فرَّ عبد الرحمن الداخل، الملقب بـ"صقر قريش" من الشام إلى الأندلس، هرباً من العباسيين، الذين راحوا يطاردون أمراء بني أمية بعد سقوط الدولة الأموية، وتمكن من تأسيس دولة قوية للمسلمين في الأندلس ازدهرت طوال 275 عاماً، حكم الداخل منها ما يزيد عن 30 عاماً. إدريس بن عبدالله فر أيضاً من بطش العباسيين وأسس دولة قوية في المغرب، عرفت بالدولة الإدريسية وازدهرت قرابة قرنين من الزمن، لكن العطر المسموم لم يسمح لابن عبد الله بأن يحكم دولته الوليدة أكثر من 5 سنوات.
الدولة الإدريسية.. القصة من البداية
كان العباسيون أول أمرهم يستغلون المعارضة الشيعية لإسقاط الأمويين، تمهيداً للاستيلاء على الخلافة، وحرصوا على عدم الظهور أمام أنصارهم على أنهم طامعون في الحكم، لذلك كانوا يعملون ما بوسعهم ليخفوا عن أعين الناس أنهم يريدون تنحية العلويين -أبناء أعمامهم من نسل علي بن أبي طالب- وشهداء الثورات التي قامت ضد الأمويين، وبالفعل استطاع العباسيون إخفاء ذلك عن أعين الناس خاصة آل البيت، الذين أدركوا غرض العباسيين الحقيقي بالاستيلاء على الحكم في وقت متأخر بعد فوات الأوان.
ولما تولى أبو جعفر المنصور الخلافة العباسية كان يخشى طموح العلويين، خاصة محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، لأنه كان يردد أن المنصور قد عقد له البيعة أيام الدولة الأموية أمام عدد من الهاشميين. وفي عام 762م أعلن محمد بن عبدالله الثورة على المنصور، ودعا أهل المدينة إلى بيعته، فاستفتوا بدورهم الإمام مالك في مبايعة محمد والخروج معه على المنصور، إذ بايعوه سابقاً، وكانت فتوى الإمام مالك: "إنما بايعتم المنصور مكرهين، فلا بيعة له في أعناقكم"، وبذلك أخذ محمد بن عبد الله على الحجاز، واتخذ المدينة قاعدة له ولدعوته.
وفي كتاب "الدولة العباسية"، يذكر محمد الخضري بك، أن المنصور أرسل جيشاً لقتال محمد بن عبد الله تحت قيادة عيسى بن موسى، وزحف الجيش إلى الحجاز وحاصر المدينة، وكان محمد قد حفر خندقاً حولها، وطلب النجدة من مكة واليمن، إلا أن القتال قد نشب بين الفريقين قبل أن تصل النجدة، وانتهى بمقتل محمد بن عبد الله.
فشل الثورة وفترة الهدوء
عندما علم إبراهيم بن عبدالله -الذي استولى على البصرة- بمقتل أخيه محمد، خرج إلى الكوفة لملاقاة المنصور، ودارت رحى المعركة في ضواحي الكوفة بين جيش إبراهيم بن عبد الله وعيسى بن موسى في 763م، وانتهت المعركة بمقتل إبراهيم أيضاً، وبذلك فشلت الثورة العلوية ضد الدولة العباسية.
في المقابل، أمعن أبو جعفر المنصور في اضطهاد العلويين؛ فصادر أملاكهم، وزج بكثير منهم إلى السجن، وظل هذا الوضع طيلة عهد المنصور. ولما تولى ابن المنصور أبو عبد الله المهدي عمل على تجنّب المشاكل التي اعترضت والده من قبل، فرد الأموال إلى العلويين وأطلق سراح المسجونين وتقرب منهم وأغدق عليهم الأعطيات، وذلك كسباً لودهم وتجنباً لثورتهم.
وهكذا استطاع المهدي إخماد ثورة العلويين، التي تحولت إلى سكينة وهدوء طيلة ربع قرن، فيما وجد العلويون في الهدوء والهدنة أملاً للم شملهم وتنظيم قواتهم. وما إن توفي المهدي عام 785، وتسلم ابنه موسى الهادي كرسي الحكم حتى انقلبت حالة السلم إلى حرب.
في كتاب "دولة الأدارسة في المغرب"، يذكر الدكتور سعدون نصرالله أنه في ذلك الوقت كانت خراسان تشهد وضعاً مضطرباً بين أهلها وحاكمها الغطريف بن عطاء -خال الهادي- ما جعل زعماء خراسان يتواصلون مع العلويين، الذين رأوا بدورهم الفرصة سانحة للثأر من العباسيين عن طريق خراسان، فأرسلوا المبعوثين إلى خراسان لبث دعوتهم وأخذ البيعة من أهلها.
اشتعال الوضع من جديد
ولم يكن الهادي بغافل عما يجري في خراسان، فقد أطلعته عيونه على النشاط العلوي في خراسان، وإقبال الناس عليهم، إذ وعدوهم بالنصر والمعونة في السراء والضراء، فبادر الهادي إلى وقف الأعطيات التي كان العلويون يحصلون عليها منذ زمن المهدي، وشدد المراقبة عليهم في المدينة، وأخذ يرسل إليهم يحذرهم.
مع الوقت أخذ الهادي يكيل إلى العلويين وزعمائهم التهم للتشهير بهم، فاعتقل الحسن بن محمد النفس الزكية أحد كبار زعماء العلويين بتهمة شرب الخمر، ثم أطلق سراحه، وهكذا حاول الهادي التضييق على زعماء العلويين بشكل مستمر. في المقابل عمل الحسين بن علي -أحد زعماء العلويين- بأخذ البيعة من الناس في المدينة المنورة متحدياً بذلك الهادي، كما يذكر الخضري بك.
ولما انتشر خبر ثورة الحسين بن علي، أسرع والي المدينة العباسي بالذهاب إليه على رأس 200 من الجنود، في الوقت الذي كان قد سيطر فيه الحسين على المدينة، وكان يتجهز للخروج إلى مكة مع أهله وأصحابه وهم زهاء 300 شخص.
في الوقت ذاته سار الجيش العباسي لملاقاة الحسين، الذي كان عدد أفراده 4 آلاف جندي، وفي 11 يونيو/حزيران 786 أقام الجيش العباسي فخاً حيث يخيم الحسين مع أنصاره، وبدأت المناوشات مع ميسرة الجيش العباسي لتنسحب من أمام العلويين وفق الخطة الموضوعة للإيقاع بالعلويين؛ وهو الفخ الذي وقع فيه الحسين بالفعل.
اندفع الحسين وراء ميسرة الجيش العباسي، ليجد نفسه أمام ميمنة الجيش، ويقع هو ومن معه بين فكي الكماشة، حيث أحاط بهم الجيش العباسي وانقض عليهم من كافة الجهات وانتهت المعركة بقتل الحسين والكثير من أنصاره.
التنكيل، وهروب إدريس
كان لفشل ثورة الحسين نتائج سلبية كبرى، إذ حاول العباسيون استئصال العلويين بالكامل، إلا أنّ بعضهم استطاع الهرب من قبضة العباسيين لينجوا بحياتهم، وكان من بين هؤلاء إدريس بن عبد الله الهاشمي القُرشي، أحد العلويين وأخوه يحيى، ويعود نسبهما إلى علي بن أبي طالب.
عمد إدريس وأخوه إلى التمويه، فلبسوا ثياباً قديمة ممزقة، وغادروا مع حجاج مصر وإفريقيا، وركب الاثنان البحر من ميناء ينبع إلى بلاد النوبة، إذ اختار إدريس الذهاب إلى المغرب. وفي مصر بادر إدريس إلى الاتصال بصاحب بريد مصر، الذي كان نصيراً للعلويين، وما إن عرف بوجوده حتى أسرع إلى لقائه، وهنالك عمل على إخراجه من مصر بالسرعة الممكنة خشيةً عليه من عيون بني العباس.
سار إدريس ويحيى مع قافلة البريد الخارجة من مصر المعفاة من التفتيش، وذلك لكي لا يُفتضح أمرهما، وسار الاثنان حتى دخلا القيروان، إلا أنهما خافا على حياتهما كذلك، حيث تقع القيروان تحت حكم العباسيين، فقررا الرحيل إلى تلمسان ومنها إلى طنجة ومنها إلى جبل زرهون، حيث مدينة وليلي التي تُقيم فيها قبيلة أوربة، وفقاً لما ذكره الخضري بك، وذلك في شهر أغسطس/آب من عام 788.
تأسيس الدولة الإدريسية
نزل كل من إدريس ويحيى ضيفين على الأمير إسحاق الأوربي وظلا عنده 6 أشهر، وكان إدريس يقوم بتثقيف إسحاق وتعليمه أصول الإسلام وأحكامه، فازداد تعلق إسحاق بإدريس، وتقرباً من بعضهما البعض حتى خلع طاعة العباسيين وبايعه للإمامة، وجمع أقاربه، وقدم إليهم إدريس فبايعوه بمدينة وليلي، وذلك يوم الجمعة 4 رمضان 172 هـ الموافق 6 فبراير/شباط 789، وعاهدوه على السمع والطاعة.
ويذكر "سعدون" أن قبيلة أوربة كانت وفيرة العدد قوية الشكيمة، فدعت القبائل المجاورة لمبايعته، فلبت القبائل الدعوة وبايعته قبيلتا مغيلة وصدينة. وبعد أن بايعته هذه الجموع انطلق إدريس يجاهد لنشر الإسلام ومحاربة البدع فجند جيشاً من البربر، وخرج غازياً إلى بلاد تامسنا، ففتح أولاً مدينة شالة، التي تقع في الرباط حالياً، ثم أتبعها بسائر المدن والحصون في أقصى المغرب العربي.
وأخذ إدريس ينشر الإسلام في ربوع تلك المدن التي كان يدين أهلها بالمجوسية والمسيحية واليهودية، ثم استأنف الجهاد في المغرب الأقصى لتقع في يده العديد من المدن والحصون مثل فندلاوة ومديونة وبهلولة وقلاع غياثة وبلاد فازاز، وهكذا بسط الإمام إدريس سلطته على المغرب الأقصى وأصبح قوة لا يستهان بها، واضعاً بذلك قواعد وأساسات دولته الجديدة بعد أن كان مطارداً هارباً من العباسيين.
وبعد أن سيطر إدريس على المغرب الأقصى اتجه قاصداً مدينة تلمسان في المغرب الأوسط، فأسرع إليه أميرها عارضاً عليه المبايعة، فأعطاه إدريس الأمان، ودخل المدينة وسط ترحيب أهلها، وبذلك استطاع إدريس خلال سنتين من وصوله إلى المغرب أن يبسط سيطرته على الأراضي الواقعة من مدينة تلمسان حتى المحيط الأطلسي، والذي عمل على توطيد حكمه فيها، وتكوين جيش كبير ليفتح به المدن الإفريقية.
الشماخ والعطر المسموم، واغتيال إدريس
ترامت أخبار فتوحات إدريس إلى مسامع الخليفة العباسي هارون الرشيد في بغداد، فانزعج منها وبدأ يخطط للقضاء على الدولة الإدريسية الناشئة، واستدعى لهذا الأمر الوزير يحيى بن خالد البرمكي لاستشارته في إرسال جيش إلى هناك، وكان رأي الوزير أن يُرسل إليه رجل يقوم باغتياله دون حروب، وأعجب الرشيد بهذا الرأي، وكلف به الوزير.
اختار البرمكي رجلاً من حاشيته يدعى سليمان بن جرير الملقـب بالشماخ، الذي وفد على الإمام إدريس بصفته طبيباً، وكان أول عربي يأتيه من المشرق، فرحب به الإمام بحذر، وسأله عن اسمه ونسبه وموطنه وسبب قدومه، فأجابه أنه من أتباعهم من موالي أبيه عبد الله بن الحسن، وأنه قد أوحشه ما حدث للعلويين، وأطال الحديث في التبرؤ من العباسيين، فسكن إليه إدريس وأنس به، حتى صار الشماخ من مقربيه المخلصين.
وكان راشد -خادم إدريس من أيام مطاردته من قبل العباسيين- ملازماً له لا يفارقه لأنه كان يخاف عليه من القتل بسبب كثرة ما وقع فيه العلويين من مصائب من قبل العباسيين، ويشاء القدر ذات يوم أن يغيب راشد في بعض شؤونه، فدخل بن جرير على إدريس فوجده وحيداً، فتحدث معه لبعض الوقت، ولما لم ير لراشد أثر اغتنم الفرصة وأخرج من جيبه قارورة عطر مسموم، وقدمها لإدريس ليستنشق السم ويسقط مغشياً عليه، بينما هرب الشماخ خارج المدينة.
وصل راشد ووجد مولاه في الرمق الأخير، فأقبل مسرعاً يريد إسعافه، إلا أن روحه فاضت، وذلك في 16 يوليو/تموز 793، في غضون ذلك لم ير راشد الشماخ بين الحضور، فأيقن أنه الذي دسّ السم لإدريس، خاصة بعد أن جاءه خبره بأنه شُوهد على بعد أميال من المدينة.
وفي غضون ذلك اجتمع جمع من البربر وظلوا يبحثون عن الشماخ طوال الليل، ولكن لم يلحق به إلا راشد، إذ أدركه عند الصباح وهو يعبر وادي ملوية، فصاح وحمل عليه بالسيف فقطع يده اليمنى، ثم أخذ يطعنه ويثخنه بالجراح دون أن يستطيع قتله، حتى وقع الجواد براشد، فمنعه ذلك من الإجهاز عليه ليهرب الشماخ، فعاد راشد وأخذ في تجهيز إدريس ودفنه بمدينة وليلي، وقد دام حكمه 5 سنوات، أسس خلالها دولةً استمرت حوالي قرنين من الزمان، وأصبحت إحدى أكبر الدول التي تأسست في المغرب العربي.