يقرّ غالبية الباحثين والمهتمين بتوثيق أول ظهور وممارسة لـ"الرقص الشرقي" بصعوبة ذلك، لأن الرقص لم يترك محسوسات مادية، باستثناء رسومات الكهوف. ومن هنا، نلاحظ صعوبة تأريخ الرقص وتحديد زمن دقيق ومُحدّد انطلق فيه.
في موسوعته الشهيرة "قصّة الحضارة"، كتب المؤرّخ الأمريكي بول ديورانت أنه "في الوقت الذي كانت فيه طقوس العبادة في الحضارة اليونانية عبارة عن ابتهال وتضرّع وبكاء، كانت طقوس العبادة في مصر القديمة عبارة عن رقص وحركات جسدية للتقرّب من الإله".
لكن بعض المصادر تُشير إلى أنّ أول ظهور للرقص عند الإنسان كان من خلال الرسومات التي اكتُشفت داخل "ملاجئ بيمبتكا" الصخرية في الهند، والتي تُشير إلى أن تاريخ الرقص يعود إلى ما يزيد على 10 آلاف عام (ق.م).
كان طقساً دينياً.. هكذا بدأ الرقص عند الفراعنة
الظهور الثاني لآثار الرقص عند الإنسان يعود إلى 3300 سنة ق.م، حيث وُجدت رسومات في قبور الفراعنة تُشير إلى أنهم كانوا يعرفون الرقص نشاطاً شائعاً في الطقوس الدينية، من خلال رفع النساء لسُرتهن (وهي رمز الأمومة) إلى الأعلى أمام الحجارة المنحوتة؛ كي يبارك الإله خصوبتهن.
فقد تعبّد المصريّون عبر الرقص للإلهة حتحور أو الأم السماوية التي احتضنت الإله حورس وهو طفل بعد مقتل والده أوزوريس، حتى تمكن من الانتصار على إله الشرّ "ست" الذي قتل والده. فصارت حتحور الأم السماوية رمزاً للحب والعطاء والخصوبة.
لكن وفي العام 2019، أشارت دراسة مصرية صادرة عن مركز الأقصر للدراسات والحوار والتنمية -نُشر جزءٌ منها في صحيفة "الشرق الأوسط"- إلى أنّ الرقص في مصر القديمة كان جزءاً من الطقوس الدينية في المعابد، وكان أيضاً ضرورة حياتية، وتسلية دنيوية. وأقيمت حفلات الرقص في كثير من المناسبات الدينية والدنيوية، مثل عيد السدّ، وعيد الأوبت، وحتى الجنازات كانت لها رقصاتها الخاصة أيضاً.
وأضافت الدراسة التي أعدّتها الباحثة المصرية وسام داود، أن الفرعون كان يرقص للإلهة حتحور في عيدها، وأنّ بعض الرقصات التي كانت تؤديها الراقصات في الأفراح والموالد الشعبية المصرية في العصر الحديث، وُجد بعضها مسجلاً على جدران مقابر ومعابد الفراعنة.
ووفقا للدراسة، فقد وثق ذلك عالم مصريات سويسري، يُدعى هنرى فيلد، حيث وصف الرقصات قائلاً: "تبقى القدمان ساكنتين، وتقوم الذراعان والأرداف بحركاتٍ عنيفة، في صورة مشابهة لرقصة العوالم المصرية الحديثة".
خرج الرقص من المعابد إلى الأماكن الخاصة (قصور الملوك والسلاطين) بعد مجيء الديانات التوحيدية. فقد ذُكر في إنجيلَي مرقس ومتى، رقصة سالومي (ابنة هيروديا) أمام زوج أمها الملك هيرودوس الذي افتُتن بها وقال لها: "اطلبي مني، فأعطيكِ". فطلبت رأس يوحنا المعمدان نزولاً عند رغبة والدتها.
التغيُّر العكسي.. هكذا تحوّل الرقص من طقس ديني إلى "رقص المتعة"
مع توافد قبائل الغجر إلى مصر في منتصف القرن الـ16، والذين جاءوا غالباً من الهند بشكلٍ أساسي ومرّوا في طريق رحلاتهم بالعراق، مع وصولهم لمصر واختبارهم عيش حياة بدائية منعزلة بعيداً عن أي أعراف أو تقاليد، ظهر ما يُعرف بـ"رقص المتعة".
في كتابها "على اسم مصر"، وهو بانوراما عن ملامح الحياة المصرية قبل العام 1952، أشارت ريم أبو عيد إلى أنّ "غوازي" الغجر قدمن رقصاً يهدف إلى إمتاع الناس، من خلال حركات اهتزازية سريعة ومبتذلة.
وقبل بداية الاحتلال الفرنسي لمصر مع نهاية القرن الـ18، وصلت مجموعة أخرى من الغجر قادمة من الهند وإيران إلى مصر. كانت الغجريات تستغلّ التجمّعات لتحريك أجسادهن من أجل لفت نظر الرجال بهدف الإغواء والحصول على المال.
حتى ذلك الوقت، لم يكن الرقص الشرقي معروفاً عند عموم المصريين أكثر من كونه عبارة عن حركات مبتذلة بهدف المتعة.
"النحلة".. الرقصة التي حرّمها محمد علي باشا!
مع بداية القرن التاسع عشر، عرفت مصر المقاهي خلال فترة الحكم العثماني. وقد عرفت هذه المقاهي رواد الفكر والإبداع، كما عرفت "رقصات النحل" التي كانت تؤدّيها الغوازي على أنغام الموسيقى الصاخبة، أشهرهنّ كوتشوك هانم (سوريّة الأصل) التي هام بها الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير، إلى حدّ أنّه كتب عنها.
وكانت هذه الرقصة عبارة عن تمثيلية تؤدّيها الغازية، فتُمثِّل أنّ النحل لسعها ثم تخلع ثيابها قطعة بعد قطعة تألماً من لسعات النحل الموهوم، فيُلقى عليها ملاءة كبيرة تغطي جسدها، بينما تقرع الطبول إيذاناً بانتهاء الرقصة.
وفي هذا الإطار، يذكر المستشرق والرحالة البريطاني إدوارد لاين في كتابه "أخلاق وعادات المصريين المحدثين وتقاليدهم" (1836)، أنّ ممارسة الرجال للرقص الشرقي كانت سائدة؛ وذلك لتسامح المجتمع مع رقص الرجال، ورفضه أن ترقص النساء أمام الرجال، ولهذا مُنعت الراقصات من الرقص في القاهرة.
فعندما انتشرت "العوالم والغوازي"، كان هناك رفض شعبي لرقصهنّ، لدرجة أنّ والي مصر محمد علي باشا أمر بمنع رقصة النحلة في مقاهي القاهرة.
"الرقص المقدّس"! هل يعود أصل الرقص الشرقي إلى الهند؟
لكن الرقص الشرقي لم يكن تبلور بعد بالشكل الذي نعرفه اليوم إلا في القرن الـ19. أولاً من خلال الهولندية ماتا هاري التي أُعدمت لاحقاً، لكن عدة مراجع تاريخية تُشير إلى أنها أول من أدخلت "رقص البطن" أو ما يُعرف اليوم بـِ"الرقص الشرقي"، مستندةً إلى طقوس العبادة الهندوسية.
كانت ماتا هاري مرتبطة بعسكري هولندي سافرت برفقته إلى إندونيسيا التي كانت من ضمن مستعمرات هولندا في ذلك الوقت، حيث تعرفت على كيفية ممارسة الهندوس لعبادتهم للإله شيفا عن طريق ما يُعرف بـ"الرقص المقدس"، وهو عبارة عن حركات راقصة، ولكلّ حركة تقوم بها الراقصة الهندوسية معنى معيّن.
وبالعودة إلى الجداريات المنقوشة على المعابد الهندوسية، يمكن ملاحظة أن لباس الرقص الشرقي- كما هو معروف اليوم- يشبه إلى حدٍّ كبير، لباس النساء الهندوسيات.
ومن خلال "الرقص المقدس"، نقلت ماتا هاري طريقة العبادة بالشكل نفسه واللبس نفسه والأسلوب نفسه -الذي يُعرف اليوم باسم الرقص الشرقي- إلى مسارح فرنسا، حيث كانت ترقص دائماً وخلفها مجسم لتمثال الإله شيفا، إله الدمار لدى الهندوس. فاشتهرت في أوروبا بشكلٍ كبير.
خلال الحرب العالمية الأولى، ولأن أكبر زوار المسارح في ذلك الوقت كانوا من الجنود، التهت ماتا هاري بالعمل الجاسوسي. فعملت جاسوسة لدى الألمان لبعض الوقت، قبل أن يعتقلها الفرنسيون ويحاكموها بتهمة الجاسوسية التي أنكرتها.
بدلاً من إعدامها، جندوها لتعمل جاسوسة ضد الألمان؛ نظراً إلى علاقاتها القوية مع الضباط الألمان الذين أوقعوا بها في بلجيكا، من خلال رسائل مشفرة استخدموا فيها شيفرة يفهمها الفرنسيون. فألقى الفرنسيون القبض عليها مرة جديدة، وتمت محاكمتها في باريس وإعدامها بالرصاص قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى في العام 1917.
أول تسجيل "مرئي" لراقصة
يُقال إنّ توماس إديسون سجل عام 1896 أول تسجيل مرئي لـ"راقصة بطن" قادمة من الشرق. وهو لراقصة أطلقت على نفسها اسم Little Egypt وتُشير بعض المراجع إلى أنّ اسمها هو فاطمة جميل، وهي سورية، لكنها استغلت الخيال الغربي تجاه مصر في تلك الفترة بهدف الشهرة.
وبحسب أشهر الروايات عنها، فإنّ أول عروضها كان في معرض شيكاغو العالمي الذي كان "وسيلة استشراقية" ذائعة الصيت في القرن الـ19 لتقديم "شرق مصطنع" داخل أروقة السياسة والثقافة الغربية. وفي كتابه "استعمار مصر"، يقول تيموثي ميتشيل: "يُشير المعرض العالمي هنا ليس إلى معرض للعالم، بل إلى العالم نفسه وقد جرى تصوره (أي العالم) كما لو كان معرضاً".
إذا كان الأمر كذلك، فكيف وصل "الرقص الشرقي الحديث" إلى مصر؟
أيضاً، تزامناً مع تلك الفترة (نهاية القرن الـ19) ومع تزايد وصول أعداد كبيرة من عساكر الإنجليز إلى الإسكندرية. فقد ظهرت لأول مرّة في معسكرات الإنجليز راقصة مصرية معروفة اسمها شفيقة إبراهيم، كانت قد هربت من أهلها وبدأت ترقص في الموالد. فأرسلوا إليها قسيساً يقنعها بالعدول عن الرقص، لأنه كان "حراماً"، فرفضت شفيقة وتبرأ أهلها منها. ولكي تثبت أنها لم تخرج عن التعاليم الدينية ولم ترتكب أي خطأ، أطلقت على نفسها اسم "شفيقة القبطية".
كانت شفيقة حلقة الوصل بين الغوازي والعوالم. والعوالم هن الراقصات المتعلمات اللواتي يُجِدنَ عزف الموسيقى والرقص والغناء. أما الغوازي، فهو لقب يُطلق على اللواتي "غزون" الرقص من دون أن يكنّ قد تعلمنه.
افتتحت شفيقة القبطية صالة خاصة بها للرقص في شارع عماد الدين بالقاهرة، واشتهرت بلباسها الذي كان يغطي جسمها بالكامل. وبلغت من الشهرة والمجد والثراء حداً يفوق الوصف.
حُكي كثيراً عن معجبيها الذين كانوا يحاولون استمالتها من خلال الأموال، ولعلّ أشهر قصة انتشرت عن أحد الذين بلغ إعجابه بشفيقة إلى حدّ كان يأمر بفتح زجاجات الشمبانيا للخيول التي كانت تجر عرباتها.
قيل إنها فقدت ثروتها بسبب إدمانها الخمور والمخدرات والقمار، حتى مرضت وعادت في آخر حياتها إلى مسقط رأسها بحي شبرا في القاهرة فقيرة ومريضة، وتوفيت في العام 1926.
في تلك الفترة أيضاً، ومع بداية العشرينيات، ظهر نجيب الريحاني -وهو عراقي الأصل- صاحب المسرح الشهير الذي يجمع الممثلات والمغنيات، والذي تعرّف في لبنان إلى بديعة مصابني. فاتفقا على أن تشاركه في مسرحه، من خلال الغناء والتمثيل والرقص. وكانت بديعة قد تعلمت الرقص والتمثيل في مدرسة راهبات بأمريكا خلال الفترة التي هاجرت فيها إلى أمريكا الجنوبية مع أسرتها.
في عام 1925، أسست واحداً من أكبر الكازينوهات في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي في العالم العربي، والذي خرج أبرز راقصات ذلك العصر وساهم في بناء معمار الرقص الشرقي وفنون الترفيه.
شهرة بديعة مصابني تخطت المعقول، بحيث كانت دور السينما تعرض إعلان الكازينو الخاص بها قبل كل فيلم عربي أو أجنبي. "كازينو بديعة" أو "كازينو الأوبرا" كان بمثابة صرحٍ أكاديمي فني وأساس شهرة عدد كبير من راقصات تلك المرحلة، أبرزهن تحية كاريوكا وسامية جمال، وملتقى أهمّ فناني تلك المرحلة.