لا شك أن الخليفة المنصور كان داهية وأن غلامه وجاريته تمتعا بموهبة نادرة، لكن الأصمعي كان أكثر ذكاء ودهاء وتمكن من إفحام الثلاثة بقصيدة قال في مطلعها: "صوت صفير البلبل".
تعالوا نروِ لكم القصة:
قصة قصيدة صوت صفير البلبل
يحكى يا سادة يا كرام أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور كان بخيلاً، أو فلنُقل إنه كان شديد الاقتصاد في نفقات الدولة، وبينما حرص الخلفاء من قبله على بذل الأموال والعطايا للشعراء أعرض المنصور عن نهج سلفه.
ولكي لا يتم اتهامه بالبخل، لجأ إلى حيلة مستثمراً واحدة من أهم الملكات التي كان يملكها، ألا وهي موهبة الحفظ السريع.
فقد كان المنصور يحفظ أي قصيدة تتلى على مسامعه من أول مرة، وكان له غلام يستطيع حفظ القصيدة عن ظهر قلب إذا ما سمعها مرتين، وجارية تحتاج إلى سماع القصيدة ثلاث مرات حتى تتقنها.
وهكذا، أعلن المنصور أنه سيجذل العطاء فقط لأولئك الشعراء الجذلين الذين يستطيعون إتيانه بقصيدة كتبوها بأنفسهم ولم يسمعها هو من قبل، أما المكافأة فكانت وزن القصيدة ذهباً.
تحمس الشعراء عند سماع هذا الخبر، وراحوا ينسجون القصائد ويقفون بباب المنصور، إلا أن الخليفة كان يستمع باهتمام لأولئك الشعراء ثم يصدمهم بقوله: لقد سمعت تلك القصيدة من قبل ولأثبت لك ذلك سأتلوها على مسامعك، وقبل أن يستيقظ الشاعر من دهشته كونه ألَّف هذه القصيدة حديثاً ينادي الخليفة لغلامه كي يردد القصيدة من بعده ولمزيد من الإثبات تأتي الجارية لتكون الحجة الأخيرة الدامغة، فيعود الشاعر من حيث أتى وقد ملأت الخيبة نفسه بدلاً من أن يملأ الذهب جيوبه.
وعندما تكرر الأمر مع العديد من الشعراء، أدرك شاعر نبيه أن في الأمر حيلة ما، ويحكى أن ذاك الشاعر الألمعي ما هو إلا صاحبنا عبد الملك بن قريب الملقَّب بالأصمعي.
الأصمعي يُحرج الخليفة
تنكر الأصمعي بزي أعرابي، ووضع لثاماً على وجهه، فقد كان آنذاك معروفاً في بلاط الخلافة، وكان قد أعد قصيدة غريبة وفريدة من نوعها، اختار لأبياتها مفردات غير مألوفة وصاغها بطريقة تجعلها صعبة الحفظ من المرة الأولى.
فكيف سيتمكن الخليفة على سبيل المثال من أن يتذكر على وجه الدقة قول الأصمعي:
والعود دندن دنا لي والطبل طبطب طب لـي
طب طبطب طب طبطب طب طبطب طبطب لي
والسقف سق سق سق لي والرقص قد طاب إلي
شـوى شـوى وشاهش على ورق سفرجلِ
ما علينا من طول الحديث، المهم، وقف الأصمعي بين يدي الخليفة المنصور وتلا قصيدة طويلة قال في مطلعها: صـوت صفير الـبلبـلِ هيج قلبي الثملِ
وما إن انتهى من قصيدة حتى وجد المنصور صعوبة بالغة في تذكر تفاصيلها، واضطر إلى الإقرار بأنه لم يسمع بتلك القصيدة من قبل، وبالتالي فهو مضطر لدفع وزنها ذهباً.
بالتأكيد توقع المنصور أن ذاك الأعرابي الغريب قد كتب قصيدته -كما يفعل كل الناس- على ورق البردي أو ما شابه، لكنه فوجئ بالأصمعي يقول: لقد ورثت عمود رخام من أبي فنقشت القصيدة عليه، وهذا العمود على جملي في الخارج يحمله عشر جنود.
وعندما تم وزن العمود فقد عادل وزنه صندوقاً كبيراً مليئاً بالذهب، إلا أن وزير المنصور أنقذ الموقف بقوله: يا أمير المؤمنين ما أظنه إلا الأصمعي. وهنا طلب الخليفة من الأعرابي إماطة لثامه ليتبين أن الوزير على حق.
فعاتب المنصور الأصمعي قائلاً: أتفعل هكذا بأمير المؤمنين يا أصمعي؟! أعد المال من فورك. فرد عليه قائلاً: يا أمير المؤمنين قد قطعت رزق الشعراء بفعلك هذا، ولا أعيد المال إلا بشرط واحد، أن تعود فتعطي الشعراء على قولهم ومنقولهم. فاضطر الخليفة للموافقة على الشرط ولم يعد قادراً على تنفيذ حيلته من بعدما أحرجه الأصمعي.
ما حقيقة نسبتها للأصمعي؟
تعرف تلك القصة الطريفة على نحو واسع بأنها من بطولة الأصمعي الذي لقَّبه هارون الرشيد بـ"شيطان الشعر"، لكن في الواقع هناك الكثير من المشككين الذين يعتقدون أنه ليس صاحب القصيدة الشهيرة "صوت صفير البلبل".
ويجادل أولئك بأن القصيدة لا تخلو من الركاكة اللغوية وضياع الوزن وهما أمران لا يمكن نسبهما لشاعر مثل الأصمعي، فضلاً عن ذلك فقد ورد في التاريخ أن الأصمعي كان من ندماء الخليفة هارون الرشيد لكن لم يذكر أنه كان من جلساء المنصور.
وإذا حصل هذا اللقاء بالفعل بين المنصور والأصمعي فإذاً كان ذلك في بدايات شباب الأصمعي، لكن سيرة الشاعر الكبير تبين أنه في تلك المرحلة كان يحصّل العلم ويجمع الأخبار ويلتقي الأعراب ولم يتصل بعد بأحد من الأمراء والخلفاء، وفقاً للمشككين بالرواية.
وأخيراً فلم يرد نسب هذه القصيدة للأصمعي سوى في كتاب إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس لمؤلفه محمد بن دياب الإتليدي وهو قاصّ مجهول وليس له إلا هذا الكتاب.
قصيدة صوت صفير البلبل
بعد قراءتكم لقصة "صوت صفير البلبل" ربما راودكم الفضول لقراءة القصيدة كاملة والتي تقول:
صـوت صفير الـبلبـلِ هيج قلبي الثملِ
الماء والزهر معاً مــــع زهرِ لحظِ المٌقَلِ
وأنت يا سيد لي وسيدي ومولى لي
فكم فكم تيمني غُزَيلٌ عُقيقلي
قطَّفتَه من وجنةٍ من لثم ورد الخجلِ
فقال لا لا لا لا لا وقد غدا مهرولِ
والخوذ مالت طرباً من فعل هذا الرجلِ
فولولت وولولت ولي ولي يا ويل لي
فقلت لا تولولي وبيني اللؤلؤ لي
قالت له حين كذا انهض وجد بالنقلِ
وفتية سقونني قهوة كالعسل لي
شممتها بأنفيَ أزكى من القرنفلِ
في وسـط بستان حلي بالزهر والسرور لي
والعود دندن دنا لي والطبل طبطب طب لـي
طب طبطب طب طبطب طب طبطب طبطب لي
والسقف سق سق سق لي والرقص قد طاب إلي
شـوى شـوى وشاهش على ورق سفرجلِ
وغرد القمري يصيح ملل في مللِ
ولو تراني راكباً علــــى حمار أهزلِ
يمشي على ثلاثة كمشية العرنجلِ
والناس ترجم جملي في السوق بالقلقللِ
والكل كعكع كعِكَع خلفي ومـــن حويللي
لكن مشيت هارباً من خشية العقنقلِ
إلى لقاء ملكٍ معظمٍ مبجلِ
يأمر لي بخلعةٍ حمراء كالدم دملي
أجر فيها ماشياً مبغدداً للذيلِ
أنا الأديب الألمعي من حي أرض الموصلِ
نظمت قطعاً زخرفت يعجز عنها الأدبُ لي
أقول في مطلعها صوت صفير البلبلِ
وسواء كانت تلك القصيدة الطريفة للأصمعي أم لغيره، لا ينكر أحد أنها من القصائد التي تناقل الناس قصتها جيلاً بعد جيل، واستطاعت أن تحيا إلى يومنا هذا.