في منتصف القرن الخامس عشر، اندلعت في بريطانيا سلسلة من الحروب الأهلية عُرفت باسم "حرب الوردتين"، وعكس ما يوحي اسمها الشاعري الذي أطلقه الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير في مسرحيته الشهيرة "ثلاثية هنري السادس"، كانت هذه المعارك من أكثر الحروب دموية في تاريخ بريطانيا.
إذ اندلعت هذه الحرب التي دارت معاركها على مدار ثلاثة عقود منذ عام 1455 وحتى عام 1485، على خلفية الصراع على عرش إنجلترا بين العائلتين الملكيتين المتنافستين "يورك" و"لانكاستر"، وأنصارهما من النبلاء داخل عائلة "بلانتاجانت" الملكية القديمة، التي هزمت من فرنسا في "حرب المئة" عام 1453.
شكسبير سماها "حرب الوردتين" ليس لرومانسية أحداثها، بل لأن الوردة كانت شعاراً للعائلتين، فالوردة الحمراء كانت شعاراً لعائلة "لانكاستر"، أما عائلة يورك فكان شعارها وردة بيضاء، كما ورد في كتاب "ثلاثية هنري السادس" الذي ألفه شكسبير.
ملك ضعيف.. توترات ما قبل "حرب الوردتين"
استولت عائلة "لانكاستر" على العرش الإنجليزي على يد الملك هنري الرابع في العام 1399، بينما كانت بريطانيا منشغلة في حربها مع فرنسا، ولم تكن عائلة يورك تسعى للحكم حتى نهاية حكم الملك هنري الخامس وخلافة ابنه هنري السادس له، عندما توفي الملك عام 1422 كان عمر ابنه تسعة أشهر، وهو يتوج ليكون ملكاً لبريطانيا، ولفرنسا أيضاً بإعلانٍ من الإنجليز، لكنه لم يتوج عليها فعلاً.
أحدث هذا التغيير حالة من الفوضى في الداخل البريطاني، فمن ناحية كانت حرب المئة عام مع الفرنسيين مستمرة، وحالة عدم استقرار البلاط الملكي الخاضع لمجلس الملك الرضيع المكون من هيئة أرستقراطية من أقربائه الذين يريدون السيطرة على مراكز السلطة الفعلية في الملكية من ناحية أخرى.
وفي عام 1445، تزوج الملك الشاب هنري السادس الأميرة الفرنسية مارغريت أنجو، التي وصفها المؤرخون بأنها قوية ولديها خبرة سياسية، ولها طموحات عالية في السيطرة وبسط النفوذ عكس زوجها الذي لم يكن على قدر من اتخاذ القرارات السياسية، حتى إنه اتسم في عددٍ من المصادر التاريخية بالضعف والجنون.
أدى افتقار هنري السادس للقيادة، إلى انتشار الفساد بالمؤسسات وزيادة مهولة في الضرائب وخسارة أغلب ممتلكاته بفرنسا عام 1450، لتشتعل ضده تمردات، وقد اعتقد هنري أن وراءها قريبه ريتشارد دوق "يورك" الذي كان في أيرلندا.
لكن بعد التمردات أصبح ريتشارد، الذي كان منافساً قوياً لهنري في الملك باعتباره حفيد الملك إدوارد الثالث، رئيساً لرابطة بارونية عظيمة، مدعومة من ملك فرنسا، كان أعضاؤها في المقام الأول من أقاربه النبلاء الذين يمتلكون سلاحاً ونفوذاً كبيراً في إنجلترا.
استطاع هنري القضاء على التمردات المندلعة في عموم البلاد، لكن كان عليه مواجهة ريتشارد وأنصاره الذين أصبحوا ينافسون عائلته بشكل علني على المُلك، وذلك قبل الدخول لمعارك استمرت ثلاثين عاماً، شارك فيها ثلاثة أجيال من العائلتين.
جنون الملك هنري السادس وبدء حرب توارثتها الأجيال
بحلول عام 1452، حاول ريتشارد يورك ممارسة الدهاء السياسي، فقاد جيشه إلى لندن معلناً ولاءه لهنري، وفي نيته عزل الملك عن مستشاريه وأقربائه، خاصةً إدموند بوفورت دوق سومرست (غرب إنجلترا)، ومارس عليه الضغوطات لتحقيق ذلك، وكانت خطته بالتأكيد هي الحصول على العرش، كما ذكر الموقع المهتم بالمواضيع التاريخية History.
وفي عام 1453 أصابت نوبة الجنون الأولى هنري، وأصبح غير قادر على القيادة وإدارة الحكم، حتى تمت إزالة دوق سومرست، أقوى رجاله، من منصبه، وأصبح ريتشارد وأعوانه معينين كحماة للعرش، ولكن في هذا العام أيضاً أنجبت الملكة مارغريت ابن هنري الوحيد، إدوارد، الذي أصبح عائقاً أمام مطالب ريتشارد، كما شرحت موسوعة Britannica.
ووفقاً لكتاب "التطور الديمقراطي في بريطانيا 1066-1901"، فقد تعافى هنري من مرضه بشكل مفاجئ كما أصيب به وذلك في بدايات العام 1455، واستطاعت زوجته إبعاد ريتشارد وطرده من البلاط الملكي وإعلان ابنها ولياً للعهد، فيما أعيد دوق سومرست إلى منصبه.
في 22 مايو/أيار 1455، سار ريتشارد يورك بجيشه للتفاوض مع هنري في سانت ألبانز جنوب إنجلترا، وبعد مفاوضات فاشلة، اندلعت أولى معارك "حرب الوردتين" في شوارع المدينة وأسفرت عن مقتل دوق سومرست، وجرح هنري.
كما أُخذ يورك هنري أسيراً وخرج بعد أشهر، وأصبح ريتشارد حامي الملكية مرة أخرى، وهربت الملكة مارغريت هي وابنها الصغير خارج البلاد؛ خوفاً على حياتهما، في الوقت الذي كانت تعقد فيه التحالفات مع أقرباء زوجها ووزرائه؛ لمحاربة ريتشارد واسترداد عرش زوجها وولي عهده.
استعد ريتشارد أيضاً لهذه المعركة القادمة وشكّل جيشاً بقيادة اللورد سالزبوري، الذي التقى جيش مارغريت الكبير والمجهز جيداً، بقيادة اللورد أودلي، في "بلور هيث"، وذلك في 23 سبتمبر/أيلول عام 1459 بمنطقة ستافوردشاير الزراعية في إنجلترا، حيث انتصر فيها جيش يورك.
بعدها بشهر قاد هنري وزوجته جيشاً كبيراً لخوض معركة "لودفورد" وكانت الغلبة لهما، بعد أن حدثت انشقاقات في جيش يورك وفر قادته إلى أيرلندا، وضمنهم ريتشارد الذي عاد لتحشيد عائلته وجيشه مرة أخرى، وعاد مرة أخرى في يونيو/حزيران 1460 ومعه جيش مكون من آلاف الجنود، لخوض معركة "نورثهامبتون"، واستطاع تحقيق النصر عن طريق خيانة أحد قادة هنري، فتم أسر الملك بينما هربت زوجته مرة أخرى.
مع وجود هنري تحت سيطرته، أعلن ريتشارد نفسه وريثاً للملك، وهو ما وافق عليه هنري السادس طالما سيحتفظ بالتاج حتى وفاته، وقد تم تمرير اتفاقهما من قبل البرلمان الإنجليزي وسمي "قانون الاتفاق"، إلا أن الملكة رفضت الاتفاق وتحركت بجيشها.
هنا، انطلق ريتشارد بقواته لهزيمة جيش مارغريت وتسوية مسألة الخلافة بشكل نهائي، واشتبكت الجيوش في ويكفيلد جرين، لكن الأمور لم تسر كما خطط ريتشارد، حيث تم قتله وعرض رأسه المقطوع مرتدياً تاجاً ورقياً.
المرحلة الثانية من حرب الوردتين
بعد مقتل ريشتارد، بدأت المرحلة الثانية من "حرب الوردتين" وفقاً لكتاب "التطور الديمقراطي في بريطانيا 1066-1901"، وذلك مع إعلان ابن ريتشارد إدوارد نفسه ملكاً على إنجلترا باسم إدوارد الرابع، وقيادة عائلة يورك خلفاً لأبيه.
استطاع إدوارد تحقيق مجموعة من الانتصارات في معارك دموية ضد عائلة لانكاستر، أبرزها معركة قرية "توتون" في بريطانيا، التي شارك فيها أكثر من 50 ألف شخص، وقتل فيها نحو 28 ألف شخص في يوم واحد، وذلك في نهاية شهر مارس/آذار عام 1461، وبعدها هرب هنري ومارغريت وابنهما إلى أسكتلندا تاركين إدوارد ملكاً لإنجلترا.
حاولت مارغريت إعادة زوجها إلى عرش إنجلترا وخاضا معركتي "بارنيت" و"توكسبري"، ولكن انتصرت عائلة يورك وقُتل ابنها الوحيد وتم اعتقالها وزوجها في برج لندن، ثم مات في مايو/أيار عام 1471، ووجهت أصابع الاتهام في مقتله لإدوارد، أما مارغريت فقد توفيت في فرنسا عام 1482.
حدث نوع من الاستقرار في عهد تولي إدوارد الخامس ملك البلاد وذلك حتى توفي بشكل مفاجئ في عام 1483، وخلفه ابنه إدوارد الخامس ابن الأعوام الـ12، ولأن عمه ريتشارد الثالث كان يترصد له، بدأت المرحلة الثالثة من "حرب الوردتين".
إذ قام ريتشارد باحتجاز ابني أخيه الصغيرين في برج لندن، بحجة حمايتهما في عام 1483، ثم اختفيا وأصبحت قصتهما مشهورة تاريخياً حتى يومنا هذا باسم "أميري البرج"، وقد اتهم ريتشارد بإصدار الأمر بقتلهما، الأمر الذي أدى إلى فقدان الملك ثقة شعبه.
حقبة جديدة في تاريخ العائلات البريطانية الحاكمة
مع هذه التطورات، ظهرت شخصية حاسمة في تاريخ بريطانيا، وهو هنري تيودور من ويلز، الذي ينتمي لعائلة لانكاستر بصلة قرابة من ناحية والدته، وقد عرض نفسه كوريث للعائلة وحصل على دعم فرنسا والعديد من النبلاء الإنجليز، للمطالبة بالتاج الملكي.
التقى هنري، ريتشارد في معركة "بوسورث" الحاسمة في 22 أغسطس/آب 1485، وقتل ريتشارد وتولى عرش إنجلترا وأصبح فيما بعد يعرف باسم الملك هنري السابع، وبعد إنهائه "حرب الوردتين" الدامية تزوج إليزابيث يورك ابنة الملك إدوارد الرابع؛ لعقد صلح بين العائلتين ويبدأ عصر جديد في إنجلترا، ظهرت بعده أسرة "تيودور".
وفي عهد حكم هذه العائلة توجهت بريطانيا إلى التهدئة مع فرنسا والتوجه إلى استعمار مناطق أوروبية أخرى، مع محاولة إصلاح القطاعين الزراعي والاقتصادي في البلاد، وتضييق الخناق على طبقة النبلاء وإشراك الطبقة الوسطى في مختلف القطاعات، إضافة إلى المشاركة في الثورة التجارية والبحرية الأوروبية، ومحاولة اكتشاف أراضٍ جديدة وراء المحيط.