الصفوف الطويلة على محطات الوقود في بريطانيا، وتخزين الوقود والسلع تحسباً للطوارئ، فضلاً عن ارتفاع أسعارها بسبب شح الوقود، ما هي إلا جزء بسيط من أزمة النفط التي أدت إلى هز الاقتصاد البريطاني في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
نعود في الزمن إلى عام 1978 على وجه التحديد.
انطلقت آنذاك سلسلة مظاهرات في شوارع طهران استمرت على مدى عام كامل، وانتهت بسقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي وبداية عهد الجمهورية الإيرانية الإسلامية.
بدأت الإضرابات بحقول النفط الإيرانية في خريف عام 1978. وبحلول يناير/كانون الثاني 1979، انخفض إنتاج النفط الخام بمقدار 4.8 مليون برميل يومياً، أو نحو 7% من الإنتاج العالمي في ذلك الوقت.
كان المنتجون الآخرون قادرين على تعويض بعض النقص، مما أدى إلى خسارة صافية في العرض بنحو 4 إلى 5%.
ومع ذلك، ارتفعت أسعار النفط بسرعة من 13 دولاراً للبرميل في منتصف عام 1979 إلى 34 دولاراً للبرميل في منتصف عام 1980.
سميت هذه الأزمة عالمياً بـ"صدمة الوقود الثانية".
أما الثانية، فلأنها تلت أزمة تعرضت لها الدول الغربية قبل نحو 5 أعوام، عندما فرضت الدول العربية في منظمة أوبك حظراً على توريد النفط للدول التي دعمت إسرائيل عسكرياً على أثر حرب أكتوبر/تشرين الأول في عام 1973 على مصر وسوريا.
كان النقص في الإمداد العالمي للوقود والديزل حاداً بشكل خاص في ربيع وأوائل صيف عام 1979.
بدأت الدول الغربية باعتماد سياسات التقنين، فسمح بشراء الوقود كل يومين، كما تم تنظيم بيعه وفقاً لأرقام السيارات المفردة والمزدوجة في بعض الولايات المتحدة.
وفي بريطانيا أدى نقص البنزين أيضاً إلى مخاوف من نقص زيت التدفئة خلال شتاء 1979-1980، فزاد إقبال المواطنين على الشراء المندفع بالذعر والرغبة في التخزين خوفاً من المجهول، تماماً كما حصل في بدايات جائحة كورونا، وما يحصل الأن رغم تطمينات رئيس الوزراء بوريس جونسون، كما نشرت صحيفة The Guardian.
هذا الإقبال أدى بدوره إلى زيادة النقص الفعلي بأكثر من الضعف، إذ بيع النفط في السوق الفورية بمبلغ يصل إلى 50 دولاراً للبرميل.
وفي العام 1980، اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، لتؤثر أيضاً على الإمداد العالمي بعد اشتباك دولتين مصدرتين للنفط.
وصل سعر النفط إلى ذروته عند 39 دولاراً للبرميل في فبراير/شباط عام 1981. كان هذا الرقم أعلى بنسبة 160% عن المستوى السابق للثورة في إيران. استغرق الأمر حتى مايو/أيار 1983 حتى انخفض السعر بشكل ملحوظ إلى أقل من 30 دولاراً للبرميل، حسب موقع Investopia.
في هذه الفترة، تولت مارغريت ثاتشر رئاسة الحكومة البريطانية كأول امرأة في هذا المنصب، وتحديداً في مايو/أيار 1979، وارتفع معدل التضخم على الفور كما حدث في معدل البطالة.
كان الارتفاع الأخير بسبب التقشف القاسي الذي مارسته حكومتها في الوقت نفسه الذي دخل فيه الاقتصاد الأمريكي والدول المتقدمة الأخرى في ركود كبير. كان التضخم في بريطانيا تجاوز 20%، بينما تجاوزت البطالة 1.5 مليون لأول مرة منذ الثلاثينيات.
تبنت ثاتشر سياسات اقتصادية تدعم القطاع الخاص والاقتصاد الحر بالتزامن مع اكتشاف النفط في بحر الشمال.
أنقذ هذا النفط بريطانيا من تعاظم الدين العام.
خصخصت ثاتشر العديد من القطاعات العامة، ويعتقد ناقدو سياساتها الاقتصادية أن إنفاق عائدات النفط التي دعمت الاقتصاد آنذاك لم تحسن القوة الأساسية للاقتصاد البريطاني ولم تحضّره للخطة التي يتراجع فيها مدد هذا المورد.
واعتبر البروفيسور في الاقتصاد بجامعة أبردين الأسكتلندية، في تصريح لصحيفة New York ،Times أن إدارة الحكومة لثروة النفط ضيعت فرصة حقيقية عبر إنفاقها وعدم استثمارها في مشاريع لخلق الوظائف وتعزيز الثروة المستقبلية.
أزمة النفط تغير المجتمع البريطاني
هذه الفترة من ارتفاع أسعار الطاقة لم تكن جيدة لقطاع التصنيع المهتز بالفعل في البلاد.
تم تسريع الانهيار التدريجي لصناعة السيارات التي كانت مملوكة لبريطانيا، بسبب التكاليف الإضافية للإنتاج.
في المقابل، شجعت أسعار النفط المرتفعة على التوجه نحو السيارات الأصغر، وساعدت في خلق البيئة التي أصبحت فيها الشركات اليابانية مثل تويوتا وهوندا مهيمنة في المملكة المتحدة وخارجها.
تم الترحيب باليابانيين؛ لخبرتهم الطويلة في تصنيع سيارات أصغر حجماً وأكثر كفاءة في استهلاك الوقود، وساعدت تجربتهم في إحياء التصنيع بالمملكة المتحدة.
تغيرات في السياسات الدولية
كما غيرت صدمة أسعار النفط أيضاً طبيعة العلاقات الدولية للدولة، والتي كانت أكثر تركيزاً على المخاطر القادمة من روسيا والصين كجزء من الحرب الباردة.
وبعد أزمتي النفط ركزت سياسات بريطانيا الدولية على الشرق الأوسط والدول العربية المصدّرة للنفط، كما أولت اهتماماً ببعض الدول التي يمكن أن توفر إمدادات نفط وغاز بديلة ومستقرة مثل نيجيريا وإندونيسيا.
وتدريجياً، تجدد الاهتمام بأشكال أخرى من الطاقة المستديمة مثل الطاقة الشمسية وغيرها.