يرحل المصريون القدماء عن دنياهم مطمئنين إلى أن رحلتهم الحقيقية قد بدأت للتو، فبعد الموت سينتقلون من أرض مصر إلى جنتهم الموعودة: حقل القصب.
حقل القصب.. هناك حيث تشرق الشمس
بالنسبة للمصريين القدماء لا تنتهي حياة الإنسان عندما يموت، بل على العكس تبدأ للتو، إذ لم يكن الموت سوى انتقال أو عبور إلى جزء آخر من رحلة المرء الأبدية، وإذا كان الميت محظوظاً فسينتهي به المطاف في الجنة، التي تخيلها المصريون على أنها حقل واسع من القصب أطلقوا عليه اسم "آرو".
آرو، أو حقل القصب هو تصور مثالي عن الحياة في العالم الآخر، حيث يستعيد المرء كل ما فقده في حياته الدنيا، ولا يوجد أي شكل من أشكال الألم أو الحزن أو العذاب أو الفراق، ولا يوجد تهديد بالموت، إذ يعيش المرء حياة أبدية في حقل القصب.
وحسبما تخيل المصريون، يقع حقل القصب في الشرق البعيد، إذ كانوا يعتقدون أنه في مكان ما حيث تشرق الشمس، ويبدو حقل القصب ذاك شبيهاً إلى حد بعيد بدلتا النيل، وكما يوحي اسمه فهو يحتوي على حقول هائلة من القصب تمتد على مرأى البصر إلى ما لا نهاية.
بدأ المصريون بالإيمان بجنتهم الموعودة تلك منذ القدم، لكن الفكرة تبلورت تماماً في عصر الدولة الوسطى، أي ما بين 2040-1782 قبل الميلاد، وتطور التصور الكامل لحقل القصب في عصر الدولة الحديثة، أي ما بين 1570-1069 قبل الميلاد.
من القبور إلى النجوم إلى حقل القصب
لطالما آمن المصريون بحتمية الحياة بعد الموت، لكن فكرة حقل القصب لم تكن التصور الأولي عن الجنة والعالم الآخر، بل تطور هذا المفهوم رويداً رويداً إلى أن تبلور بشكله النهائي في عصر الدولة الحديثة كما ذكرنا.
في البداية كان يعتقد أن الموتى يعيشون بالفعل في قبورهم، لذلك كانت قبور الفراعنة تجهز بكل ما يحتاجه الميت في حياته الآخرة.
وفي وقت لاحق اعتقد المصريون أن أرواح الموتى الصالحين تُرفع إلى السماء بوساطة آلهة السماء "نوت"، والتي كانت تحول تلك الأرواح إلى نجوم تزين سماء الليل.
وبحلول عصر الدولة المصرية الوسطى كانت عبادة الإله أوزوريس (إله البعث والحساب) قد ترسخت في مصر القديمة، وبالتالي فقد ظهرت رؤية أكثر تفصيلاً للحياة الآخرة والعالم بعد الموت، ورسم المصريون بوضوح ملامح العالم السفلي والجنة الأبدية المتمثلة بحقل القصب الذي أنشأه الإله رع، ليسكن فيه البشر بعد موتهم.
رحلة الروح وقاعة الحقيقة
عندما ترتفع الروح من جسدها تكون مرتبكة في البداية، لكن النصوص المرسومة على جدران المقابر ستساعد في إرشاد الروح وتهدئتها.
وبعد ارتفاع الروح يأتي أنوبيس "إله الموت" فيسير معها من القبر إلى طابور تصطف فيه الأرواح انتظاراً لدخول "قاعة الحقيقة"، وأثناء الانتظار ستقدم الآلهة الماء البارد للأرواح في محاولة تهدئتها وطمأنتها، وفقاً لما ورد في موقع World History.
في قاعة الحقيقة، (وهي منزل الإله أوزوريس) ستكون الروح في مواجهة مع 42 قاضياً من الآلهة الواقفين إلى جانب موازين العدل بصحبة أوزوريس وتحوت وماعت، كذلك ستواجه الروح الوحش المرعب المعروف باسم "أمت"، وهو وحش خليط ما بين الأسد وفرس النهر والتمساح، ومهمته أكل قلوب الموتى الظالمين.
فبالرغم من أن الموت مجرد مرحلة انتقالية فإن الخلود لن يكون مصيراً للجميع وفق اعتقاد المصريين، فلن تدخل حقل القصب ما لم تجتز اختبارات الآلهة أولاً.
هل تمتلك قلباً أخف من الريشة؟
أما الاختبار الأول فيكون كالتالي: يقدم الميت قلبه ليوضع على إحدى كفتي ميزان العدل، بينما توضع على الكفة الأخرى ريشة بيضاء من جسد "ماعت" (إلهة الحق والعدل والنظام)، فإذا كان القلب أخف من الريشة فهذا دليل على أن الميت شخص صالح يستحق العبور إلى الجنة.
أما إذا كان قلبه أثقل من الريشة فهذا يعني أنه إنسان مثقل بالذنوب والخطايا ولا يستحق الخلود في النعيم، فيُرمى قلبه إلى "أمت" ليلتهمه. وبذلك يموت المرء ميتة ثانية ويختفي تماماً من العالم بينما تظل روحه قابعة في العذاب إلى الأبد.
الوصول أخيراً إلى حقل القصب
اختبار القلب هو أصعب الاختبارات على الإطلاق، لكنه ليس آخرها، فإن اجتاز الميت هذا الاختبار فإنه يترك قاعة الحقيقة ويتوجه إلى بحيرة يجد عندها مخلوقاً مرعباً آخر، ويتوجب عليه أن يجد طريقة ليكون لطيفاً مع هذا المخلوق كي يسمح له بالعبور.
وإذا تمكن من ذلك أخيراً سيجتاز المياه باتجاه شاطئ حقل القصب الموعود.
بمجرد الوصول إلى هناك ستجد الروح كل شيء فقدته عند الموت.
إذ إن حقل القصب يعتبر محاكاة مثالية للحياة الدنيا، يجد فيه المرء منزله القديم وأحباءه الذين ماتوا قبله وحتى كلبه أو قطته أو حيوانه الأليف المفضل والأشجار التي كان يستظل بها أو الجداول التي كان يمشي بجانبها.
ويعيش المرء في حقل القصب إلى الأبد إلى جوار الآلهة، في ربيع أبدي وموسم حصاد لا ينتهي، حيث لا مكان للألم والمعاناة.
ويستمتع الموتى في جنتهم تلك بالأطعمة اللذيذة ويمارسون الصيد كما يقومون بنفس الأعمال التي كانوا يقومون بها في الحياة الدنيا، لكن عمالاً سحريين يدعون " الأوشبتي" يقومون بمساعدتهم كي لا يشعروا بالتعب.
تمييز طبقي في الجنة الموعودة
على الرغم من أن حقل القصب كان مثالاً لما يفترض أن يكون "فردوس" العالم الآخر، فإن هذا الفردوس لم يكن متاحاً للجميع على قدم المساواة.
إذ لم تكن تُمنح الحياة في حقل القصب إلا لأولئك الذين يمرون بمراسم تشييعٍ وتحنيطٍ ودفنٍ خاصَّة، وفق الطقوس الجنائزية المصرية القديمة، ولذلك كانت دائماً للأغنياء فرص أكبر للفوز بهذه الحياة، فيما واجه الفقراء مصاعب حيال تأدية الطقوس بالشكل المناسب لموتاهم.
ولهذا السَّبب كان بعض الفراعنة يطمسون قبور خلفائهم، لتقليل فرصهم في بلوغ حقل القصب، ومن أمثلة ذلك طمس تحتمس الثالث لقبر خليفته حتشبسوت.
كذلك فإن الهرم الاجتماعي المصري يحافظ على صرامته في حقل القصب، فالأغنياء يبقون أغنياء والفقراء يبقون فقراء والفراعنة يبقون فراعنة.
لِمَ ابتكر المصريون حقل القصب؟
رغم الاعتقاد الشائع بأن المصريين القدماء كانوا مهووسين بفكرة الموت، لدرجة أنهم أعدوا الكثير من التحضيرات لاستقباله، فإن العكس هو الصحيح. فقد أدرك المصريون القدماء جمال الحياة وسحرها ولم يرغبوا أن تنتهي أبداً، لذلك تصوروا عالماً مماثلاً للحياة التي أحبوها وأطلقوا عليه اسم: حقل القصب.