل خاص في سيناء وفلسطين وفرنسا.
وعلى وجه التحديد، تتبعت علياء مسلم حسابات ضباط بريطانيين علّقوا على هذه الأغنية الحزينة، ومن خلال تعقب تواريخ ومواقع هذه الروايات الرسمية تمكنت من متابعة الرجال وغنائهم لها من القاهرة إلى العريش ورفح وعكا، إلى بيروت واللاذقية، وأخيراً على متن السفن التي نقلتهم إلى بولوني على بعد أميال قليلة من الجبهة الغربية.
كما عثرت علياء على تقارير بريطانية عن الأغنية نفسها التي غناها هؤلاء العمال المصريون عند عودتهم إلى بلادهم في عام 1918.
وكانت الأغنية هي "يا عزيز عيني" التي لحنها سيد درويش وغنتها نعيمة المصرية في السنوات التي سبقت اندلاع الحرب.
ومن خلال استعراض تاريخ صناعة الفونوغراف في مصر وجدت مسلَّم أن أغنية "يا عزيز عيني" هي في الأصل أغنية فولكلورية تعود إلى عصور سابقة، وأن كلماتها التي تتحدث عن الغربة والخسارة قد تكون عاكسة في أصلها إلى تجارب التجنيد السابقة في تاريخ مصر الحديث نسبياً.
لكن بحسب صحيفة الشروق المصرية، فإن النسخة التي نعرفها حتى اليوم في الفن المصري، وجاءت في فيلم "سيد درويش" 1966، وهي قصيدة من تأليف يونس القاضي، وتلحين وغناء سيد درويش، وتقول: "يا عزيز عيني.. وانا بدّي أروّح بلدي.. بلدي يا بلدي.. والسُّلطة أخدت ولدي"، في تعبير غير مباشر يحكي على لسان أهالي المجندين بالسخرة والعمال في الفيلق المصري، أو الذين تم إلحاقهم بالتجنيد العسكري خلال تلك الفترة من ذلك الزمان.