قبل قرون من إنشاء تطبيقات الخرائط الرقمية التي وضعت دول العالم بأسره بين أيدينا، وجعلتنا نتجول في شوارعها ونحن جالسون في منازلنا، كان الناس يعتمدون بشكل أساسي على راسمي الخرائط والعلماء من أجل توضيح شكل العالم.
أول خريطة للعالم بشكل دقيق
وعلى الرغم من أنّ هناك اكتشافات هامة تثبت أنّ بعض الخرائط تمّ رسمها قبل الميلاد، فإنّ أول خريطة فعلية للعالم قد رسمها المغربي الشريف الإدريسي في العام 1154، ونقصد بالفعلية أي أنها تشمل جميع دول العالم، وتظهر الحدود والتضاريس بشكل قريب لما نعرفه اليوم.
فما هي قصة أول خريطة للعالم، وكيف تمكن الإدريسي من رسمها بهذه المهارة؟
الشريف الإدريسي وقصة رسم أول خريطة للعالم
أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الشريف الإدريسي، أو كما يُعرف اختصاراً بالإدريسي، هو رحالة وباحث عربي مغربي من مدينة سبتة، التابعة حالياً لإسبانيا.
كان العالِم العربي الذي عاش في العصور الوسطى مشهوراً بحبه للجغرافيا، وكان اجتياز العالم بمثابة حلم يتوق له من أجل رسم الخرائط ووضع الدول في مكانها الصحيح على الخريطة.
عاش الإدريسي جلّ سنوات حياته وهو يطوف بلاد العالم، فزار الحجاز وتهامة ومصر، كما وصل إلى سواحل فرنسا وإنجلترا، حتى إنه سافر أيضاً إلى القسطنطينية وسواحل آسيا الصغرى عندما كان عمره 16 عاماً فقط.
ولكن بعد سقوط الدولة الأموية في الأندلس، قرر الإدريسي التوجه إلى جزيرة صقلية للعيش فيها، فأطلق عليه لقب الصقلي، والسبب هو سماعه بأنّ ملك صقلية روجر الثاني هو شخص محب للعلم.
بعد أن وصل الإدريسي إلى صقلية، أصبح بفضل خبرته بالطب والفلسفة وعلم النجوم والجغرافيا شخصاً مقرباً من الملك ومستشاراً له.
في العام 1145، ووفقاً لما ذكره موقع National Geographic طلب الملك روجر الثاني من الإدريسي أن يُنشئ خريطة عالمية محدثة لكل ممالك ودول العالم.
فأرسل الإدريسي مسافرين وجغرافيين حول العالم لجمع المعرفة لهذه الخريطة المحدثة وغيرها، لم ينتهِ من رسم الخريطة التي تعتبر الأقدم في العالم كونها ترسم الحدود والتضاريس بشكل قريب لما نعرفه عليها اليوم إلا في العام 1154، أي بعد حوالي 9 سنوات من البدء.
ويقول موقع Face2FaceAfrica إنّ خدمة الإدريسي في صقلية أدت إلى إنجاز 3 أعمال جغرافية رئيسية هي:
كرة فضية تم تصويرها على خريطة العالم
خريطة للعالم تتكون من 70 قسماً تم تشكيلها من خلال تقسيم الأرض شمال خط الاستواء إلى 7 مناطق مناخية متساوية العرض، كما تم تقسيم كل منها إلى 10 أجزاء متساوية بخطوط الطول.
نصّ جغرافي يُقصد به أن يكون مفتاحاً للكرة الأرضية.
ويعرف هذا العمل العظيم في الجغرافيا الوصفية الآن باسم كتاب روجر، أو كما يُعرف أيضاً باسم كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، وقد انتهى منه الإدريسي في يناير/كانون الثاني 1154، أي قبل أسابيع من وفاة الملك روجر الثاني.
ولذلك قام الملك ويليام الثاني بتجديد عقد الإدريسي ليتمكن من مواصلة العمل الذي طلبه منه والده.
الرواية الثانية: الإدريسي جال العالم بنفسه مدة 15 عاماً
في حين تقول الراوية الثانية إنّ الإدريسي رسم أول خريطة للعالم بناء على أوامر من ملك صقلية روجر الثاني، الذي منحه كل ما يحتاج من مال للقيام بالرحلات حول العالم لرسمها.
ويقول موقع حفريات إنّ رحلة الإدريسي بدأت في العام 1138، وانتهت بعد 15 عاماً، أي في العالم 1153، عندما وصل إلى باليرمو الإيطالية، وهناك قام الإدريسي بعرض خريطته التي اشتهرت بدقتها.
إضافة إلى أن تلك الخريطة تميزت بوضع الجنوب في الأعلى والشمال أسفل الخريطة.
الرواية الثالثة: رسمها بمساعدة 12 رجلاً
أما الرواية الثالثة فتقول إنّ ملك صقلية روجر الثاني كان شخصاً شغوفاً بالفن والأدب، دائماً ما يسعى إلى ترجمة النصوص العربية واليونانية إلى اللاتينية.
وعندما سمع عن الإدريسي وأسفاره وأعماله الجغرافية الرائعة طلب منه القدوم إلى قصره، وعندما التقاه طلب منه أن يعيش دائماً في صقلية، وأن يبدأ في إنشاء خريطة للعالم لم يسبق أن تم رسمها، وبأن تكون أول خريطة للعالم بشكله الصحيح والحقيقي، ووعده بمنحه كل ما يحتاجه لإنجاز هذا المشروع العظيم.
ووفقاً لما ذكره موقع Mvslim فإن الإدريسي قبِل المهمة وشكل فريقاً من 12 شخصاً ليساعدوه في إنجازها، بينما جاءت عملية اختبارهم على أساس معرفتهم في تكنولوجيا الملاحة والرياضيات ورسم الخرائط.
أما ثاني الأشياء التي فعلها الإدريسي فكانت إجراءه مقابلات مع البحارة الذين زاروا المناطق التي ذكرها، في الوقت ذاته قام الملك روجر بإرسال سفنه المليئة بالبحارة الشجعان إلى مناطق غير مكتشفة من قبل لتسجيل ملاحظاتهم عنها.
وعندما عادوا وصفوا الأماكن التي رأوها بأنها أرض شتوية، حيث يتساقط الثلج من السماء ولا تشرق الشمس فيها أبداً، والتي يعتقد اليوم بأنها أيسلندا أو جرينلاند.
من هو الإدريسي؟
في الحقيقة لا يعرف الكثير عن حياة الشريف الإدريسي، إذ يُعتقد أنه من سلالة النبي محمد (ص).
ويقول الكاتب والمؤرخ العربي شاكر الكتبي في كتابه "فوات الوفيات والذيل عليها" إن الشريف الإدريسي هو محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس بن يحيى بن علي (خليفة المسلمين في الأندلس) بن حمود (صاحب غرناطة)
اسمه الكامل (كما أورده محمد بن شاكر الكتبي في "الوافي بالوفيات") هو: محمد بن محمد بن عبد الله (لا عبد الرحمن) بن إدريس بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي، ولذلك لقب بالشريف.
كما يعتبر الشريف الإدريسي من كبار الجغرافيين في التاريخ ومن مؤسسي علم الجغرافيا الحديثة، فقد استخدمت مصوراته وخرائطه في سائر كشوف عصر النهضة الأوروبية.
كما اشتهر بالفلسفة والطب والنجوم وكتابة الشعر، ومن أبرز أبياته:
ليت شعري أين قبري.. ضاع في الغربة عمري
لم أدع للعين ما تشتاق.. في بر وبحر
في العام 1166 توفي الشريف الإدريسي في صقلية، في حين قامت وكالة Nasa للفضاء بتكريم اكتشافاته عن طريق إطلاق اسمه (بشكل غير رسمي) على سلسلة جبال موجودة على سطح كوكب بلوتو.