لا شكَّ أنَّ الرسام الهولندي فينسنت فان جوخ يعتبر من أهم وأعظم الرسامين الذين عرفهم العالم على مر التاريخ، إذ ترك وراءه إرثاً فنياً روعته تفوق وصفه، كلوحاته الشهيرة "The Starry Night" و"Cafe Terrace at Night".
لكن الغريب في الأمر أنّ فان جوخ لم يبِع من لوحاته إلا القليل خلال حياته، ومعظمها كان بأسعار زهيدة، فما هو السر الذي يقف وراء ذلك، وهل من أحد يعود له الفضل في شهرة جوخ بعد وفاته؟
فان جوخ وعمله الفاشل في السمسرة
يبدو أنّ فان جوخ كان شخصاً غريب الأطوار، وهو السبب الذي جعله فاشلاً في عمله سمساراً لبيع الأعمال الفنيّة.
وتقول نادين غرانوف، مديرة البحوث في شركة Van Gogh Experts التي تعمل في مجال تثمين وتأصيل أعمال فان جوخ: "لدينا انطباع بأنّ فان جوخ لم يكن بائعاً جيداً بل فشل في بيع اللوحات عندما كان يعمل لدى "غوبل" أحد أشهر سماسرة الأعمال الفنية المرموقة".
وأضافت -وفقاً لموقع How Stuff Works الأمريكي- أنّ جوخ تعرض للإقالة، لأنه لم يكن ودوداً بما يكفي مع العملاء، وهو أحد أسباب إبعاد المشترين المحتملين عن أعماله الفنية.
وفاة فان جوخ المبكرة
بالإضافة إلى أن فان جوخ لم يعِش طويلاً بما يكفي ليشهد عمله يؤتي ثماره، فقد مات عام 1890، بعد يومين من إطلاقه النار على نفسه، وهو في الـ37 (ولو أن بعض الروايات اللاحقة تُرجح أنه قُتل)، لتنتهي بذلك حياة مليئة بنوبات الصرع والنوبات الذهانية المُنهكة.
كما يُشير متحف فان جوخ، فحين موته "لم يكن على يقين بشأن المستقبل، وشعر أنه فشل كإنسان وكفنان، مع أنه كان قد بدأ يلقى التقدير على أعماله".
ورغم أنّ السنتين الأخيرتين من حياته شهدتا حصوله على تقدير في أوساط الطليعة، وقد عُرضت أعماله في بعض المعارض في باريس وبروكسل، فإنّه لم يكن هذا المستوى من النجاح يُقارن بأي حال بالشهرة التي بلغها اسم فان جوخ اليوم، فما الذي حدث إذاً؟
من هي جوانا فان جوخ بونغر؟
ويقول هانز لويجتن، كبير الباحثين في متحف فان جوخ، إنه بعد 6 أشهر من وفاة فينسنت فان جوخ تُوفي أخوه الحبيب ثيو إثر معاناته من مرض الزُّهري.
كان لوفاة ثيو بؤس إضافي؛ لأنه لم يكن يرغب بشيء من حياته أكثر من تقديم لوحات أخيه المنتحر، لكن لحسن الحظ كان هناك شخص ثالث يرغب بذلك أيضاً، وهي زوجة ثيو "جوانا فان جوخ بونغر".
وفقاً لصحيفة New York Times فقد نشأت جو، كما أطلقت على نفسها، في أسرة رصينة من الطبقة المتوسطة، وكان والدها رئيس تحرير إحدى الصحف الملاحية التي كانت تتحدث عن أشياء مثل تجارة القهوة والتوابل من الشرق الأقصى.
كما كانت تعمل مدرسة للغة الإنجليزية قبل زواجها من ثيو في عام 1889، أي قبل عام واحد من انتحار فينسنت، ورغم تلك المدة القصيرة التي عرفتهما بها، فإنها قررت وواصلت حلم ثيو في منح أعمال أخيه الشهرة التي تستحقها.
كانت لها خُططها الذكية لمنح أعمال فان جوخ الشهرة
ويقول لوجتين، الذي كتب السيرة الذاتية لجوانا فان جوخ بونغر: "تحملت جوانا مسؤولية إرث فينسنت الفني، ومنذ عام 1891 وحتى وفاتها كرست نفسها لنشر الوعي بأعمال فينسنت ورسائله، وقد أحبت أعماله بطبيعة الحال".
عملت جوانا بلا كلل لتلميع اسم فان جوخ من أجل رفع قيمة إرثه الفني، وهو ما لم يكن بالأمر الهيّن، خصوصاً أنّ أعمال جوخ في ذلك الوقت كانت تعدُّ أعمالاً مُغرقة في الحداثة في أعين الجامعين وشُراة الفنون".
ولتحقق هدفها اتبعت جوانا أساليب ذكيّة، مثل بيع أعماله بشكل انتقائي، وإلهام الكتاب والنقاد، خصوصاً ناقداً فنياً يُدعى جان فيث للكتابة عن تلك الأعمال، كما أقرضت بعضاً من تلك الأعمال إلى المتاحف المرموقة ونظمت عدداً لا يحصى من المعارض.
استطاعت جوانا بين عامي 1892 و1900 من تنسيق حوالي 20 معرضاً لأعمال فان جوخ، تم ترتيبها بعناية مع قطع أقل شهرة موضوعة بجانب قطع أخرى تعتبر "روائع بلا منازع" من قِبَل معاصرين مثل أوسكار كلود مونيه وهنري دي تولوز لوتريك، وفقاً لما ذكره موقع Golden Tours البريطاني المتخصص بالرحلات الثقافية.
ومن بين أهم المعارض الذي عرضت به لوحات لفان جوخ كان معرض "ستيديليك" وهو واحد من أهم معارض العاصمة الهولندية أمستردام وعرض فيه 484 لوحة لفان جوخ.
كما تمكنت الكنّة المثابرة من بيع ما لا يقل عن 192 لوحة و55 عملاً على الورق لفان جوخ خلال الفترة الممتدة بين 1891 و1951.
رسائل فان جوخ لشقيقه ثيو
بالإضافة إلى ذلك كله، قامت جوانا باستغلال رسائل فينسنت التي أرسلها إلى شقيقه ثيو والتي يبلغ عددها المئات، فقامت بنشرها في عام 1914 تحت عنوان " Letters to His Brother"، مما زاد من تقدير فان جوخ كفنان وجعلته أقرب للجمهور، وفقاً لما ذكره الموقع الرسمي لمتحف فان جوخ Van Gogh Museum.
في حين أنّ نحو 40% فقط من رسائل ثيو لشقيقه قد نجت، إذ كان فينسنت يحرق كل رسالة يتلقاها بعد قراءتها.
وفاة جوانا فان جوخ بونغر
بوفاة جوانا عام 1925 عن عمر ناهز 62 عاماً بسبب مرض باركنسن، فقد انتقلت كل أعمال فان جوخ التي كانت في حيازتها إلى ابنها فينسنت ويليام فان جوخ. وقد تابع عمل والدته ثم أنشأ في نهاية المطاف مؤسسة فينسنت فان جوخ ومتحف فان جوخ، حتى تُصبح أعمال عمه متاحةً للجميع.
واليوم فإن ويليام فان جوخ، الحفيد الثاني لثيو وجو هو مستشار لمجلس إدارة متحف فان جوخ.
وأخيراً ربما لا يُعد اسم جوانا فان جوخ بونغر اسماً مشهوراً، لكنها كانت قوة لا يُستهان بها، ولا شك أن فان جوخ لولا عبقريتها وجهودها لم يكن ليُحقق الشهرة التي هو عليها اليوم.
من هو فان جوخ؟
وُلد فينسنت فان جوخ في 30 مارس/آذار 1853، في مدينة زندرت الهولندية، وأصبح بعد وفاته من أبرز الرسامين في العالم إن لم يكن أشهرهم.
عانى فان جوخ خلال حياته من بعض المشاكل النفسية، حتى إنه قام بقطع أذنه اليسرى ورسمها في لوحاته بالإضافة إلى محاولته ابتلاع لوحاته الخاصة.
مما استدعى إدخاله إلى مصحة الأمراض النفسية تحت عناية الطبيب "ثيوفيل زشريي أوغسطي بيرون" الذي شخَّص إصابته بالصرع والاضطراب الاكتئابي.
وفي 27 يوليو/تموز 1890 أطلق فان جوخ رصاصة مسدس على صدره، لكن بعد إسعافه بقي حياً لمدة يومين فقط، ليتوفى في 29 يوليو/تموز وهو لا يزال في سن 37 عاماً.