من السلطانة هرم إلى كوسم وصفية، شهدت الدولة العثمانية العديد من النساء اللواتي لعبن دوراً سياسياً هاماً، بل واستطعن في بعض المراحل إحكام قبضتهن على كل ما يخص شؤون الحكم.. وكانت خديجة تورهان آخر تلك النساء.
على عكس سابقاتها لم يساعدها جمالها في نيل حظوة لدى السلطان، لكن من حُسن حظها أن زوجها قتل في تمرد للانكشارية وصعد ابنها البالغ أربع سنوات العرش، وفي حين لم يكن هناك ما يعيقها سوى حماتها السلطانة كوسم دبرت مكيدة للتخلص منها وتسلم السلطة مدة 34 عاماً.
روسيا.. مسقط رأس السلطانة خديجة تورهان
في عام 1627 وُلدت تورهان في روسيا، لكنها لم تنعم بدفء أسرتها طويلاً، فقد تم اختطافها في إحدى غارات التتار وبيعت كجارية وهي لا تزال في الثانية عشرة من عمرها، شاءت أقدار تورها أن تنتهي الجميلة الروسية في قصر توبكابي، حيث تم إرسالها إلى الحرملك كهدية للسلطانة كوسم والتي أهدتها بدورها لابنها إبراهيم وفقاً لـBiografya.
كانت السلطانة كوسم زوجة للسلطان أحمد الأول الذي فارق الحياة شاباً تاركاً العرش لابنه مراد الرابع البالغ من العمر 11 عاماً.
في ذلك الزمان كان هناك في الدولة العثمانية ما يعرف بـ"سلطنة المرأة" فقد اعتلى العرش سلاطين حكمت من ورائهم أمهاتهم وزوجاتهم، وهكذا حكمت السلطانة كوسم الدولة العثمانية إلى أن اشتد عود ابنها وأبعدها عن السلطة.
لم يستمر الوضع على هذا الحال طويلاً فقد توفي مراد الرابع شاباً، ليخلفه أخوه إبراهيم عام 1640 ويصبح سلطاناً.
أنجبت تورهان لإبراهيم طفلين، بنتاً وولداً (أصبح فيما بعد السلطان محمد الرابع)، وقد عمت الفرحة أرجاء القصر عند ولادة محمد فهو ابن إبراهيم البكر، لكن إبراهيم على ما يبدو لم يبد اهتماماً كبيراً بابنه محمد ولا بزوجته خديجة تورهان.
غيرة خديجة ندبة على جبهة ابنها
على عكس معظم السلطانات اللواتي حكمن من وراء الستار في عصر "سلطنة المرأة" لم تكن خديجة تورهان محبوبة زوجها المفضلة فقد فضل عليها العديد من الجواري.
وعندما أنجبت إحدى هؤلاء الجواري طفلاً لإبراهيم أبدى اهتماماً خاصاً به لدرجة أنه فضّله على بكره محمد.
أعمت الغيرة عيون خديجة وصبّت غضبها على إبراهيم الذي يهمل ابنه، فغضب إبراهيم في المقابل وخطف ابنه محمداً من ذراعي تورهان ورماه في البركة.
كاد محمد أن يغرق لولا أن أنقذه أحد الخدم، إلا أن ذلك الحادث ترك ندبة دائمة على جبهته.
صراع على السلطة بين خديجة تورهان وحماتها
فيما عدا حادثة رمي ابنه البكر في بركة ماء كان من الواضح أن سلوكيات السلطان إبراهيم غير متوازنة ولم يكن مستقراً عقلياً لدرجة تسمح له بالحكم، كما أنه غرق في الملذات وصحبة الجواري لدرجة أهمل معها شؤون الدولة.
لم يدم حكم إبراهيم أكثر من 7 سنوات، إذ رأى رجال الدولة أنه لا مفر من عزله، ولجأوا إلى أمه كوسم للاتفاق معها على تولية ابنه محمد العرش بدلاً عنه، وكان الاتفاق على تنحية إبراهيم فقط، لكن إبراهيم لم يسلم من غضب الانكشارية، الذين ثاروا عليه وقتلوه.
وهكذا صعد محمد الرابع إلى العرش وهو يبلغ من العمر 6 سنوات فقط.
جرت العادة في هذه الحالات أن تسيطر والدة السلطان على الحكم باعتبارها "السلطانة الوالدة"، لكن هذا اللقب الرفيع وما يحمله من نفوذ لم يذهب إلى والدة محمد الرابع خديجة تورهان إنما ذهب إلى جدته السلطانة كوسم، التي حكمت الدولة مسبقاً في عهد ولديها مراد وإبراهيم وتمتعت بسلطات كبيرة.
وبالرغم من أن خديجة تورهان كانت صغيرة السن وقليلة الخبرة فإنها لم ترضَ باستحواذ حماتها على السلطة وبدأت تبني لنفسها تحالفات مع رجال الدولة، فاستطاعت كسب ود الخصيان والوزير الأكبر في حين كانت تحالفات حماتها كوسم مع الانكشارية.
جريمة قتل مهدت الطريق لخديجة تورهان
لم يخف على السلطانة كوسم المتمرسة بأمور السلطة محاولات خديجة تورهان الطموحة لفرض سيطرتها، فارتأت استبدال محمد الرابع بحفيد آخر من أولاد ابنها إبراهيم للجلوس على العرش، أي أن تختار حفيداً يسهل التحكم به وبوالدته بشكل أكبر.
خططت كوسم للتخلص من السلطان الصغير ووالدته، لكن تم إحباط مخططها وانقلب السحر على الساحر، وفقاً لما ورد في موقع Britannica.
فبينما كانت كوسم جالسة في جناحها هجم عليها مجموعة كبيرة من المسلحين المدفوعين من قبل تورهان، وبالرغم من أنها قاومتهم مقاومة شديدة فإنها لفظت آخر أنفاسها في نهاية المطاف لتصبح الساحة خالية لكنتها خديجة تورهان.
السلطانة الوالدة وآخر امرأة في عصر "سلطنة المرأة"
خلال تاريخ الدولة العثمانية حكمت الكثير من النساء من وراء الستار، لكن السلطانات الوحيدات اللواتي حكمن بشكل فعلي بصفتهن وصيات على أولادهن القصر كن السلطانة كوسم وكنتها خديجة تورهان.
بعد مقتل حماتها حصلت خديجة تورهان على لقب "السلطانة الوالدة" وعملت كوصية على ابنها البالغ من العمر آنذاك 9 أعوام.
بسبب قلة خبرتها اعتمدت خديجة تورهان على رجال الدولة لتقديم المشورة السياسية لها، وحضرت الاجتماعات مع ابنها السلطان وحرصت على فرض نفسها كصاحبة نفوذ.
وفي عام 1656 عينت تورهان كوبرولو محمد باشا في منصب الوزير الأعظم الذي اشترط أن يعطى صلاحيات أكبر لقبول المنصب، الأمر الذي وافقت عليه السلطانة.
وبالرغم من أن الصلاحيات السياسية انتقلت إلى يد الوزير الأعظم فإن نفوذ تورهان كان عظيماً وصنفت على أنها آخر سلطانة ذات نفوذ في العصر الذي سُمي باسم عصر "سلطنة المرأة" في الدولة العثمانية.
أنهت عادة قتل السلاطين العثمانيين لأخوتهم
يذكر للسلطانة خديجة تورهان أنها أنهت عادة قتل السلاطين العثمانيين لأخوتهم فور وصولهم إلى العرش لضمان عدم المنافسة، فقد قتل عدة سلاطين سابقين إخوتهم غير الأشقاء بمجرد الحصول على السلطة، فعلى سبيل المثال قام السلطان مراد الثالث بقتل جميع إخوته الذكور عند اعتلائه العرش، وبعد موت مراد الثالث قامت زوجته صفية بقتل أبنائه الـ18 ليلة وفاته كي لا ينافسوا ابنها السلطان محمد الثالث.
عندما اعتلى محمد الرابع العرش كان يبلغ من العمر 4 سنوات فقط، وقد حاولت جدته كوسم بالفعل التخلص منه ومن والدته خديجة تورهان وتعيين واحد من أبناء السلطان إبراهيم الكثر سلطاناً للدولة العثمانية.
مع ذلك وبعد مقتل كوسم لم تنتهج السلطانة خديجة نهج سلفها وحافظت على حياة أبناء زوجها الراحل.
وعندما اشتد عود السلطان محمد الرابع وتزوج وأنجب طفله الأول مصطفى، قامت زوجته ربيعة غونلش بتحريضه لقتل إخوته الأميرين سليمان الثاني وأحمد كي لا ينافسا ابنهما على العرش في المستقبل، لكن السلطانة خديجة تصدت لها وأحبطت محاولاتها.
لتكون خديجة بذلك أول من يُنهي عادة قتل السلاطين لإخوتهم.
أعمالها العمرانية
مع ابتعادها عن مسرح السياسة بعد تسليمه للوزير الأعظم، توجهت تورهان إلى التركيز على العمران.
بنت السلطانة نافورة (سبيل ماء) في منطقة بشيكتاش عام 1653، كما قامت ببناء قلعتين منيعتين لا تزالان موجودتين إلى اليوم، إحداهما في الجانب الأوروبي، والأخرى في الجانب الآسيوي. وكل قلعة كانت تحتوي على مسجد ومدارس وحمامات وأسواق.
وأمرت تورهان كذلك باستكمال بناء مسجد "يني" في إسطنبول، الذي بدأ بناؤه في عهد السلطانة صفية قبل 57 عاماً، وتمت عرقلة البناء لأن السلطانة صفية اختارت إشادة المسجد في منطقة إمينونو بهدف أسلمتها إذ كانت تضم سكاناً غير مسلمين، وبناء المسجد كان يعني اقتطاع الأراضي من السكان المحليين غير المسلمين، وهو أمر لم يجر بسلاسة، وتوفيت صفية قبل إتمامه.
ويعتبر مسجد "يني" الذي شُيّد أخيراً بأمر من خديجة تورهان أول مسجد إمبراطوري بنته امرأة وكان يضم كذلك مدرسة ونوافير عامة وسوقاً.
موت هادئ ماتت معه وصاية النساء على السلاطين
على عكس حماتها السلطانة كوسم، التي عانت رعباً منقطع النظير قبل موتها، ماتت تورهان موتاً هادئاً في عام 1683 ودُفنت في قبر سُمي باسمها في مسجد يني، الذي دفن فيه أيضاً في وقت لاحق ابنها السلطان محمد الرابع وذريته.
وبموت تورهان ولى عصر سلطنة النساء فقد كانت آخر سلطانة تحصل على نفوذ واسع في الدولة العثمانية بحكم ولايتها على ابنها السلطان.