إلى جانب خطط اغتيال قادة سياسيين من مختلف أنحاء العالم، والتجسّس المكثف على المواطنين الأمريكيين، اكتشف الكونغرس خلال بحثه في خفايا وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) سلاحاً فتاكاً سُمّي بـ"مسدس النوبة القلبية"، يمكنه أن يتسبّب بالموت في دقائق معدودة من دون أن يترك أي دليل.
وبسبب مسدس النوبة القلبية، بعد أكثر من 30 عاماً من العمل غير المقيَّد، تراجعت في العام 1975 الأنشطة السرية لوكالة الاستخبارات الأمريكية؛ بعدما شكّل مجلس الشيوخ لجنة مُختارة برئاسة السيناتور عن ولاية أيداهو، فرانك تشيرش، للتحقيق في نطاق الأعمال الاستخباراتية والانتهاكات الكثيرة التي أقدمت عليها الوكالة.
ووترغيت أولاً، ثم فضيحة الاستخبارات
حينها، وبعد عملية الكشف عن فضيحة "ووترغيت" الشهيرة، أصبح الجمهور الأمريكي شديد الاهتمام بأنشطة وكالاته الاستخباراتية.
تزامناً، كان الصحفي سيمور هيرش نشر مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز" في العام 1974 يشكّك فيه بالأساليب التي تعتمدها وكالة الاستخبارات في عملياتها السريّة، ومن بينها استخدامها لما عُرف بمسدس النوبة القلبية.
ما اضطرّ الكونغرس، بعدما لم يعد قادراً على مقاومة القلق المتنامي، إلى التدقيق في عمل استخباراته والنظر في الزوايا المظلمة للحرب الباردة. فكان بعضها يحمل أسراراً صادمة.
إليكم قصة ما يمكن أن تكون واحدة من أكثر أدوات وكالة الاستخبارات المركزية رعباً على مرّ التاريخ، والتي قيل إن لجنة التحقيق لديها على الأقلّ شهادتين في حادثتين تمّ خلالهما تحضير السموم من أجل استخدامها في مسدس النوبة القلبية للقيام باغتيالٍ سياسي مخطّط له.
في الحالة الأولى، بحسب تقريرٍ نُشر في 22 سبتمبر/أيلول 1975، فكّرت وكالة الاستخبارات الأمريكية في التخلّص من الزعيم الكوبي فيدل كاسترو الذي كان رئيساً لمجلس الوزراء آنذاك.
أما الهدف الثاني، فكان بطل استقلال الكونغو ورئيس وزرائها باتريس لومومبا الذي توفي لاحقاً في حادث غير ذي صلة على الأرجح. ولاحقاً تمّ تسريب لائحة بأسماء القادة الذين أرادت الوكالة التخلّص منهم، من بينهم رئيس جمهورية الدومينيكان رافائيل تروخيو الذي قُتل بالرصاص في العام 1961.
مسدس النوبة القلبية وُلِدَ من سم المحار
مسدس النوبة القلبية هو أحد أعمال ماري إمبري، التي التحقت بالعمل في وكالة الاستخبارات المركزية بعد تخرّجها من المدرسة العليا بعمر 18 عاماً، سكرتيرة في قسم المراقبة الصوتية المُكلَّف بتصميم الميكروفونات الخفية وغيرها من معدات المراقبة.
مع الوقت، تمّت ترقية إمبري إلى قسم الخدمات الفنية؛ حيث طُلب منها العثور على سمٍّ جديد غير قابل للكشف، فقادتها أبحاثها إلى الاستنتاج بأنّ سموم المحار هي الخيار الأمثل.
صارت إمبري، ومن دون أن تعلم، جزءاً من مشروع سُمّي بـ"M.K Naomi"؛ وهو مشروع عالي السرية، مخصّص لتصنيع أسلحة بيولوجية لصالح ترسانة الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة.
و"M.K Naomi" هو خليفة للمشروع الأكثر شهرة "M.K Ultra" الذي تمّ اختباره على أشخاصٍ لم يكونوا على علم بمشاركتهم، أبرزهم سجناء مدمني مخدّرات، وعاملات جنس، ومرضى سرطان.
وفي حين خُصِّص مشروع "M.K. Naomi" لتسميم المحاصيل والماشية، كانت نتائج إمبري مختلفة بحيث وضعت الحجر الأساس للجائزة الكبرى لـ"العمليات السوداء": قتل الإنسان، والإفلات بالجريمة.
كيف تطوّر السمّ إلى مسدس النوبة القلبية؟
بدأ العمل في مختبر في "فورت ديتريك"، وهي قاعدة عسكرية مخصّصة لأبحاث الحرب البيولوجية منذ الحرب العالمية الثانية. جرت الأبحاث تحت إشراف د. ناثان غوردون، وهو كيميائي تابع لـCIA، الذي مزج سمّ المحار بالمياه وجمَّد المزيج في صورة حبيبات صغيرة أو إبرة.
وهذا المزيج سيتمّ إطلاقه من مسدّس من طراز Colt M1911، مُعدّل ومُزوّد بآلية إطلاق كهربائية، يبلغ مداه العملي 100 متر، ولا يصدر ضجيجاً تقريباً. عند الضغط على الزناد، تنصهر الحُبيبة المجمّدة على الفور وتطلق حمولتها السامة في مجرى دم الضحية.
ثم ينتشر سمّ المحار ويصل إلى قلب الضحية، مُحدِثاً ما يشبه نوبة قلبية -من شأن سمّ المحار أن يعطل نظام القلب والأوعية الدموية عند وجوده بجرعات مُركَّزة- ويتسبّب بالوفاة في غضون دقائق. ولهذا أُطلق عليه اسم مسدس النوبة القلبية.
وكلّ ما يتبقى في الأخير بقعة حمراء صغيرة على المكان الذي دخلت إليه الحُبيبة في الجسم، ولا يمكن أن يكتشفها من لا يعرف أن عليه البحث عنها. وبينما يُحتضر الهدف، يمكن للقاتل الفرار من دون أن يلحظه أحد.
الكشف عن السلاح كشَفَ أيضاً لائحة اغتيالات سياسية
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ سلاح النوبة القلبية أشبه بفكرة مقتبسة من أحد أفلام التجسّس، لكن لدى CIA مبرّر للاعتقاد بأنه سينجح بصورة مثالية. ففي نهاية المطاف كان القاتل التابع لجهاز الاستخبارات السوفييتية KGB بوغدان ستاشينسكي قد نجح باستخدام سلاحٍ مشابه أكثر بساطة، ولمرّتين: في العام 1957 و1959.
وتشير العديد من التقارير إلى أن فكرة اختراع مسدس النوبة القلبية لم تكن لتفكّر بها CIA لولا أن KGB لم تسبقها على اختراع أسلحة متطوّرة في مجال القتل والاغتيالات خلال فترة الحرب الباردة.
وكانت إمبري اعترفت، بعد سنوات من مغادرتها وكالة الاستخبارات المركزية، أن مسدس النوبة القلبية المُعدّل اختُبر على الحيوانات والسجناء بفعالية كبيرة. وربما لم يكن ليُكشف عنه أبداً، لولا تنامي الوعي بالعمليات غير القانونية التي قامت بها الاستخبارات الأمريكية.
ولم يكن مجلس الشيوخ ليشكّل لجنة مختارة برئاسة السيناتور تشيرش، للتحقيق في انتهاكات CIA عام 1975، لولا التقارير التي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" والتي تضمّنت تفاصيل عمليات غير قانونية لوكالة الاستخبارات، عُرفت باسم "The Family Jewels" من خلال استخدام مسدس النوبة القلبية.
وسرعان ما كشفت لجنة تشيرش أن الرئيس السابق ريتشارد نيكسون ألغى مشروع "M.K. Naomi" عام 1970، وأن د.غوردون -وخلافاً لأوامر رئيس المشروع د.سيدني غوتليب- قد خبَّأ 5.9 غرام من سمّ المحار، ما يعادل تقريباً ثلث كلّ سمّ المحار الذي أُنتج آنذاك.
كما حققت اللجنة بشكلٍ دقيق في خطط اغتيالاتٍ تستهدف قادة سياسيين مثل الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، ورئيس وزراء الكونغو باتريس لومومبا، بالإضافة إلى دكتاتور جمهورية الدومينيكان رافائيل تروخيو، التي تمت عن طريق استعمال مسدس النوبة القلبية.
نهاية العمليات السرية والاغتيالات
استُدعي مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ويليام كولبي، إلى جلسة استماعٍ حظيت بدعاية كبيرة للإدلاء بشهادته أمام لجنة تشيرش فيمت خصّ استخدام المحار في مسدس النوبة القلبية.
وقد أحضر معه مسدس النوبة القلبية، وسُمح لأعضاء اللجنة بالإمساك بالسلاح وهم يسألونه عن طبيعته وتطويره وطريقة استخدامه. ولا يُعرَف ماذا حدث لمسدس النوبة القلبية بعد هذه المرّة الوحيدة لظهوره علناً.
كذلك، لا يُعرَف بتاتاً ما إذا كان السلاح قد استُخدم مطلقاً، على الرغم من أن كولبي كان قد أعلن أن "هذه المواد أُعدّت لعملية واحدة، ونحن على علم بأن هذه العملية لم تكتمل في الواقع".
وفي الحقيقة، فإن مدير CIA ويليام كولبي كان قد شهد بأن الوكالة عملت على مشروع بفائق السرية لمدّة 18 عاماً، بتكلفة تصل إلى 3 ملايين دولار، بهدف تطوير السموم والكيمياء الحيوية والأسلحة.
تجدر الإشارة إلى أنه، وبعد نتائج لجنة تشيرش، وقّع الرئيس جيرالد فورد في العام 1976 قراراً تنفيذياً يحظر على أيٍ من موظفي الحكومة "المشاركة، أو التآمر للمشاركة، في اغتيال سياسي".
وقد انتهى عصر مسدس النوبة القلبية حين وُقّعَ ذلك القرار، واضعاً بذلك حداً لأكثر سنوات وكالة الاستخبارات المركزية سريةً وعنفاً.