في عام 1946 بمدينة القدس، كان "الشيخ" فاضل عبد الله يهوذا يؤم الصلاة أحياناً في المسجد الأقصى، يتجمع حوله أهل المدينة فيجيب عن أسئلتهم ويعطي نصائحه في شؤون حياتهم وفقاً لتعاليم الدين الإسلامي.
بلحيته الطويل ومنظره الورع والتقي، لم يتردد الشيخ في تنظيم حلقات دين وإلقاء خطب تعظ المسلمين في مرحلة تاريخية هامة ومواجهة غير مسبوقة مع العصابات اليهودية التي كانت تنتشر في المدن الفلسطينية.
كان يدعو بعد كل صلاة للمجاهدين في فلسطين، ويحفزهم على القتال والجهاد، ويدعو لهم بالنصر على أعدائهم من اليهود والإنكليز.
لكن الستار الديني الذي اختبأ الشيخ خلفه لم يدم طويلاً، وهذا الرجل القادم من اليمن سيثير شبهات الجيش المصري بشأن ولائه وهويته الحقيقية.
الشيخ فاضل عبد الله يهوذا
كان يُعرف باسم الشيخ فاضل عبد الله، ويشير كتاب "جواسيس وخونة" للكاتب المصري إبراهيم العربي والصادر عام 1991 إليه باسم الشيخ فاضل عبد الله يهوذا، وهو اليمني اليهودي المهاجر إلى فلسطين عام 1946.
في ذلك العام، كانت المنظمات الصهيونية تبحث عن مهاجرين يهود يتحدثون اللغة العربية؛ لاختراق الفلسطينيين والعرب.
تم اختيار الجواسيس اليهود بعناية فائقة إما لأصولهم العربية وإما لأنهم أمضوا وقتاً في الدول العربية فأتقنوا اللغة والتحدث بلهجات المناطق التي زعموا أنهم وُلدوا فيها.
كان هؤلاء الجواسيس جزءاً من "الوحدة العربية" التابعة للقوة المسلحة "البلماح"، وهي القوة العسكرية التابعة لمنظمة الهاجاناه الصهيونية، والتي ستشكل نواة الجيش الإسرائيلي فيما بعد.
تجنيد وتدريب هؤلاء الجواسيس بدأ قبل سنوات من عام النكبة، وتم تدريبهم في السنوات الأكثر هدوءاً قبل الحرب، إذ دخلوا وخرجوا من البلدات العربية حول فلسطين وتعلموا اللهجة، ورأوا ما يخدع الناس وما لا يخدعهم، وجمعوا معلومات لخدمة المخابرات اليهودية بينما كان اليهود يستعدون للمعركة في عام 1848.
في كتابه "جواسيس بلا بلد: حياة سرية عند ولادة إسرائيل"، قال الصحفي المولود في تورونتو بكندا ماتي فريدمان، إن المنظمات الصهيونية كانت تجند جواسيساً لمراقبة المقاومين العرب والقوات البريطانية على حد سواء في أواخر سنين الانتداب.
وبحسب فريدمان، كان هؤلاء الجواسيس العرب غير مدرّبين، يشرف عليهم أشخاص في قوة البلماح، وتمت تسميتهم "المستعربين"، حسب ما نقلت عنه صحيفة National Post.
ويكشف الكتاب كيف حفظ هؤلاء الجواسيس الآيات القرآنية وتعلموا تلاوتها من الراديو، إلى جانب الوضوء والصلاة، بل كان عبد الله حافظاً للقرآن الكريم بأكمله مع التفاسير والعلوم.
ويشرح فريدمان بكتابه أنه في فترة ما قبل عام 1948، كان كل المهاجرين اليهود أو جلهم من أوروبا أو أوروبا الشرقية؛ بل كان 9 من أصل 10 يهود من أصل أوروبي.
ووصف مجتمع اليهود الذين جاءوا من المجتمعات الإسلامية بـ"الهامشي"، لأنهم لم يبدوا مثل سائر اليهود، على حد وصفه.
تحدث هؤلاء المهاجرون باللغة العربية، وحتى ممارستهم للدين اليهودي كانت مختلفة عن سائر اليهود، الأمر الذي جعلهم في مرتبة أدنى من سائر المهاجرين.
يقول فريدمان في كتابه: "لم تعرف الحركة الصهيونية ماذا تفعل بهم، وفي بعض الأحيان كانت تعتبرهم مثيرين للاهتمام وغريبين حقاً، ولكن [في معظم] الأوقات تم تجاهلهم ودفعهم جانباً".
إلا أن هوياتهم العربية التي كانت سبب المعاملة العنصرية ضدهم، كانت هي أيضاً سبيلهم للالتحاق بقوات البلماح، حسب ما نشره موقع صحيفة Jewish Times الإسرائيلية.
فالأشخاص الذين أنشأوا الوحدة العربية في البلماح كانوا بريطانيين، وأدركوا منذ البداية أن انتحال الهوية العرقية أمر مستحيل، فما كان منهم إلا أن يجندوا اليهود العرب.
تدريبات على حفظ القرآن والوضوء والصلاة
كان الشيخ المدعي أحد هؤلاء الجواسيس الذين تم تدريبهم على حفظ القرآن وتعاليم وأحكام الدين الإسلامي قبل زرعه في فلسطين عام 1946.
وعندما اندلعت الحرب في عام 1948، أبقى فاضل عبد الله هويته قيد الكتمان، بل كان يدعو بالنصر للجيوش العربية من منبر المسجد في خانيونس حيث انتقل للعيش بصورة دائمة.
وعندما دخلت قوات الشهيد أحمد عبد العزيز التابعة للجيش المصري إلى خانيونس، علا صوته في المئذنة مرتلاً القرآن داعياً لهم بالنصر، مردداً: "الله أكبر، الله أكبر".
شكوك المخابرات المصرية
في مايو/أيار 1984، تم توجيه فاضل إلى الاتصال بالقوات المصرية، وبالفعل بدأ يتقرب من قائد الكتيبة الضابط أحمد عبد العزيز ونائبه الضابط كمال الدين حسين، الذي سيصبح فيما بعد، أحد أعضاء الضباط الأحرار.
كان الشيخ فاضل يؤم صلاة الجنود المصريين ويجيب عن أسئلتهم ويتردد على المعسكر المصري بصورة دائمة.
إلا أن جهاز المخابرات المصري كان يراقب من كثب، تحركات بعض الشخصيات، ولاحظ اختفاء الشيخ عدة ساعات كل يوم عند منتصف الليل.
راقب رجال المخابرات المصرية تحركاته كل ليلة، وتأكدت شكوكهم عندما ترصدوا له ووجدوا أنه يتسلل من معسكر الفدائيين المصريين إلى معسكر العصابات الصهيونية في ظلام الليل.
الهدنة الأولى والصدفة التي كشفت يهوذا
في 22 مايو/أيار 1948، اتخذ مجلس الأمن قراراً يدعو فيه أطراف الحرب في فلسطين، إلى وقف القتال خلال 36 ساعة بدءاً من ليلة 22 -23 مايو/أيار 1948.
وبينما رفض العرب الهدنة؛ خوفاً على سلامة الجيوش النظامية واستغلال اليهود للفرصة، ضغط مجلس الأمن، خصوصاً بريطانيا والولايات المتحدة، على العرب لقبول الهدنة، وأوقفت بريطانيا إرسال الذخيرة والأسلحة للأردن والعراق ومصر، كما أوقفت المعونات المالية المقدمة للجيش الأردني.
وأخيراً في 29 مايو/أيار 1948، أقر مجلس الأمن قراراً بوقف الحرب لمدة 4 أسابيع بدءاً من 7 يونيو/حزيران 1948.
في تلك الفترة، طلبت القوات اليهودية بعض الأدوات الطبية والإسعافات الأولية لعلاج ضابط يهودي أصيب بجرح خطير في رقبته، وهو ما كان متعارفاً عليه في هدنة الحروب.
وافقت القوات المصرية وأرسلت أحد الأطباء من الضباط المصريين ومعه الدواء والأدوات المطلوبة.
كان فاضل يهوذا موجوداً بمعسكر اليهود في تلك الليلة بمحض الصدفة، فرآه الطبيب المصري وتجاهله تماماً، وعندما عاد أخبر قيادته بما رآه وبأن فاضل ليس سوى جاسوس إسرائيلي وعميل خائن مدعٍ.
بعد تلك الليلة، اختفى فاضل كلياً وتوقف عن القدوم إلى معسكر الجيش المصري وإمامة الصلاة كما جرت العادة.
عقاب الخيانة
لكن ضابطاً مصرياً آلمه خداع الشيخ المدعي، تطوع كي يخطف فاضل، فتتسلل مع جندي آخر لاختراق معسكر اليهود وإحضار يهوذا مكبلاً في عملية فدائية كانت تعني الموت في حال اكتشاف أمرهما.
وافقت القيادة المصرية على الخطة، وبالفعل نجح الفدائيان في أسر فاضل وتكميم فمه؛ كي لا يصيح وينبه الآخرين عن قدوم الضابط المصري ومساعده.
وعند عودة الضابط والجندي وإتمام العملية بنجاح، تشكلت محكمة عسكرية من 3 ضباط مصريين وصدر حكم بالإعدام بالرصاص على فاضل عبد الله يهوذا بتهمة التجسس ونُفذ الحكم فوراً.
لكن لم ينته الأمر هنا، وكانت للقوات المصرية رسالة أخيرة لتوجيهها، إذ عاد الضابط نفسه الذي نجح في خطفه ليتسلل إلى المعسكر اليهودي فأعاد يهوذا لمخبئه، ولكن جثة هامدة؛ عقاباً لخيانته.