في شهر يوليو/تموز من كل عام يجتمع بعض من أغنى وأقوى الرجال في العالم في مخيم بمساحة 2700 فدان في "مونت ريو" بولاية كاليفورنيا، لقضاء أسبوعين من المحادثات السرية للغاية، وأداء بعض الطقوس الغريبة، بعيداً عن أعين الصحفيين والعامة بين الأشجار العالية، ووراء السياج الأمني الذي يمنع من تسلل أي شخص من غير المدعوين إلى الحفل.
فبينما صرح أحد حاضري "البستان البوهيمي" وقادة البوهيمية بأن الأشخاص الذين يتجمعون هناك "يشاركون الشغف بالهواء الطلق والموسيقى والمسرح"، كشفت صحيفة "واشنطن بوست" أن الأشخاص الذين يجتمعون في البستان البوهيمي كان من بينهم رؤساء أمريكيون سابقون، بارونات نفط، وقادة أعمال بارزون عملوا في العام 1942 على تخطيط "مشروع مانهاتن" في البستان، ما أدى إلى إنشاء القنبلة الذرية، وهو ما يعطي انطباعاً آخر تماماً ومغايراً كلياً عن صورة الهواء الطلق والموسيقى.
فيما يحيط البستان البوهيمي الكثير من الادعاءات والشائعات التي لا تجد أي مصادر لإثباتها، لندرة المصادر عن ذلك النادي النخبوي وشديد السرية، إلا أن هناك بعض التسريبات التي خرجت من هذا المجتمع إلى العلن، والتي نتناولها في هذا التقرير، ولكن دعونا أولاً نتعرف على ما هي البوهيمية؟ وكيف وأين نشأت؟
نشأة البوهيمية.. عن غجر بوهيميا والفقراء
بوهيميا هي منطقة كبيرة في التشيك منذ العام 1993، ومن قبلها كانت جزءاً من تشيكوسلوفاكيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أما عن معنى كلمة بوهيميا في اللغة التشيكية فهي تعني "التشيك"، حيث إن الكلمتين تحملان نفس المعنى والدلالة.
وبالرغم من أن سكان بوهيميا لم يكونوا من الغجر، الذين يعيشون حياة الفقر والتشرد والترحال الدائم في كثير من البلاد حول العالم، فإن الكثير من المثقفين خلطوا بينهم ووصفوا سكان بوهيميا بالغجرين، وذلك لتقارب شكل حياة البوهيميين والغجر، وتشابه بعض الخصائص بينهم.
ثم بحلول منتصف القرن التاسع عشر، بدأ الفنانون والمثقفون الفرنسيون مثل جورج ساند وأونوريه دي بلزاك في ربط البوهيمية بالغجرية بشكل واضح، والذين أصبحوا يصفون الفرد البوهيمي على أنه: "الشخص الذي يعيش حياة متشردة غير منظمة بدون موارد مضمونة، ولا يقلق بشأن الغد"، وبهذا تحولت البوهيمية من قومية تتميز ببعض العادات والتقاليد في التشيك إلى ثقافة عالمية انتسب إليها الكثير من الفنانين والصحفيين والكتاب، وأطلق على هذه الثقافة "ثقافة البوهو".
أُطلق على كثير من الفنانين الفقراء: الفنانون البوهيميون الذين وجدوا أنفسهم في كثير من الأحيان يعيشون أسلوب حياة لا يختلف على الأقل من الناحية الاقتصادية عن أسلوب حياة الغجر المهمشين بشدة، كما تحولت ثقافة البوهو إلى أسلوب أزياء (موضة)، وموسيقى، وكتابات فنية تميل إلى رفض الأعراف الاجتماعية وتميل إلى المعارضة السياسية، كما يعيش البوهيميون حياة الترحال والسفر المستمر بسبب الفقر، وذلك للبحث عن فرص للكسب في أماكن أخرى.
في جوهرها، كانت البوهيمية تمثل رد فعل ثقافياً واجتماعياً ضد مظاهر الحياة البرجوازية، وهو ما جعل البوهيمية تتشابك مع العديد من الثقافات والمجتمعات الأخرى مثل حركة الدفاع عن البيئة الذين يخوضون حرباً من أجل القضاء على أسلوب الحياة الذي يضر بالكوكب، وكذلك أصحاب المدرسة التقليلية الذين يحاربون النزعة الاستهلاكية ويعيشون بموارد قليلة، ولا يكدّسون ما لا يحتاجون إليه، وكذلك النباتيون الذين لا يأكلون أياً من اللحوم، والذين ينفذون نظام الماكروبيوتيك، الذي يُعرّف على أنه فن الصحة وطول العمر، وفق تقرير شبكة BBC البريطانية.
تقول فرجينيا نيكلسون مؤلفة كتاب "بين البوهيميين": البوهيمية هي "الإحساس بالتضحية، الإحساس بالنقاء، والتخلي عن الأشياء"، وتقول أيضاً: "كثير من الناس يعتبرون البوهيميين مخربين، ونخبويين، وربما غير ناضجين قليلاً".
النادي البوهيمي: من ثقافة الفقر إلى بستان النخبة
في العام 1872 تأسس النادي البوهيمي في سان فرانسيسكو على يد مجموعة من الفنانين والكتاب والممثلين والمحامين والصحفيين الذكور، حيث يقتصر النادي على الرجال فقط، ولا يسمح بانضمام النساء إليه.
وعلى مدار أكثر من قرن نما عدد أعضاء النادي البوهيمي ليصل إلى ما يقرب من 2500 عضو، من بينهم العديد من رؤساء الولايات المتحدة السابقين، والسياسيين رفيعي المستوى، والمسؤولين العسكريين، وللانضمام إلى النادي البوهيمي يجب على المرء أن يتلقى دعوات من أكثر من عضو في النادي، ومن ثم يدفع العضو الجديد رسوماً بقيمة 25 ألف دولار، بالإضافة إلى الرسوم السنوية، حسب موسوعة Britannica.
يقع موقع النادي على مساحة تُقدر بـ2700 فدان، ومع هذه المساحة الشاسعة التي تجعل من السهل التسلل إلى أرجاء البستان البوهيمي، إلا أن التسلل والوصول داخل البستان أصبح صعباً بمرور الوقت وبشكل متزايد، ما أضفى الغموض والريبة على الأحداث والمشاركين في هذا النادي السري.
وبسبب تلك السرية والغموض التي اتسم بها النادي البوهيمي حاول العديد من الصحفيين التسلل لداخل البستان البوهيمي أثناء إقامة مراسمه، ونجحوا في الكشف عن بعض التفاصيل حول أنشطة النادي والأعضاء والضيوف المشهورين داخله، وهو ما أدى إلى تنظيم العديد من الاحتجاجات أمام البستان البوهيمي، مشيرين إلى عدم المساواة الاقتصادية وقضايا العدالة الاجتماعية التي يتسبب فيها مثل هذا النادي النخبوي والسري.
وطبقاً لتلك التسريبات -التي نشرتها موسوعة بريتانيكا- يُعتقد أن "المعسكر البوهيمي" يستمر لمدة 16 يوماً، والذي يتضمن الحفلات الموسيقية، والمسرحيات، والمحاضرات، التي تسمى "محادثات جانب البحيرة"، بجانب مراسم وطقوس تعبدية مريبة رصدها بعض الصحفيين المتسللين إلى البستان، كما تُراجع سياسة الإدارة الأمريكية، وتُعقد العلاقات، وتُقام الشبكات غير الرسمية بين الحاضرين، وكل ذلك بعيداً عن أعين الجمهور.
بعض التسريبات عن "البستان البوهيمي" رغم التكتم والسرية
لا يوجد الكثير من المعلومات حول النادي البوهيمي وطقوسه، بسبب السرية والكتمان اللذين تمتاز بهما مراسم ذلك النادي، لكن الكثير مما نعرفه اليوم هو من أولئك الذين تسللوا إلى المخيم، الذين كان من بينهم المخرج الأمريكي أليكس جونز، ففي العام 2000 دخل جونز ومصوره المخيم بكاميرا خفية وتمكنا من تصوير حفل البستان البوهيمي.
خلال الحفل كان أعضاء النادي يرتدون أزياء غريبة تميل إلى ملابس العصور الوسطى، ويحرقون دمية أمام تمثال على شكل بومة يبلغ ارتفاعه 40 قدماً، وذلك كطقس احترام "قربان" لأشجار الخشب الأحمر المحيطة بالبستان في كل مكان.
فيليب وايس، متسلل آخر وأحد كتّاب مجلة سباي، استطاع دخول البستان البوهيمي كضيف لمدة سبعة أيام العام 1989، وكان البستان يضم عدة آلاف من الأعضاء، وعلى إثر هذا التسلل نشر الكاتب مقالاً بعنوان "داخل البستان البوهيمي" كتب فيه: "أنت تعلم أنك داخل البستان البوهيمي عندما تنزل على درب في الغابة، وتسمع موسيقى البيانو من وسط مجموعة من الخيام، ثم تدور حول منعطف لترى رجلاً معه بيرة في يد، وباليد الأخرى يقوم بالتبول في الأدغال، لتكتشف أنه أحد رجال الأعمال الكبار، أو أنه من كبار السياسيين في تلك البلاد". ويُعد هذا الأمر -التبول عارياً في أي مكان- هو أحد الطقوس الأكثر تمجيداً في المخيم، حيث يمتلك الرجال حرية التبول أينما يريدون.
متحدثاً عن البستان البوهيمي، يقول الرئيس السابق بيل كلينتون: "هذا هو المكان الذي يصعد فيه هؤلاء الجمهوريون الأثرياء، ويقفون عراة أمام أشجار الخشب الأحمر، أليس كذلك؟ لم أذهب أبداً إلى النادي البوهيمي، لكن يجب أن تذهبوا لكي تحصلوا على بعض الهواء النقي".
أبرز أعضاء النادي البوهيمي
كما ذكرنا، يختار النادي البوهيمي أعضاءه، والذين يكونون عادة سياسيين نافذين كبار، وقيادات عسكرية كبيرة، وكبار رجال الأعمال، ومن خلال التسريبات التي خرجت من داخل النادي، عُرفت هوية بعض الشخصيات التي كانت حاضرة في مراسم النادي، ومن هذه الشخصيات:
- الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان، والذي ظهر في إحدى الصور المسربة من داخل البستان، وهو جالس على منضدة وبجانبه العديد من الشخصيات الأخرى التي تظهر في الصورة.
- الرئيس ريغان، كان الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون يجلس بجانبه على هذه الطاولة أيضاً، حيث يظهر في الصورة بوضوح.
- وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنج: وهو أحد أهم الشخصيات السياسية على مدار التاريخ الأمريكي، وإلى الآن، والذي يعود إليه العديد من القرارات المصيرية الكبرى بشأن الولايات المتحدة والعالم في القرن العشرين.
- والتر كرونكايت: صحفي أمريكي ورائد في البرامج الإخبارية التلفزيونية، والذي أصبح معروفاً باسم "الرجل الأكثر ثقة في أمريكا". كان كرونكايت مذيع الأخبار المسائية لشبكة سي بي إس، حيث كان يتحدث عن العديد من الأحداث التاريخية في النصف الأخير من القرن العشرين.
- تشارلز شواب: رائد أعمال في صناعة الصلب في الولايات المتحدة، والذي شغل منصب رئيس كل من شركة كارنيجي للصلب وشركة الولايات المتحدة للصلب، ثم قام لاحقاً بدور رائد في شركة بيت لحم للصلب لتصبح أحد أكبر منتجي الصلب في البلاد.
كثيراً ما تدور الشائعات، أن النادي البوهيمي إنما هو نادٍ لقيادة العالم، إلا أنه لا دليل على ذلك، ومع استمرار مثل هذا المجتمع السري في الانعقاد، ستستمر محاولات التسلل -التي تفشل في أغلب الأحيان- والتي قد تكشف المزيد عن طبيعة ذلك النادي ونشاطاته وحقيقته ليعلم الجمهور الحقيقة وإن كانت ضئيلة.