كان اسمها المعروف بـ"سيدة الموت" يثير الرعب في قلوب الجنود الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، فقد استطاعت خلال بضعة أشهر فقط قتل 309 جنود منهم عن طريق القنص، وهو رقم وضعها في مصافّ أعظم القناصين في كل العصور، إنها المُقاتلة السوفييتية ليودميلا بافيلتشينكو.
من هي ليودميلا بافيلتشينكو، وما الذي دفعها للمشاركة في الحرب؟
وُلدت ليودميلا بافيلتشينكو في عام 1916، في بيلايا تشيركوف، وهي مدينة أوكرانية كبيرة تقع جنوب العاصمة كييف.
توصف بافيلتشينكو منذ طفولتها بأنها فتاة مسترجلة، تشارك في نشاطات الصبيان وتستمتع بهزيمتهم، وبأنها كانت فتاة طموحة، خصوصاً أمام الصبيان، لتثبت أن الفتيات لا يختلفن شيئاً عنهم، وأنهن بنفس القوة إن لم يكنّ أفضل.
في سن الـ14، انتقلت بافيلتشينكو مع عائلتها إلى كييف، وأثناء وجودها هناك التحقت بدورة الرماة، حيث حصلت على شارة Voroshilov Sharpshooter، وهي شهادة رماية مرموقة في الجيش السوفييتي، قبل أن تحصل على وظيفة في مصنع أسلحة محلي، وفقاً لما ذكره موقع المتحف الوطني الأمريكي للحرب العالمية الثانية WWII.
في العام 1937، أي عندما بلغت الـ21 عاماً، بدأت دراسة التاريخ في جامعة كييف، إذ كانت تتمنى أن تصبح مدرسة، ولكن اهتمامها بمنافسة الرجال في نشاطاتهم دفعها للمشاركة في مسابقات الجامعة في الرماية، إضافة إلى تقوية نفسها من خلال الانتساب لدورات استخدام سلاح القناص.
انضمامها إلى الجيش الأحمر
في يونيو/حزيران 1941، أطلق أدولف هتلر عملية بربروسا، وبدأت القوات المسلحة الموحدة لألمانيا، المعروفة باسم "الفيرماخت" بغزو الاتحاد السوفييتي.
كانت بافيلتشينكو آنذاك تبلغ من العمر 24 عاماً، وكانت في سنتها الدراسية الرابعة، ولكن بمجرد أن علمت بالغزو شقت طريقها بسرعة إلى مكتب أوديسا للتجنيد.
دفع الضباط الذين يقبلون طلبات الانتساب بافيلتشينكو لتصبح ممرضة، لكن عقلها كان مصمماً على الانضمام إلى قوات المشاة السوفييتية.
وفي أحد الأيام استطاعت بافيلتشينكو إثبات مهاراتها القتالية وذلك عندما قنصت اثنين من جنود الأعداء، فتم قبول طلبها للانتساب بفرقة البندقية الـ25 في الجيش الأحمر كقناصة، لتصبح واحدة من 2000 قناصة سوفييتية خدمت في الحرب العالمية الثانية، نجت منهن 500 فقط، وفقاً لما ذكره موقع Sky History البريطاني.
إنجازات بافيلتشينكو في معركة أوديسا وترقيتها
قاتلت بافيلتشينكو لمدة شهرين ونصف الشهر تقريباً على الخطوط الأمامية خلال حصار أوديسا، تمكنت خلالها من قتل 187 جندياً من قوات ألمانيا النازية وحلفائها الجيش الروماني والإيطالي.
الإنجاز الذي حققته من خلال قتل عدد كبير في فترة قصيرة جعلها تترقى من رتبة جندي إلى رتبة رقيب أول، وهي داخل المعركة، ولكن سيطرة ألمانيا وحلفائها على أوديسا لاحقاً جعلها تنسحب مع وحدتها العسكرية باتجاه مدينة سيفاستوبول للدفاع عنها.
حاربت بافيلتشينكو في حصار سيفاستوبول لمدة 8 أشهر، حيث أسفر القتال العنيف عن خسائر فادحة في صفوف السوفييت.
في تلك المعركة الشرسة تمكنت بافيلتشينكو من رفع أعداد القتل المؤكدة التي قامت بها إلى 257، فاستحقت الترقية مرة أخرى من رقيب أول إلى ملازم أول.
نزالات القنص مع الأعداء
لم تكن بافيلتشينكو مجرد قناصة تقوم بقتل جنود الأعداء وهي جالسة في دشمتها وحسب، وإنما كانت قناصة محترفة تنخرط بنزالات مع قناصة العدو.
استطاعت بافيلتشينكو الفوز في 36 نزالاً خاضتها مع قناصة الجيش الألماني، بما فيها نزال واحد استمر على مدار 3 أيام متواصلة.
محاولة الجيش الألماني رشوة بافيلتشينكو
في يونيو/حزيران 1942، أثناء القتال في سيفاستوبول، أصيبت بافيلتشينكو بعد أن تطايرت على وجهها شظايا من قذيفة هاون.
قبل أن تتمكن بافيلتشينكو من الشفاء التام من إصابتها، سحبتها القيادة العليا السوفييتية من المعركة، بعد أن رأت أنها ذات قيمة كبيرة للغاية.
بحلول الوقت الذي تم فيه سحبها من القتال في الخطوط الأمامية، أكسبت بافيلتشينكو سمعتها كقناصة لقب "سيدة الموت"، بعد أن تأكد قيامها بـ309 عمليات قتل مؤكدة.
حتى إنّ الجيش الألماني عرفها بشكل جيد، وحاولوا كثيراً رشوتها، حتى إنهم أرسلوا لها الرسائل عبر مكبرات الصوت الإذاعية، وقالوا لها: "ليودميلا بافيلتشينكو، تعالي إلينا، سنقدم لك الكثير من الشوكولاتة ونجعلك ضابطاً ألمانياً".
ولكن رسائل الرشوة هذه تحولت فيما بعد إلى رسائل تهديد، فقد قالوا لها في إحدى تلك الرسائل: "إذا أمسكنا بك فسنمزقك إلى 309 قطع ونبددها في مهب الريح".
من جهتها قالت بافيلتشينكو وفقاً لما ذكره موقع History: "عند سماع التهديد قلت كم أنني سعيدة لسماع أن العدو يعرف سجلي تماماً".
من مقاتلة محترفة إلى وجه دعائي
بعد أن تعافت بافيلتشينكو تماماً من إصابتها لم تتم إعادتها للقتال على الخطوط الأمامية، وبدلاً من ذلك منحتها القيادة السوفييتية دوراً جديداً وهو "الدعاية".
في أواخر عام 1942، وصل بافيلتشينكو التي كانت ملازماً أولاً إلى العاصمة الأمريكية واشنطن نيابة عن الاتحاد السوفييتي، في محاولة منها لحشد الدعم الأمريكي لفتح جبهة أخرى في أوروبا.
فقد كان الجيش الأحمر يعاني من خسائر فادحة، وكان ستالين بحاجة إلى فتح جبهة ثانية من أجل تشتيت وتقسيم الجيش الألماني الذي كان يغزو أوروبا الشرقية بسرعة.
بافيلتشينكو أول مواطن سوفييتي يُرحب به في أمريكا
خلال تلك الزيارة، أصبحت بافيلتشينكو أول مواطن سوفييتي يتم الترحيب به في البيت الأبيض، حيث التقت هناك بالسيدة الأولى إليانور روزفلت، وسرعان ما أصبحتا صديقتين.
خلال تلك الفترة التي قضتها بافيلتشينكو في الولايات المتحدة طلبت السيدة روزلفت منها أن ترافقها في جولة بالولايات، لتتحدث للأمريكيين عن تجربتها كامرأة في القتال.
انطلقت بافيلتشينكو رغم عدم تحدثها الإنجليزية في الجولة، وراحت تلقي خطاباتها أمام الأمريكيين الذين تجمعوا لرؤية أكثر امرأة صلبة في القتال، وكانت تقف أمامهم بزيها الرسمي العسكري.
وفي كل تجمع تقف فيه كانت سيدة الموت تتحدث عن أهمية المساهمة الأمريكية في دعم السوفييت للقتال في أوروبا.
للصحافة الأمريكية رأي آخر
رغم الزخم الكبير الذي حصلت عليه بافيلتشينكو من الشعب والحكومة، فإن الصحافة الأمريكية كان لها رأي آخر، فقللت من شأن إنجازاتها وركزت أكثر على أسلوبها وافتقارها للمكياج.
حتى إن صحيفة New York Times وصفتها بلقب "السيدة القناصة"، بينما أشارت صحف أخرى إلى ملابسها وتنورتها الطويلة، التي وصفوها بأنها تفتقر للأسلوب، وبأنها تجعل منها سيدة بدينة.
في حين سألها مراسل محلي، هل من المسموح أن تضع المرأة السوفييتية المقاتلة المكياج على جبهات الخطوط الأمامية، لتحرجه بافيلتشينكو بجوابها قائلة: "ليس هناك قواعد لهذا الأمر، ولكن من ذا الذي سيكون لديه الوقت للتفكير بأنفه اللامع عندما تكون هناك معركة مستمرة؟"
الانطباع التي تركته لدى الأمريكيين
خلال جولتها في أمريكا، أكدت القناصة السوفييتية عدم وجود الفصل العنصري داخل الجيش الأحمر، وأن هناك مساواة بين الجنسين، فتركت انطباعاً جيداً لدى الأمريكيين، حتى إنها ألهمت المغنية الأمريكية وودي جوثري لكتابة أغنية عنها في عام 1942، بعنوان "الآنسة بافيلتشينكو".
عودتها إلى الاتحاد السوفييتي
عند عودتها إلى الاتحاد السوفييتي تمت ترقية بافيلتشينكو إلى رتبة رائد، ومُنحت لقب بطل الاتحاد السوفييتي، وهو أعلى وسام عسكري في البلاد، كما حصلت على وسام لينين مرتي، وهو أعلى تصنيف مدني في البلاد.
لم تعد بافيلتشينكو للقتال أبداً، لكنها عوضاً عن ذلك دربت قناصين سوفييت آخرين حتى نهاية الحرب في عام 1945، وواصلت دراستها في جامعة كييف وأصبحت مؤرخة.
ولسوء الحظ، كما هو الحال مع العديد من الجنود، عانت بافيلتشينكو سنوات عديدة من اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب.
في 10 أكتوبر/تشرين الأول 1974، توفيت لودميلا بافيلتشينكو بعد إصابتها بسكتة دماغية، فقامت الحكومة حينها بإنشاء طابعين بريديين تذكاريين على شرفها، للتذكير بأكثر قناصة نجاحاً عبر التاريخ.
قد يهمك أيضاً: بدونها لما كنا نعرفه الآن.. ماذا تعرف عن المرأة التي تقف وراء شهرة فان جوخ؟