في العام 2022، لا يزال عدد كبير من العائلات يرفض إرسال أبنائهم للدراسة في المدارس الحكومية والخاصة النظامية في إحدى المقاطعات الإيطالية، وعبروا عن رفضهم بما يشبه "العصيان المدني"، ويعود ذلك لرفضهم للإجراءات الصحية لمكافحة جائحة "كورونا" التي تتبعها السلطات، لكن في الحقيقة، يبدو أن الأمر أكبر من مجرد رفض إجراءات صحية، خصوصاً بالنسبة لمقاطعة "بولزانو" الإيطالية التي تتمتع بـ"حكم ذاتي".
اقرأ أيضاً
لماذا يرفض سكان مقاطعة "بولزانو" الإيطالية ذهاب أولادهم للمدارس؟
بحسب مجلة "نوفال أوبسيرفاتور" الفرنسية، فقد فتحت مقاطعة "بولزانو" الإيطالية 27 مدرسة غير قانونية منذ شهر سبتمبر/أيلول 2021 وحتى تاريخ نشر التقرير في 18 فبراير/شباط 2022، وتضم المدارس الجديدة 640 تلميذاً في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، وتنتشر المدارس في قرى "فال بيسيتريا" بجبال الألب في مقاطعة "بولزانو" الإيطالية التي يبلغ عدد سكانها نحو 500 ألف نسمة.
أوضحت المجلة أن السكان اضطروا لهذا بسبب رفض أغلبية سكان المنطقة للإجراءات الصحية التي اعتمدتها الحكومة الإيطالية للحد من جائحة كورونا، من حمل القناع الصحي (الكمامة)، والخضوع لاختبارات الكشف عن الفيروس، وتلقي اللقاحات المضادة لكورونا، لذلك قرر الكثير من أولياء أمور الطلاب إخراج أبنائهم من النظام التعليمي الرسمي، وتسجيلهم بمدارس غير قانونية أضحت تمارس نشاطها بكل حرية أمام أعين السلطات المحلية.
هذه المدارس عبارة عن بنايات قديمة كان بعضها يُستخدم على اعتبار أنه ورشات نجارة، أو مخازن، أو بيوت بمزارع سابقة، ما يعني أن أهالي المقاطعة الواقعة بشمال إيطاليا على الحدود مع النمسا وسويسرا المعروفة بـ "تيرول الجنوبية"، فضلوا تعليم أبنائهم في مبانٍ قديمة غير مجهزة على ذهابهم للمدارس الحكومية الإيطالية الرسمية.
وقد أعلن رئيس بلدية "غايز"، كريستيان غارتنير، عن عجز السلطات المحلية أمام الظاهرة، من خلال تصريح سابق لصحيفة "كوريري" الإيطالية، قال فيه: "لا نعرف حقاً ماذا يجري بداخل تلك البنايات"، وبينما يشكك بعض المتابعين في التصريح واعتباره مبالغة تمهد لخطوات أخرى قد تتخذها السلطات في إحدى أبرز البلديات الرافضة لإجراءات السلطات الإيطالية الصحية.
اقرأ أيضاً
مدارس "سراديب الموتى" في مواجهة "الفاشية"
اعتبرت بعض الصحف الإيطالية أن التاريخ يعيد نفسه، وشبهوا هذه المدارس الأهلية غير المسجلة بتلك التي أُنشئت بـ "تيرول الجنوبية" في العام 1925 في عهد الحكم الفاشي، والتي عُرفت باسم "Katakombenschulen"، والتي تعني باللغة الألمانية "سراديب الموتى".
ولهذه المنطقة تاريخ في الانفصالات والحكم الذاتي والتبعية لدول مختلفة، فمنذ القرون الوسطى وحتى قبيل الحرب العالمية الأولى، كانت "تيرول" تابعة للنمسا، بتسمياتها المختلفة، مثل "الإمبراطورية الرومانية المقدسة" و"الإمبراطورية النمساوية، و"إمبراطورية النمسا والمجر"، وكان سكانها يتحدثون اللغة الألمانية.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، وبعد إقرار معاهدة "سان جيرمان اين لاي" في سبتمبر/أيلول 1919، تم إلحاق "تيرول الجنوبية" (أي بولزانو) بإيطاليا، فيما تم الإبقاء على "تيرول الشمالية والشرقية" تابعة للنمسا، ثم سعى النظام الفاشي بكل قوة بعد صعود "بينيتو موسوليني" للحكم في العام 1922، لتحويل المقاطعة إلى إيطالية العرق واللغة، فشجع الهجرة إليها من المناطق الأخرى للبلاد، وغير لغة التعليم بالمدارس من الألمانية إلى الإيطالية.
لكن سكان "تيرول الجنوبية"، الذين يتحدثون باللغة الألمانية احتجوا على تلك الإجراءات التي اعتبروها "تعسفية"، ولجأوا إلى إنشاء نظام تعليمي موازٍ لذلك المطبق من طرف "الحكومة الإيطالية الفاشية"، وذلك بتدريس أبنائهم بالألمانية في مدارس سرية سُميت "سراديب الموتى"، والتي كانت تتخذ من المزارع والمطاعم مقرات لها، وقد وصل عدد هؤلاء الطلاب إلى حوالي 30 ألف تلميذ.
لكن النظام الإيطالي حارب تلك المدارس بقوة، وبمجرد كشفه عن إحداها فإنّ المُدرسين وأولياء التلاميذ كانوا يتعرضون لعقوبات قاسية بفرض غرامات مالية ضخمة أو الحبس أو النفي.
استمر هذا الوضع حتى العام 1939، بعد التقارب الذي حدث بين زعيم ألمانيا النازية، أدولف هتلر، وموسوليني، وتحالفهما خلال الحرب العالمية الثانية، وقد اتفق الطرفان على السماح لكل مواطن من تيرول الجنوبية بالهجرة إلى ألمانيا على أن يقدم طلبه قبل تاريخ 31 ديسمبر/كانون الأول 1939.
وفعلاً، فقد طلب 86% من سكان تيرول الجنوبية الرحيل نحو ألمانيا، أي هاجر نحو 213 ألف شخص، لكن 75 ألفاً منهم فقط نجح في الهجرة، إذ توقفت عملية الهجرة في العام 1940 لأسباب عديدة من بينها "عدم وجود أماكن شاغرة ومناصب عمل كافية لإيواء السكان الجدد".
"تساهل" في عهد هتلر وموسوليني ثم عودة الصراع بعد الحرب العالمية الثانية
تساهلت السلطات الإيطالية في تلك الفترة مع مدارس "سراديب الموتى" ثم اختفت هذه المدارس تلقائياً ونهائياً بعدما عادت اللغة الألمانية لتفرض وجودها في المدارس العادية لـ"تيرول الجنوبية"، عقب سقوط موسوليني وانضمام إيطاليا للحلفاء، حيث احتلت القوات الألمانية "تيرول الجنوبية" وكل الشمال الإيطالي يوم 9 سبتمبر/أيلول 1943 إلى غاية نهاية الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945).
بعد الحرب العالمية الثانية، عادت "تيرول الجنوبية أو "بولزانو" لسلطة العلم الإيطالي لكن هذه المرة دون النظام الفاشي، حسب ما ورد في بوابة التاريخ المعاصر لجامعة "إنسبروك" عن تيرول النمساوية.
كما أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية سلسلة من الاتفاقيات السياسية والعسكرية تجاه دول المحور المنهزمة، على غرار ألمانيا والنمسا وإيطاليا، وقد أجبر الحلفاء إيطاليا على حماية الأقلية الناطقة باللغة الألمانية، ومنح الحكم الذاتي للمنطقة من خلال اتفاقية" غاسبيري- غريبير"، في اتفاقية أبرمت في الـ 5 من سبتمبر/أيلول 1946، بالعاصمة الفرنسية باريس.
لكن رئيس المجلس الإيطالي، ألسيدي دي غاسبيري، الذي تعود أصوله إلى مدينة "بييفي تيسينو"، بمنطقة "ترانتينو" أراد توسيع هذا الحكم الذاتي إلى أبناء منطقته، فقام بإنشاء إقليم جديد سُمي " ترينتينو – ألتو ألديج"، Trentino-Alto Adige"، حيث أصبح الإيطاليون هم الأغلبية، ما صعب من نيل سكان منطقة "تيرول الجنوبية" (ألتو ألديج) استقلالاً ذاتياً حقيقياً، وفتح المجال أمام صراع سياسي طويل بين النمسا وإيطاليا وصل إلى أروقة الأمم المتحدة، التي أصدرت قرارين مهمين تحت رقم 1497 (31 أكتوبر/تشرين الأول 1960) ورقم 1661 (28 نوفمبر/تشرين الثاني 1961)، تحث من خلالهما الدولة الإيطالية على العودة إلى التطبيق الحرفي لـ"اتفاقية باريس" لعام 1946، التي تنص على حماية الأقلية الألمانية بمنحها الحكم الذاتي الخاص بها.
استقلال ذاتي حقيقي منذ العام 1972
انتهى الخلاف في العام 1972 بمنح المقاطعتين "ترينتينو" و"بولزانو" حكماً ذاتياً، وجرى تقسيم الموارد المالية بينهما، بحيث أصبحت بولزانو (تيرول الجنوبية) مع مرور الوقت أغنى منطقة في إيطاليا، خاصة أنّها تستحوذ على 90% من الضرائب المستخلصة، فيما يترك 10% فقط للحكومة الإيطالية.
حالياً؛ يتحدث حوالي 70% من سكان بولزانو اللغة الألمانية، ويرأس حكومة المنطقة "أرنو كومباتشر" منذ العام 2014، مع 5 نواب ومجلس تشريعي يضم 35 مستشاراً، بحيث تقوم الحكومة بالتسيير وفق الدستور الإيطالي والقوانين العامة للحكومة الإيطالية، لكن بعض القوانين الإيطالية تبقى مجرد حبر على ورق بالنسبة للسكان كما بدا مع قوانين مكافحة جائحة كورونا، وذلك بعكس مواطني الأقاليم الأربعة الأخرى التي تتمتع بالحكم الذاتي، وهي: "سردينيا" و"صقلية" و"فالي دا أوستا" و"فريولي فينيتسيا جوليا".