عندما قتل السلطان مراد الثالث إخوته الذكور جميعاً عشية تسلمه السلطة؛ خوفاً من منافستهم له على العرش، ربما لم يخطر بباله أن 18 من أولاده الذكور سيُقتلون بالطريقة نفسها ليلة وفاته، ومن سيقوم بذلك؟ حبيبته صفية التي لم تتمتع بالجمال فحسب إنما اشتهرت بذكائها ودهائها اللذين مكّناها من حكم الإمبراطورية الثمانية 19 عاماً.
السلطانة صفية.. "ساحرة" من البندقية
فلنبدأ القصة منذ وفاة السلطان سليمان القانوني، اعتلى عندها العرش ابنه سليم الذي اتخذ الكثير من الخليلات إلا أن زوجته نوربانو كانت أحبهن إلى قلبه وأنجبت له وريث عرشه مراد الثالث.
كانت نوربانو امرأة قوية متعطشة للسلطة، وقد فرضت بالفعل سلطتها على الحرملك وعندما تم تقديم جارية ساحرة الجمال لابنها الأمير مراد، لم تكن السلطانة تعلم أن "صوفيا" القادمة من البندقية ستحاربها لانتزاع السلطة يوماً ما وستنتصر عليها.
وقع مراد في عشق صوفيا منذ اللحظة الأولى، وبسبب شعرها الأشقر وصفاء بشرتها البيضاء أصبح اسمها الجديد "صفية"، يقال إن صوفيا أو "صفية" وُلدت في البندقية عام 1550، فيما تشير بعض المصادر إلى أنها ألبانية أو بوسنية، ومهما كانت أصولها فقد وصلت صفية إلى الحرملك بعد أن اختطفها قراصنة البحر الأبيض المتوسط وباعوها في سوق الرقيق بإسطنبول.
عندما اعتلى مراد الثالث العرش قتل جميع إخوته الذكور غير الأشقاء؛ ليضمن عدم منافسته على العرش، وأراد أن يجعل من خليلته صفية سيدة النساء، خاصةً أنها أنجبت له ابنه البكر محمد عام 1566، وعكس غيره من السلاطين لم يعرف مراد خليلة غير صفية لفترة طويلة، الأمر الذي دعا السلطانة الأم نوربانو إلى اتهامها باستخدام السحر لجذب السلطان إليها وحدها.
وتسابقت والدة السلطان مراد وإخوته إلى تقديم الجواري له، حتى أطاعهن أخيراً لكن مكانة صفية بقيت كما هي، بسبب ذكائها وتأثيرها القوي على السلطان.
لم تقتل الغيرة السلطانة صفية، وتقبلت الجواري اللواتي كن يقدمن إلى السلطان طالما أن السلطة الحقيقية بيدها هي وحدها، بل قدمت له الجواري بنفسها؛ لضمان سيطرتها، ووفقاً لموقع History of Royal Women فقد أصبح للسلطان مراد الثالث قرابة خمسين طفلاً من نساء مختلفات، بينهم 25 ذكراً.
علاقات طيبة مع البندقية والإنجليز
على الرغم من الخليلات الكثيرات اللواتي اتخذهن السلطان مراد فإن رفيقته المفضلة على الدوام كانت السلطانة صفية، التي كان يستشيرها في أمور الدولة الداخلية، كما كانت نشطة للغاية عندما يتعلق الأمر بالشؤون الخارجية.
فقد دعت صفية إلى سياسة مؤيدة بشكل عام لمدينة البندقية، وتوسطت بانتظام نيابة عن سفراء البندقية، كما حافظت على علاقات جيدة مع إنجلترا وتواصلت شخصياً مع الملكة إليزابيث الأولى وتبادلت الاثنتان الهدايا، وكان لصفية دور في إقناع السلطان مراد الثالث بدعم الإنجليز اقتصادياً وعسكرياً في حروبهم مع إسبانيا.
وقد عرف السفراء ولع السلطانة بالذهب والهدايا الثمينة فحرصوا على تقديمه لها، وسرعان ما أصبحت أغنى نساء الإمبراطورية. ومع تمتعها بكل تلك السلطة، قامت صفية بدفع أي ثمن للحفاظ على موقعها، فكانت حياتها مليئة بالاغتيالات.
السلطانة الوالدة وليلة مقتل الأمراء
بعد اغتيال الصدر الأعظم صوكولو في العام 1579، ووفاة حليفته الأولى من بعده السلطانة الأم نوربانو عام 1583، والتي قيل إنها ماتت مسمومة، خلت الساحة تماماً لصفية، حيث مارست شؤون الدولة وتمتعت بقوة هائلة في عهد السلطان مراد وحازت السلطة المطلقة في عهد ابنها محمد الثالث، الذي -وعلى غرار أبيه- تسلم العرش بعد أن قامت والدته بخنق إخوته الذكور جميعاً؛ كي لا يشكلوا أي تهديد لابنها السلطان، وكان عددهم 18 وقيل 20، وفقاً لبعض المصادر.
وهكذا وفي الليلة التي توفي فيها السلطان مراد الثالث عام 1595، قُتل جميع أولاده الذكور ودُفنوا في صباح اليوم التالي مع والدهم، بينما اعتلى محمد العرش وأصبحت أمه صفية "السلطانة الوالدة".
عملت السلطانة صفية على ترسيخ حكم ولدها بعقد المعاهدات السياسية الداخلية والخارجية، وقامت بدعم الجيش من أموالها الشخصية، مع العلم أنها حددت مرتباً خيالياً لنفسها لم يسبق أن تقاضته سلطانة والدة من قبل.
وعندما ذهب محمد الثالث في حملة إيغر بالمجر عام 1596، أعطى والدته سلطة كبيرة على الإمبراطورية العثمانية، وتركها مسؤولة عن الخزانة.
وخلال فترة حكم ابنها البالغة 9 سنوات، تم اتهامها بالفساد وبأنها تبيع المناصب في حكومة ولدها بأعلى سعر معروض، الأمر الذي أثار استياء العامة ومسؤولي الجيش على حد سواء.
اغتيال حفيدها محمود
لم تكن مجزرة الأمراء آخر الجرائم التي شاركت فيها صفية، إذ لعبت دوراً أساسياً في اغتيال حفيدها محمود عام 1603.
كان محمود يشعر بالأسى، بسبب الخراب الذي وصلت إليه الدولة العثمانية بعد تسلم جدته لزمام السلطة، وقد وصل ذلك إلى مسامع السلطانة صفية التي لم تكن تحب والدة محمود كذلك، وحرّضت ولدها محمد على ابنه الذي باتت شعبيته ترتفع في الدولة يوماً بعد يوم، وبعد أن شك السلطان محمد في أن ابنه يتآمر عليه أمر بخنقه هو ووالدته.
عندما توفي السلطان محمد الثالث، خلفه ابنه أحمد الأول عام 1603 وكان أول قراراته حرمان جدته من السلطة ونفيها إلى القصر القديم، لتنتهي فترة حكمها التي امتدت 19 عاماً.
نهاية لا تليق بسلطانة الاغتيالات
عاشت السلطانة صفية منفية في عهد أحمد الأول، وكذلك في عهد شقيقه مصطفى الأول الذي تسلم الحكم من بعده عام 1617.
وتوفيت عام 1619، لتدفن في مقبرة مراد الثالث بمسجد آيا صوفيا بإسطنبول.