إذا شاهدت مقاطع فيديو للمدوّنين الذين يسافرون إلى مالطا، ستجد ملاحظة مشتركة يرددها الجميع، وهي أن اللغة المالطية قريبة كثيراً من اللغة العربية، وعلى عكس ما قد نتصوره، فهذه اللغة فعلاً هي أقرب للعربية حتى من الفارسية أو التركية أو حتى لغات سامية مثل العبرية.
ويرجع هذا إلى أن جزيرة صقلية شهدت منذ الفتوحات الإسلامية الأولى دخول المسلمين إليها وذلك في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، رغم أن حكم المسلمين في الجزيرة لم يستتب إلا على يد القائد الإسلامي أسد بن الفرات الذي دخلها عام 827 ميلادية، ومن ثم استمر الحكم الإسلامي إلى عام 1072 ليدوم الإسلام على الجزيرة لأكثر من قرنين، ما نشر آثار الحضارة العربية الإسلامية في أرجاء الجزيرة والتي امتدت إلى الآن في الجزيرة، حيث هناك العديد من العادات العربية الموروثة، وكذلك الشوارع الكبرى داخل الجزيرة بأسماء عربية واضحة.
كانت اللغة في صقلية أثناء الحكم الإسلامي هي اللغة العربية والتي كانت تتميز بلهجة قريبة من لغة تونس وليبيا، التي امتد أثرها إلى الآن في اللغة الصقلية القريبة من الإيطالية التي تميزت باستخدام العديد من الكلمات العربية. ومن جزيرة صقلية، انتقلت اللكنة التونسية العربية إلى مالطا؛ حيث كان يحكم المسلمون مالطا أيضاً في نفس وقت حكم صقلية، وفقاً لما ذكره الدكتور عزيز أحمد في كتابه "تاريخ صقلية الإسلامي".
لكن اللغة المالطية هي لغةٌ من اللغات الرسمية المعتمدة لدى الاتحاد الأوروبي وتكتب بالأحرف اللاتينية.
اللغة المالطية.. لغة سامية في الاتحاد الأوروبي
في تقرير نشرته صحيفة The Economist البريطانية تحت عنوان "من أين جاءت اللغة المالطية؟"، كان التساؤل الرئيسي عن تشابه اللغة المالطية مع العربية، بينما هي لغة رسمية في الاتحاد الأوروبي معقل الحضارة الغربية، ليس هذا وفقط بل إنها تابعة للكومنولث أيضاً، وهي رابطة شعوب بريطانيا.
وفي كتاب "مسافات وقصائد أخرى" أول كتاب مترجم من المالطية إلى العربية، يقول الشاعر المالطي أدريان كارما: "اللغة المالطية لكنة عربية شابتها بعض المفردات الإيطالية"، بل ذهب إلى اقتراح أن المالطيين "ليسوا سوى عرب مسلمين تحولوا إلى المسيحية تدريجياً بعدما تقطعت بهم السُّبل".
وتاريخياً، تتفرع اللغة المالطية من شجرة اللغات السامية التي تحتوي على اللغتين العربية والعبرية ومجموعة من اللغات الأفريقية مثل الأمهرية، إلا أن اللغة المالطية تميل بشكل ظاهر إلى العربية عن بقية اللغات السامية، وتعد المالطية هي اللغة السامية الوحيدة المكتوبة بالحروف اللاتينية، والتي كانت تُكتب بالأبجدية العربية قبل ذلك في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي، وتعد هي اللغة السامية الوحيدة الناجية من اللهجات العربية المحكية في أوروبا بعد القضاء على حكم المسلمين في كل من الأندلس وصقلية وكريت ومالطا.
من حكم مالطا؟
تقع مالطا في البحر الأبيض المتوسط على بُعد 80 كم فقط جنوب إيطاليا، وهي واحدة من أصغر دول العالم وأكثرها كثافة سكانية، ورغم كون مالطا بلداً صغيراً جغرافياً، فإنها تُعدّ من أثرى الأماكن في أوروبا ثقافياً وتاريخياً ولغوياً.
في العام 1240، بينما كان يحكم النورمانديون مالطا، أجرى الكاهن الأب جيلبرت إحصاء؛ أظهر فيه تعداد مالطا في ذلك الوقت الذي قُدر بـ 9 آلاف نسمة، منها 771 عائلة مسلمة، و 250 عائلة مسيحية، و 33 عائلة يهودية، ما يظهر بقاء المسلمين في مالطا وعيشهم بوئام مع باقي مكونات المجتمع المالطي حتى ذلك الوقت، إلا أنه بحلول العام 1250 كان الإمبراطور الروماني فريدريك الثاني قد طرد الكثير من المسلمين خارج الجزيرة.
ثم في العام 1800 أصبحت مالطا مستعمرة بريطانية، وأصبحت اللغة الإنجليزية لغة رسمية لمالطا، وفي 21 سبتمبر/أيلول 1964 تم إعلان المالطية لغة وطنية، وبهذا أصبحت اللغة المالطية إلى جانب اللغة الإنجليزية اللغتين الرسميتين في البلاد.
وفقاً لاستطلاع Eurobarometer في العام 2012، يتحدث حوالي 90٪ من سكان الجزيرة اللغة الإنجليزية، بينما يتحدث 36٪ الإيطالية، فيما يتحدث كل السكان اللغة المالطية، وتُدرس نصف المواد في المدارس وتقريباً جميع الدورات الجامعية باللغة الإنجليزية، كما أن لافتات المحلات والقوائم تُكتب دوماً باللغتين الإنجليزية والإيطالية، بينما تُنشر الصحف باللغتين الإنجليزية والمالطية، وهو ما يعكس التنوع والثراء اللغوي في الشارع المالطي، وتعدد جذور الهوية المالطية.
الثقافة العربية في مالطا والمالطية
رغم التنوع الحضاري والثقافي في مالطا، إلا أن الثقافة العربية ما زالت حاضرة وبقوة في الثقافة المالطية- رغم جهود الدولة للتحول إلى اللغة الإنجليزية والإيطالية- والموجودة منذ الحكم الإسلامي الذي ترك بصماته على الجزيرة في كل شيء من الطعام إلى الهندسة المعمارية، أما عن تأثيرهم الأكبر فكان على اللغة المالطية الذي يظل أكبر إرث لفترة الحكم الإسلامي.
الذي يتعرض للغة المالطية ويقوم بزيارتها يجد أن العديد من أسماء الأماكن هناك، والأرقام وأيام الأسبوع وكلمات المحادثة الأساسية مقتبسة من العربية، الرقم 1 على سبيل المثال ينطق بالمالطية (wahed) والرقم 2 ينطق (tnejn) والرقم 3 ينطق (tlieta) ورقم 4 (erbgha) أمّا رقم 5 فينطق كما هو أيضاً (hamsa)، بلهجة أقرب للهجات المغاربيّة العربية.
أيضاً تشترك اللغة مع العربية في استخدام اسم الجلالة "الله"، ولا يزال العديد من الألقاب المستخدمة إلى اليوم هي أسماء مشتركة مع عائلات شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وهناك مثل كلمات متطابقة: "مرحباً"، و "كيف أنتم؟"، و "ليلة طيبة"، و "كم يساوي؟".
هناك أيضاً بعض الأمثال التي لها أصلٌ عربيّ، مثل: "بلفلوس تعمل طريق في البحر" والتي تُقال بالمالطية "Bil-Flus taghmel triq fil-bahar"، ومثال: "اليوم أنا وغداً أنت" والتي تُقال "illum jien u ghada int"، وغيرها الكثير.
كلمات عربية بأحرف لاتينية.. أي "فرانكو عربي"
قد يعتقد البعض أن اللغات الفارسية والتركية والعبرية هي أقرب اللغات إلى اللغة العربية؛ إذ تأخذ هذه اللغات الكثير من الكلمات العربية والتي تختلف طريقة نطقها ويُضاف إليها العديد من اللواحق التي تغير معنى الكلمات، في حين تأتي 40% من كلمات اللغة المالطية من اللغة العربية، والتي تشبه كثيراً اللهجة المغاربية، خاصة التونسية، والتي لا تحتاج إلى الكثير من التركيز لتمييزها، وهو ما يجعلها أقرب اللغات إلى العربية.
تُكتب اللغة المالطية بالأبجدية اللاتينية، ولأن الكلمات عربية في الأصل، فكثيراً ما تشعر كأنك تقرأ "فرانكو عربي" عندما تقرأ اللغة المالطية، فمثلاً كلمة الترحيب في المالطية كما العربية هي كلمة "مرحبا – Merħba".
وبينما تحتل اللغتين الإيطالية والإنجليزية نسبة كبيرة من كلمات اللغة المالطية، تصل إلى من 20% إلى 40%، تأتي العديد من الكلمات الشهيرة والمهمة المستخدمة بكثرة في المالطية من العربية، مثل الأعداد والتي تُنطق مثلما ينطقها أهل تونس بالضبط، كما ذكرنا سابقاً، وكذلك الكثير والكثير من الكلمات الأخرى.
كما وجدت دراسة بعنوان "الوضوح المتبادل بين اللغة المالطية المنطوقة والليبية العربية والتونسية التي تم اختبارها وظيفياً" أن هناك ما بين 30% و 40% من الوضوح المتبادل بين المالطية والتونسية، وهي نسبة أعلى من الوضوح المتبادل بين التونسية ومعظم اللهجات العربية الأخرى، ووجدت الدراسة أيضاً أن المتحدثين باللغة التونسية قادرون على فهم حوالي ثلثي ما يُقال لهم باللغة المالطية، ومن المحتمل أن يكون سبب هذه النسبة العالية من الوضوح المتبادل بين اللغتين؛ هي الكلمات المستعارة الإيطالية إلى اللهجة التونسية والتي تستخدم أيضاً في المالطية.
وعندما تم إنشاء قاعدة بيانات/معجم للكلمات المتشابهة بين اللهجة التونسية واللغة المالطية، والتي رصدت أكثر من 1300 كلمة مشتركة يتم نطقها بشكل متطابق تماماً، هذا غير الكلمات المتشابهة التي تختلف قليلاً في طريقة النطق أو المعنى. وتتجاوز أوجه التشابه المفردات المشتركة بين التونسية والمالطية، لتشمل أيضاً القواعد النحوية وحتى الأمثال.
الانفتاح على اللغات الأوروبية وليس اللغة العربية
اللغة المالطية هي اللغة الوحيدة الباقية من اللهجات العربية التي كان يتم التحدث بها في إسبانيا وصقلية في العصور الوسطى، وهي أيضاً اللغة السامية الوحيدة المكتوبة بالخط اللاتيني، فمنذ عام 1934، تمت كتابة المالطية بأحرفٍ لاتينية، وقد كان الناس يكتبون في بعض الأحيان بمزيجٍ من الحروف اللاتينية والعربية.
وقد أظهر استطلاع أجراه الاتحاد الأوروبي عام 2005 أن الشعب المالطي، من بين الشعوب الأكثر كفاءة في اللغات الأجنبية بين مواطني الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وتُظهر نتائج الاستطلاع أن 93% من المالطيين يعرفون لغة واحدة على الأقل غير لغتهم الأم، في حين كان المتوسط في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أقل بكثير؛ إذ بلغت في معظم الدول 50% فقط.
من بين النتائج التي أبرزها الاستطلاع أن اللغة الأم لدول الاتحاد الأوروبي الكبرى- وعلى العكس من مالطا- قال أغلبية كبيرة ممن أجروا الاستطلاع أنهم يتقنون لغتهم الأم فقط. ففي المملكة المتحدة كان 70% لا يتحدثون إلا لغتهم الأم، وفي إسبانيا وإيطاليا والبرتغال كانت النسبة 64%.
أما عن مالطا، فكانت أكثر ثلاث لغات معروفة على نطاق واسع بين المالطيين هي: الإنجليزية، التي يعرفها 89% من السكان، والإيطالية، حيث قال 60% إنه يمكنهم إجراء محادثة بالإيطالية، وفي المركز الثالث: اللغة الفرنسية، التي يمتلكها 17% من السكان.
وعموماً، ينطق بالمالطية ما يقرب من 450 ألفاً هم سكان جزيرة مالطا وجوزو، وتُعرف جوزو بالشقيقة الصغرى لجزيرة مالطا، بالإضافة إلى 100 ألف متحدث إضافي منتشرين في جميع أنحاء أستراليا والولايات المتحدة وكندا وإيطاليا والمملكة المتحدة.