مسكينة زينب.. أي شعور بالألم كان يعتريها وهي تشهد مع أهل البلد إعدام سليمان الحلبي مع رفاقه الذين كان من بينهم ابن خالتها، أحمد الوالي.. وبماذا كانت لتشعر في تلك اللحظة لو أنها علمت أن روح أخيها، عبد الملك شهيب، قد فارقت جسده في نفس ذلك اليوم المشؤوم بعد أن حُكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص في ميناء طولون الفرنسي، والجريمة؟ انتقامه من "فورتين" الجندي الفرنسي الذي قام باغتصابها عدة مرات.
القصة كلها بدأت عندما قرر نابليون اجتياح مصر.
أحلام نابليون في الشرق
في عام 1798 كانت مصر ولاية عثمانية خاضعة بشكل فعلي لحكم المماليك؛ وذلك قبل أن يقرر نابليون بونابرت اجتياحها آملاً ببدء مشروع طامح يؤهِّل فرنسا للاستيلاء على المشرق.
كانت فرنسا وإنجلترا في ذلك الوقت قوتين بارزتين متناحرتين، وكان لسيطرة فرنسا على مصر أهمية كبيرة في معركتها ضد إنجلترا، فبسبب موقع مصر الاستراتيجي سيستطيع الفرنسيون منع الإنجليز من الوصول إلى الهند حيث بدأوا بإقامة المستعمرات الغنية هناك.
وقد أكد نابليون للحكومة الفرنسية أنه بمجرد السيطرة على مصر، سيقوم بالتحالف مع الأمراء الهنود والهجوم على بريطانيا العظمى في مستعمراتها.
استولى نابليون في البداية على جزيرة مالطا ومنها توجه أسطوله البحري إلى الإسكندرية ومنها زحف براً باتجاه القاهرة؛ حيث هزم قوات المماليك هناك وبدأ بتوطيد حكمه في مصر.
وعلى الرغم من التقدم العسكري البري الذي حققه نابليون، لم يكن الحظ حليفه في البحر؛ حيث سارعت القوات البريطانية بقيادة القائد العسكري المحنك نيلسون الذي دمر الأسطول الفرنسي في معركة أبو قير لتكون تلك الضربة الأولى للحملة الفرنسية الفاشلة على مصر.
ثورة القاهرة الأولى
على الرغم من المخاطر المحيطة ببونابرت، إلا أنه دعم موقف جيشه برياً، وتصرف وكأنه الحاكم المطلق في مصر متجاهلاً خسارته البحرية أمام الإنجليز.
وبدأ بونابرت بالترويج لنفسه على الصعيد الشعبي على أنه محرر المصريين من الاضطهاد العثماني والمملوكي مع التركيز على الإشادة بمبادئ الإسلام، لكنه مع ذلك لم يحصل على دعم المصريين وواجه انتفاضات شعبية متكررة كانت أبرزها ثورة القاهرة الأولى وثورة القاهرة الثانية.
أمّأ عن ثورة القاهرة الأولى، فكانت في أكتوبر/تشرين الأول عام 1798 ثار سكان القاهرة على الفرنسيين، بعدما أثارت حميتهم خطب الأئمة في المساجد، فحملوا الأسلحة وأغلقوا الشوارع وأقسموا على إخراج الفرنسيين من المدينة.
كان قائد اللواء وحاكم القاهرة الفرنسي "دوبوي" أول من قُتل على أيدي الثوار، كذلك تمكن الثوار من قتل سلكوفسكي صديق بونابرت ومعاونه، وتجمعت حشود الثوار على بوابات المدينة لمنع قوات بونابرت من الدخول؛ فاضطر للانعطاف والدخول عبر بوابة بولاق للهجوم على الثوار.
استخدم الفرنسيون قوات المدفعية لقمع المدينة الثائرة، وطارد بونابرت الثوار بنفسه وهاجم المسجد الكبير الذي تحصَّن فيه الثوار بالمدفعية فحطم بواباته وقتل الثوار في الداخل.
وبعد سيطرته على الثورة المسلحة، سعى بونابرت إلى إعدام أئمة المساجد من الأتراك والمصريين متهماً إياهم بالتحريض على التمرد، كما فرض على المدينة ضرائب عالية جديدة.
نابليون يتوجه إلى الشام
بعدما قضى نابليون على الثورة في مصر قرر التوجه إلى بلاد الشام فنجح بالسيطرة على يافا- حيث أعدم 3 آلاف سجين- ثم حاصر عكا، لكنها صمدت رغم هزيمة الجيش الذي أرسله العثمانيون لفك الحصار. وبعد أن هاجم الطاعون الجنود الفرنسيين اضطر نابليون للاستغناء عن حلمه في غزو عكا وعاد آفلاً إلى مصر.
في هذه الأثناء كان مركز نابليون السياسي مهدداً في فرنسا، وكان أمامه خياران؛ إما أن يبقى في مصر لتحاك المؤامرات في فرنسا بغيابه، أو أن يعود إلى فرنسا ليسيطر على مقاليد الأمور، وهذا ما حدث بالفعل.
استغنى نابليون عن جيشه المتهالك والمهدد من قبل الإنجليز في مصر تاركاً القيادة للجنرال جان باتيست كليبر. وفي جنح الليل صعد سطح سفينة حربية متخفياً وتوجه إلى فرنسا؛ حيث تمكن من الاستيلاء على السلطة هناك بانقلابٍ عسكريّ.
لكن قبل أن يحدث قتل الجنرال كليبر على يد بطل يدعى سليمان الحلبي، وعلى ظهر تلك السفينة التي حملت نابليون قتل "فورتين" على يد بطل آخر يدعى عبد الملك شهيب.
ثورة القاهرة الثانية و4 طعنات من سليمان الحلبي
كان كليبر قائداً محنكاً وطموحاً أعيا العثمانيين والبريطانيين على حد السواء، فقد ظن هؤلاء أن انسحاب نابليون من مصر ينذر بضعف قواته هناك، فبدأ العثمانيون في تجهيز جيوشهم لغزو مصر واستعادتها بمساعدة البريطانيين.
لكن كليبر تمكن من هزيمتهم في معركة هليوبوليس أو "عين شمس"، لتتجه أنظاره بعد ذلك لإخماد الثورات الداخلية؛ فبالتزامن مع هجوم العثمانيين اندلعت ثورة ثانية في القاهرة.
قامت ثورة القاهرة الثانية في 20 مارس/آذار عام 1800، حيث انطلقت من حي بولاق لتنتشر في سائر أرجاء المدينة ويشارك فيها العامة والأعيان.
تمكن الثوار من قتل العديد من الجنود الفرنسيين، وحاصروا مقر القيادة الفرنسية في القاهرة.
وبالرغم من صمود الثوار مدة 33 يوماً إلا أن كليبر تمكن من قمع الثورة بوحشية كبيرة، وكما بدأت الثورة من بولاق فقد انتهت في ذاك الحي أيضاً، لكن كليبر لم يعش طويلاً بعد ذلك ليتمتع بانتصاراته.
فقد كان الشيخ أحمد الشرقاوي، أحد مشايخ الأزهر الذين قتلوا في أحداث ثورة القاهرة الثانية، وتصادف أن الشرقاوي هو شيخ طالب علم يدعى سليمان الحلبي.
كان سليمان الحلبي في صفوف الثوار، لكن بعد إخماد الثورة عاد أدراجه إلى بلده حلب. وعندما سمع أن بعض القادة الانكشارية العثمانيون يبحثون عن فدائي لقتل كليبر في مصر، قرر أنه الرجل المناسب لهذه المهمة فأفل عائداً إلى القاهرة مرة أخرى.
كانت خطة سليمان الحلبي على بساطتها ناجحة للغاية، ففي صباح الرابع عشر من يونيو/حزيران عام 1800 ذهب كليبر إلى جزيرة الروضة بالقاهرة، لحضور عرضٍ عسكريّ لكتيبة انضمت حديثاً إلى الجيش الفرنسي في مصر.
وبينما كان كليبر يسير في الحديقة برفقة أحد المهندسين المعماريين قابلهما شابٌّ متنكّر في ثياب شحّاذ. مدَّ الشحاذ يده لكليبر ثم عاجله بضربة خنجر أردته قتيلاً، حاول المهندس أن ينقذ رفيقه، لكنّ سليمان الحلبي عاجلهُ بستّ ضربات، وعاد لكليبر ليطعنه ثلاث طعناتٍ أخرى ليتأكد من موته، ثم فرّ هارباً!
زينب، و4 طعنات من عبد الملك شهيب
أشك أن أحداً منكم لم يسمع باسم "سليمان الحلبي"؛ فقد خلص هذا الشاب البسيط مصر والعالم العربي من خليفة بونابرت الطموح.
لكن لا أعتقد أن كثيرين منكم قد سمعوا باسم "عبدالملك شهيب" فلطالب العلم الأزهري هذا قصة مشابهة لم تأخذ نصيبها من الشهرة، ربما لأن شهرة قائد محنك مثل كليبر لا توازي شهرة جندي مثل "فورتين".
كان فورتين أحد حراس نابليون بونابرت الشخصيين، وكان يعسكر في حيِّ يدعى "تل العقارب" في القاهرة.
تسلل فورتين في أحد الأيام إلى بيت عبد الملك شهيب، واغتصب أخته زينب، ولم يكتف بذلك فقد كان يتحين كل فرصة سانحة ليس فيها عبد الملك في المنزل، ليتسلل ثانية إلى البيت ويكرر فعلته، إلى أن اكتشف عبد الملك الأمر أخيراً.
لاحق طالب العلم الأزهري غريمه من بلد إلى بلد وأقسم على قتله، وانتهى به المطاف على سفينة حربية تدعى "لامويرون"، إذ تصادف أنها نفس السفينة التي فر بها نابليون بونابرت عندما ترك مصر تحت إمرة كليبر.
تسلل عبد الملك إلى السفينة دون أن يشعر بوجوده أحد، وفي الصباح تحين الفرصة المناسبة ووثب على فورتين وقتله بأربع طعنات من خنجره.
نهاية سليمان وعبد الملك
بالتأكيد أمسك الحراس بعبد الملك الذي انتقم لأخته أخيراً وتم حبسه في السفينة إلى أن وصلت إلى ميناء طولون الفرنسي، حيث تقرر هناك إعدامه رمياً بالرصاص، وفقاً لما جاء في كتاب "حكايات من دفتر الوطن" لمؤلفه صلاح عيسى.
أما سليمان الحلبي فقد كان موته أكثر شناعة، فقد قطعت رؤوس رفاقه أمام ناظريه أولاً- وكان من بينهم طالب علم أزهري يدعى أحمد الوالي، وهو ابن خالة عبد الملك وزينب – وبعد ذلك حرقت يد سليمان اليمنى وهي اليد التي قتل بها كليبر، ثم تم تنفيذ حكم الإعدام بحقه بالخازوق.
مع ذلك، رُويت العديد من الروايات عن شجاعة سليمان الحلبي في تلقّيه للحكم، فقد وضع يده بنفسه في النار لتحترق دون أن يتأوَّه، وكذلك تقبَّل حكم الخازوق دون هلعٍ أو انهيار.