حاولت جاهداً الحصول على "حكاية فرح" بشتيّ الطرق منذ الإعلان الأول عن صدورها إلا أنني أخفقت. سألت جميع المكتبات العربية، حتى "تجار الشنطة" المترددين على المطارات أسبوعياً الذين من الممكن أن يأتوا لي بالرواية من القاهرة إلا أنني أخفقت وبشدة، حتى لمع غلافها على Google Books فاشتريتها فوراً وأنا على باب غرفتي في هذا المَنفى الطويل.
بدأت أبحث عن حكاية فرح التي سَطرها الأستاذ عز الدين شكري فشير في الرواية بعدما هَيأت نفسي لطقوس القراءة. بدأت فغرقت ومن ثَم أمعنت الغرق في الصحفات.. هكذا عز الدين شكري يمارس عليك السطوة الأدبية المحببة لقلبك كقارئ رواياته والتي تَلف قلبك ومشاعرك من الصفحة الأولى.
مع كل سَطر كان يلح عليّ سؤال، من الممكن أن أفهم ثِقل وبداعة نسج عز الدين شكري لشخصية فخر الدين في رواية "مقتل فخر الدين" وأبوعمر المصري وابنه عمر في "كل هذا الهراء" وعلي "في باب الخروج"، لكن كيف أتى بفرح؟ كيف "فَصصها" وسَلخ المشاعر، المكتوم والمرغوب والممنوع من رُوحها بهذا الشكل وكتبها؟
حكاية فرح
حكاية فرح ملخص للصراع النفسي المتقد في نفوس ملايين الفتيات والأمهات، مرجع استرشادي لكل فتاة تحاول النجاح وتعاني الإخفاق في تكتيكات التمرد على أمها، نفسها، مدينتها، عائلتها والمجتمع.
نَظر عز الدين شكري بعيني فرح في صغرها في القرية لأمها، جدتها، جدها ومحيطها، راكم تساؤلاتها وإحساسها في صفحات مكثفة ومكدسة بالمشاهد التي حتماً ستجعلك تتوقف كي ترى بَعين فرح نَفسك وتفسر رؤياك ومشاهداتك في الطفولة هل كانت كسذاجة فرح أم بكارثية وكَتم المسكوت عنه وفُسر لاحقاً.
من نجاحات حكاية فرح أنك تقف لتسأل نفسك مع كل عدد من الصفحات أين أنا نفسياً من فرح؟ أين أنا اجتماعياً من فرح؟ أين أنا إنسانياً من فرح؟
كَوني من أبناء مدينة المنصورة فإنني أبحث بنهم في كل رواية لعز الدين شكري فشير عن المنصورة كونه تربى في المدينة الصغيرة. أشعر مع كل رواية أن عز الدين شكري يكتب عن المنصورة لي فقط ولي وحدي. وكأنه يخاطبني "أنا كتبتلك عن شارع الثانوية" وعن "الهابي لاند" عن شجرة الدر وجزيرة الورد ومحطة طلخا وكورنيش النيل.
في فقرة وَصف عز الدين شكري وكتابته عن المنصورة، أُعدل من جلستي استعداداً لمخاطبته لي فيما آتٍ من مشاهد. يصف المنصورة التي رأيتها في الماضي، المنصورة التي أحب، التي أشتاق لها، التي أغضب عليها بكل كياني، المنصورة التي يحرقني المنفى سريعاً وأعرف أني لن أعود إليها أبداً.
يعرف الشوارع كما هي مَرسومة في، يعرف تفاصيل الزرع المهمل، المجاري المنهكة الكورنيش الضيق، يصف المنصورة كأنه كان يراني فيها ويلمس تعلقي بشوارعها.. يكتبها وكأنه يَعرف أنها هَم يثقل قلبي نِزاعاً جيئه وذهاباً.
إنه يرضيني ويطمئنني تماماً وطويلاً حينما يكتب عن المنصورة وفي حكاية فرح أخذني للمنصورة طويلاً في شارع الثانوية حيث كان يَكمن محل خال والدي ذو الباب الخشبي القديم ورائحة الزمن المعبأة به وما زال إلى اليوم بهذا الباب الخشبي.
حكاية فرح تَفرش الصراع النفسي أمامك بلا مواربة.. تضع أمامك التساؤلات هل رأتك أمك بنظره فرح حين تأففت من خدمتها، من ذاكرتها الضعيفة؟
ماذا ستفعل إن كنت مكان فرح، هل تترك أمك في دار المسنين وأنت تعلم أنها على وَشك المَوت أم ستتجرع معاناة الحمل الثقيل في التودد لها رغم أنها قد لا تذكرك كونك ابنها البار الناقم ذا الضمير دائم التأنيب؟
كَم مره تجاهلت نداء أمك في مرضها وصحتها عمداً لأنك مثقل نفسياً، بماذا تثق وأنت تتجاهل مرض أمك أو توجيهاتها أو تنافقها؟
في حين أن علاقة فرح بكريم المالكي كانت محور شد وجذب حول صراع مَن يسبق مَن إلى الأمان النفسي والاعتماد العاطفي والرغبة في الجموح والحرية بلا قيود مع الاحتفاظ بكثير من الأنانية.
حكاية فرح هي عقدة من التناقضات جراء القهر الأسري ما بين قوسي التربية الاعتيادية الواجبة، والنظرة المجتمعية الذابحة لكل ما هو غير مألوف في إطار السلوك، لكنه يتماشى مع إطار الشكل ولو كان على غير حقيقة.
لم تتخلص فرح من عقدها وعاشت في صراع نفسي ما شكل علاقتها بزينة.. هل فرضت عليها قواعد أمها زينب القديمة بطريقة أكثر حداثة والتفافاً؟!
خاتمة
أستاذي عز الدين شكري فشير.. أنت تكتبنا كما نحن جيل بعد جيل.. بعنفوان أفكارنا، سذاجتنا، سفاهة أحلامنا، ذنوبنا الدقيقة، هزائمنا المستمرة، حكايتنا المتهاوية وتكتب موتنا الحتمي لسبب ما تكتبه أن في الصراع النفسي لشخصيات رواياتك.
شكراً لأنك تكتبنا تماماً وتضعنا أمام أنفسنا بالهيئة التي نخشي أن نواجه أو نعترف أو نبحث.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.