رغم أن لقب الجمل الأشهر هو سفينة الصحراء، إلا أن هذا الحيوان الصابر الذي استطاع أن يتحمل الظروف القاسية في البيئة الصحراوية بدون ماء لشهور على التوالي، تمكن من أن ينتصر على الظروف المناخية في القطب الشمالي، بل خدم لعدة سنوات في الجيش الأمريكي!
كانت بعثة كندية تجول في منطقة بالقرب من القطب الشمالي الكندي، وفي العام 2013، عندما عثرت بالصدفة على آثار أحفورية تبين أنها لجمل عاش قبل أكثر من 3.5 مليون سنة، حسب ما نشر موقع CBC الكندي آنذاك.
وحسب قائدة البعثة ناتاليا ريبكزينسكي، في الوقت الذي كانت فيه الجمال تدوس المناطق الشمالية، كان الكوكب في المتوسط، أدفأ ببضع درجات مما هو عليه الآن. ومع ذلك، فإن القطب الشمالي كان ولا يزال بارداً ومظلماً جداً.
واستناداً إلى الأحفوريات الأخرى التي تم العثور عليها في مكان قريب، عاشت هذه الجمال في غابة إلى جانب المزيد من الحيوانات الكندية المعهودة، بما في ذلك الدببة والغزلان والقنادس.
ورجَّح العلماء وقتها، أن هذه الثدييات المحدبة انتقلت لاحقاً إلى آسيا على ما يشبه الجسر البري عبر مضيق بيرينغ من ألاسكا إلى روسيا.
أقل من حصان
وسواء سمي سفينة الصحراء أو ربما كان سفينة الجليد فيما مضى، التصق بالجمل لقب آخر لا يُقصد من ورائه المدح بل الإهانة، وهو أن الجمل "حصان صمَّمته لجنة"، وهو تعبير يُضرب به المثل في فساد الخطط التي يضعها شخص مستبد برأيه دون رؤية واضحة، فيؤول الأمر في النهاية إلى الخروج بتصميم مشوَّه.
مع ذلك، فإن الجمل كثيراً ما أثبت أنه خلاف ما يصفه به منتقدوه، وأنه في واقع الأمر فعال للغاية ومناسب تماماً لبيئته الصحراوية. فهو حيوان يستطيع الركض بسرعة 65 كيلومتراً في الساعة الواحدة ولمسافات طويلة.
توفر أقدام الجمل له تماسكاً وقوة سحبٍ كبيرة على مختلف أنواع الأراضي، لكنَّ ميزته الأشد بروزاً هي قدرته المدهشة على تحمل فترات طويلة من الوقت دون أي مصدر خارجي للمياه.
أما الجمل العربي، الذي يعد النوع الأكثر شيوعاً بين الأنواع الثلاثة المعاصرة للإبل (الجمل العربي والجمل ذو السنامين والجمل الوحشي ذو السنامين)، بالكاد يشرب مرة واحدة كل 10 أيام، حتى في الأيام شديدة الحرارة، ويتحمَّل فقدان ما يصل إلى 30% من كتلة جسمه بسبب الجفاف.
وللجمل أنف مجعد كبير من الداخل يقوم بتكثيف بخار الماء الخارج مع هواء الزفير فيخرج ثاني أكسيد الكربون ويتكثف بخار الماء، وبذلك يحول دون خروجه، حسب ما أوضح موقع Ask Nature.
وتجعله هذه الميزة الحيوان الوحيد الذي يستعيد الماء الموجود في الهواء الذي يتنفسه فيرفع درجة حرارة جسمه نهاراً حتى درجة 41.7 م متماشياً مع حرارة الجو المحيط به حتى لا يعرق.
فيلق الإبل الأمريكي على الحدود الحارة
كانت أراضي الغرب الأمريكي في أوائل القرن التاسع عشر لا تزال وعرة غير ممهدة، تغلب عليها تضاريس حادة ومناخ غير مضياف، لا سيما في الجنوب الغربي، الذي تشابه مع بعض مناطق الشرق الأوسط الحارة في صحاريه الشاسعة وجباله الشاهقة وأنهاره التي بدت عصية على الاجتياز.
لذلك لم يكن من الغريب أن بعض المخططين العسكريين الأمريكيين رأوا ميزات خاصة في الجمال التي بات كثيرون يسخرون منها بعد ذلك. ولا شك في أن الجمل العربي وحيد السنام بدا مثالياً للاستخدام في أراضي الجنوب الغربي الأمريكي الجامحة.
وفي عام 1836، اقترح الملازم جورج إتش كروسمان لأول مرة على وزارة الحرب الأمريكية استخدام الإبل في هذه الظروف القاسية، حسب ما نشرت مجلة The National Interest.
وكان اقتراح كروسمان نابعاً من خبرته الطويلة، فقد خدم في مواقع مختلفة في الغرب الأمريكي وشارك في "حرب بلاك هوك" بين الولايات المتحدة والسكان الأصليين في عام 1832، قبل نقله من المشاة إلى قسم الإمداد والتموين العسكري بالجيش.
وفي دراسة مستفيضة، قدم كروسمان اقتراحاته في موضوع الإبل لرؤسائه، ولفت في تقريره إلى ما يلي:
قدرة الجمل على حمل الأمتعة الثقيلة.
تحمل أصعب الظروف وأقساها وحرمان الطعام والماء الراحة.
سرعته.
القدرة على حمل ما بين 700 إلى 900 طن.
السفر بتلك الأحمال لمسافات تصل من 50 إلى 60 كيلومتراً في اليوم الواحد، ولعدة أيام متتالية.
التكيف بدون ماء، وبقليل من الطعام، لمدة لا تقل عن 6 أو 8 أيام.
مع ذلك، تجاهل الجيش الأمريكي هذا الاقتراح إلى حد كبير، ولم تستهوِ فكرة استجلاب إبل عربية أحداً من المسؤولين. ولربما كان الأمر سينتهي عند هذا الحد، لكن كروسمان ترقى في الرتب، وبصفته رائداً في قسم الإمداد والتموين بالجيش، أعاد ومعه زميل آخر يُدعى هنري سن واين، لفت الأنظارَ إلى القضية من جديد.
وفي عام 1847، وصل تقرير جديد بشأن الموضوع إلى الجيش وكذلك إلى كونغرس الولايات المتحدة، وهذه المرة لفت التقرير انتباه السيناتور جيفرسون ديفيس من ولاية ميسيسيبي، حسب ما نشر موقع المتحف الوطني للجيش الأمريكي Army History.
كان ديفيس، الذي سيصبح الرئيس الوحيد للولايات الكونفدرالية الأمريكية، معروفاً بأنه شخصية منفتحة على الأفكار الجديدة فيما يتعلق بالابتكارات العسكرية. ولما كان رئيس لجنة الشؤون العسكرية في مجلس الشيوخ، سعى للحصول على التأييد للمشروع.
وبحلول تعيينه وزيراً للحرب في عام 1853، قدم ديفيس فكرة استخدام الإبل عسكرياً في ولايات الجنوب الغربي إلى الرئيس الأمريكي فرانكلين بيرس، والتي تتسم بجوها الحار وبعض مناطقها الصحراوية مثل أريزونا.
كشفت التضاريس والمناخ في ولايات الغرب البعيدة تدريجياً عن عدوانيتها أكثر حتى مما كان متوقعاً، كما تبين أن الخيول والبغال غير ملائمة للرحلات الطويلة عبر الأراضي القاحلة. وبدعم من ديفيس، وافق الكونغرس أخيراً على الخطة.
وفي 3 مارس/آذار 1855، خصص كونغرس الولايات المتحدة تمويلاً بلغ 30 ألف دولار لاستجلاب إبل يستخدمها جيش الولايات المتحدة.
شراء الإبل من الشرق الأوسط
تبيَّن أن إحضار الجمال إلى الولايات المتحدة أقل صعوبة من إقناع الكونغرس بالشروع في هذا المسعى من الأصل. وفي مايو/أيار 1855، استعان ديفيس بالرائد هنري سن واين، من قسم الإمداد والتموين بالجيش، للاضطلاع بالمهمة، ووفَّر الجيش سفينة شحن الإمدادات العسكرية USS Supply، التي قادها الملازم ديكسون بورتر، لنقل الجِمال من الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة.
زُوِّدت السفينة بفتحات خاصة تضم مستودعات منفصلة- وربما يكون هذا هو السبب في ظهور اسم "عربة الجِمال"- بالإضافة إلى رافعات وحبال لنقل الحيوانات عبر المسافة الطويلة في المحيط الأطلسي.
غادرت السفينة مدينة نيويورك في يونيو/حزيران 1885 في طريقها إلى البحر المتوسط. ومن الغرابة أن واين وقائد السفينة بوتر لم يكن لديهما خطة محددة فيما يتعلق بالمكان الذي ينبغي التوجه إليه لشراء الجمال، ومن ثم اتفق إن رست السفينة في موانئ عدة، منها ميناء حلق الوادي في تونس الحالية وفي مالطا واليونان وتركيا ومصر.
واستُجلبت الجمال من أسواق مختلفة على نحو يمكن وصفه بأنه أدى إلى "نتائج" متفاوتة. فبحسب ما ورد، أُصيب اثنان من الجِمال الثلاثة الأولى، التي اشتُريت من حلق الوادي، بنوعٍ من الجرب.
حظيت البعثة بمزيد من العون مع وصول جوين هاريس هيب، صهر بورتر، الذي كان على دراية بلغات مختلفة، منها اليونانية والعربية، والأهم من ذلك أنه كان يعرف عادات المواقع التي زارتها السفينة خلال رحلتها التي استمرت خمسة أشهر، كما يبدو أنه ساعد في المقايضة ومفاوضات الشراء.
نجحت البعثة في بلوغ مسعاها في نهاية المطاف، واشترى الوفد 33 من الإبل، منها 19 ناقة و14 جملاً. وشملت هذه 19 جملاً وحيد السنام، واثنين من الجمال ذوي السنامين، و19 جملاً عربياً وبغلاً تونسياً وعجلاً عربياً وجملاً هجيناً بمتوسط تكلفة يبلغ 250 دولار لكل حيوان.
من جهة أخرى، ولما لم يكن للأمريكيين معرفة بكيفية ركوب الجمال أو ترويضها، فقد وقعت المهمة على عاتق "الحاج علي"، وهو أحد الرعايا العثمانيين لأب سوري وأم يونانية، والذي استُجلب مع الجمال وأصبح أول جمَّالٍ يستأجره الجيش الأمريكي، وسرعان ما تحول الحاج علي إلى "هاي جولي" (Hi Jolly) وظل جزءاً من المشروع.
فيلق الإبل الأمريكي
نُقلت جميع الحيوانات التي استُجلبت إلى معسكر فيري التابع للجيش في ولاية تكساس. وهكذا بدأت تجربة الجيش الأمريكي مع الإبل، ولاختبارِ قدرتها على حمل المؤن ونقل الإمدادات، استُخدمت الإبل لجر موكب من العربات إلى مدينة سان أنطونيو.
استغرق وصول العربات التي جرَّتها 6 بغال، كانت تحمل في الوقت نفسه 816 كيلوغراماً من الشوفان، ما يقرب من 5 أيام، كما استطاعت 6 عربات كانت تجرها 6 جمال تحمل 1654 كيلوغراماً من الشوفان أن تقطع المسافة نفسها في يومين فحسب.
كان ديفيس سعيداً بنتائج الاختبارات التي أثبتت فوائد الإبل.
بدت الإبل مناسبة لتضاريس الجنوب الغربي الأمريكي، فقد كانت تقطع المسافات على نحو أسرع، وأقل استهلاكاً للمياه من الخيول والبغال، كما أنها كانت تأكل ما تعثر عليه من نبات الأرض على الطريق، حتى إنها أظهرت مهارة في العثور على المياه في الأراضي القاحلة.
من نقل العتاد للبريد والأمتعة
ومع ذلك، لم تُستوعب إمكانات الجمال وقدراتها استيعاباً كاملاً. فعندما اندلعت الحرب الأهلية الأمريكية في عام 1861، استُخدمت الجمال لنقل البريد بين حصن موهافي في إقليم نيومكسيكو إلى نيو سان بيدرو في كاليفورنيا، إلا أن قادة المركز من سلاح الفرسان لم تعجبهم فكرة قيام الإبل بالمهمة التي كانت الخيول تضطلع بها على نحو جيد.
في غضون ذلك، سقط معسكر فيردي في أيدي القوات الكونفدرالية، وتشير التقارير إلى أن الإبل تقلص استخدامها إلى نقل الأمتعة. وعندما أعادت القوات الاتحادية احتلال المعسكر، كان المخيم فيه أكثر من 100 جمل.
ومع أن الاستمرار في استخدام الجمال كان لا يزال له من المزايا ما يعضده، إلا أن بعض الناس عارضها لمجرد أن ديفيس (الذي أصبح رئيس الولايات الكونفدرالية التي هُزمت في الحرب) كان خلف الفكرة في البداية.
كما أن الجيش الأمريكي الذي بات يعتمد على القاطرات التي تجرها الخيول والبغال، لم يكن لديه مهارات التعامل مع الجمال.
الجيش يبيع الإبل بخسارة للمدنيين
وبعد نهاية الحرب الأهلية مباشرة، بيعت الجمال المرسلة إلى كاليفورنيا بمتوسط 52 دولاراً للواحد، في حين بيعت الجمال التي كانت في معسكر فيردي بمتوسط 31 دولاراً للجمل الواحد، وهو ثمن أبخس بكثير من أثمان شرائها.
تحمَّل الجيش الأمريكي فارق السعر، ووافق الجنرال مونتغمري ميغس، قائد الإمداد بالجيش، على جميع صفقات البيع آملاً في أن تكون للجمال فائدة أكبر مع المدنيين.
تتحدث الروايات كلها عن أن بعض الإبل استخدمت لتقديم الرحلات الترفيهية للأطفال، وانضمت إبل أخرى للعمل مع قطعان المزارع.
ولم تعد رؤية الجِمال مشهداً مألوفاً في ولايات الجنوب الغربي فحسب، بل في مقاطعة بريتش كولومبيا في كندا أيضاً.
رفات الجمل "سعيد" وما تبقى منها
وبحسب ما ورد، مات آخر جمل من فيلق الإبل الأميركي العسكري، وكان يُدعى توبسي Topsy، في أبريل/نيسان 1934 في لوس أنجلوس عن عمر يناهز 80 عاماً.
كما عُرف مصير جمل أبيض الشعر اسمه "سعيد"، قُتل على يد جمل أصغر سناً وأكبر حجماً في قطيعه.
رتب جندي في الجيش كان أيضاً طبيباً بيطرياً لشحن جيفة الجمل سعيد عبر البلاد إلى واشنطن، حيث يمكن لمؤسسة سميثسونيان الاحتفاظ بها، كما نشرت على موقعها الرسمي.
ولا تزال عظام الجمل سعيد حتى الآن ضمن مجموعات المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي.