هل مفاهيم التعاقد والاختيار ونسبية الممارسة السياسية مفاهيم أصيلة في التصور السياسي الإسلامي؟ أم أنها لاحقة على المفاهيم السياسية الإسلامية عموماً؟ لماذا لا نرى في السيرة النبوية سوى زاوية السرايا والمعارك- وهي جزء منها- ولا نرى فيها زوايا الفتح المدني السلمي الذي به تهوي القلوب إلى الإسلام وتحميه وتنصره بمحض إرادة أصحابها واختيارهم واقتناعهم؟
ثمة محطات نوعية في السيرة النبوية تشكل تقعيداً وتأصيلاً لمفاهيم التعاقد الحر ومدنية الممارسة السياسية والدولة، لكن قد لا نقف عندها للتأمل واستنباط عِبَرها ومعانيها الجليلة بالرغم من أنها تعتبر منطلقاً تأسيسياً لهذه المفاهيم، وغاية هذا المقال الوقوف على بعضها آملين تعميق البحث والقراءة التأملية لمجمل محطات السيرة النبوية لنعتبرها أصولاً ومنطلقات للتقعيد للعديد من قضايا السياسة الشرعية والشأن العام.
1- فتح المدينة نموذجاً للفتح السلمي المدني بدون "غزوات"
إذ يتبين أن سيرة الرسول، عليه الصلاة والسلام، من خلال واقعة الهجرة ليست كلها سيرة "غزوات وسريّات"، ذلك أن هذه الواقعة تؤكد بجلاء أن الأصل في البلاغ والفتح وإرساء الحياة الإسلامية هو الحوار والإقناع بالحجة والبرهان إذا ما توافرت شروط الحرية لذلك، فها هو مصعب بن عمير يكلفه الرسول، عليه الصلاة والسلام، بعد بيعة العقبة الأولى التي حضرها اثنا عشر نقيباً من أهل يثرب للذهاب إلى المدينة ولتعليم الناس هناك مبادئ الدين ومقاصد الرسالة الإسلامية، ومكث مع القوم يؤدي مهمته على أحسن وجه، وبعد عام عاد مصعب في موسم الحج ومعه بضعة وسبعون نفراً، فكانت البيعة الثانية التي ستؤسس للهجرة إلى المدينة؛ وبالتالي للفتح السلمي ليثرب.
2- بيعتا العقبة الأولى والثانية تأسيساً للأمة التي ستصنع دولتها
كانت بيعة العقبة الأولى بيعة على الإيمان بالله والالتزام بهذا الدين، ولقد تمت بعد أن التقى رسول الله، عليه الصلاة والسلام، بستة نفر من أهل يثرب في موسم الحج في العام العاشر من النبوة ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا.
وكان ذلك اللقاء ممهِّداً لبيعة العقبة الأولى التي تمت في العام الموالي في موسم الحج وقد حضرها اثنا عشر رجلاً، التقى هؤلاء برسول الله، صلى الله عليه وسلم، عند العقبة بمنى فبايعوه بيعة النساء، أي وفق بيعتهن التي نزلت بعد الحديبية.
هكذا كانت بنود هذه البيعة التي شكلت اللبنة الأساس لبناء الأمة في المدينة ستكتمل بلبنات أخرى منها بناء المسجد النبوي، ثم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ستكون اللبنة الأساس للدولة التي ستحتضنها هذه الأمة.
3- صحيفة المدينة
لا فصل بين الدين والدولة، بل وصل، والاعتقاد ليس شرطاً في المواطنة. حين تأسست أمة الدين والعقيدة من أهل يثرب وتعاهدوا على أن يحموا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وينصروه وهو بين أظهرهم وأن يلتزموا بتعاليم الدين فلا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه من بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوا الرسول، عليه الصلاة والسلام، في معروف، كان ذلك بمثابة التأسيس للمرجعية العليا التي ستبنى عليها دولة المدينة، وهي الدولة التي وإن أقرت بأن لا فصل بين الدين والدولة على اعتبار بناء هذه الدولة على مرجعية عليا التأمت حولها "غالبية القاعدة الاجتماعية" بالمدينة، فهي أقرت أيضاً بوجوب التمييز بين أمة الدين (الأنصار والمهاجرين) وبين أمة الحضارة، أي بالاعتراف بالتنوع من داخل بنية القاعدة الاجتماعية العامة للمدينة، وصحيفة المدينة حسمت هذا الأمر بالاعتراف بمواطنة أهل الكتاب في ظل دولة الإسلام، إن النظر في بنود صحيفة المدينة يؤكد أن دولة المدينة لم تعتبر "أحادية الاعتقاد" شرطاً في المواطنة، تقول بنودها:
- 1. إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، وكذلك لغير بني عوف من اليهود.
- 2. وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
- 3. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
- 4. وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
- 5. وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه.
- 6. وإن النصر للمظلوم.
- 7. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
- 8. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
- 9. وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل؛ وإلى محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
- 10. إنه لا تُجَارُ قريش ولا مَن نَصَرَها.
- 11. وإن بينهم النصر على من دَهَم يثرب، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
- 12. وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
هكذا اعتبرت وثيقة صحيفة المدينة أن ساكنة المدينة من المسلمين واليهود هم "أمة الحضارة" التي تحتضنها الدولة الإسلامية، ولهم حقوق كما لهم واجبات كما أكدت الصحيفة، فهم ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، ويتناصرون بينهم نصرة للمظلوم وحماية هذه الصحيفة، ويتناصحون فيما بينهم، وأن لا حماية لظالم أو آثم؛ وبالتالي تنتفي بذلك صفة الدولة الدينية التي لا لون في مواطنتها إلا لون ديني واحد وما عداه في درجة ثانية أو ثالثة من درجات المواطنة، على صفة الدولة الإسلامية بالمدينة.
4- الخروج إلى غزوة بدر
حيث أصر رسول الله، عليه الصلاة والسلام، أن يأخذ المشورة من الأنصار في قرار الخروج لملاقاة قافلة أبي سفيان، وإصراره ناجم لكونه، عليه الصلاة والسلام، قد التزم معهم أن ينصروه وهو بالمدينة (وعلى أن تنصرونى إذا قدمت إليكم)، أما وهو خارج على المدينة فثمة أمر جديد في بنود التعاقد الذي كان في بيعة العقبة الثانية.
5- خلاصات
يمكن إجمال أهم خلاصات ما ذكرناه في التالي:
- 1. أن مسيرة ومنهج النبي، عليه الصلاة والسلام، في التغيير والتصحيح والإصلاح كانت تعتمد على مبدأ الاختيار الطوعي للدين أولاً دون إكراه وعلى مبدأ التعاقد المؤسس على التعاهد مع المخالف في المرجعية العقدية.
- 2. وأن الأصل في تبليغ الرسالة وإقناع الناس بها هو الحوار، وأن هذا الإقناع في إطار الحوار إذا ما نجح في جو تسوده الحرية دون صد أو عرقلة لها، فسيكون مآل الرسالة الإسلامية الانتشار والفتح المدني السلمي كما وقع في واقعة الهجرة إلى المدينة.
- 3. وأن الأصل في بناء الدولة، باعتبارها إطاراً تنظيمياً للتعايش، يكون ببناء الأمة التي تحتضن هذه الدولة وتصنعها وفق إرادتها.
- 4. وأن هذه الأمة أمتان؛ أمة العقيدة والدين، التي على أساسها تتأسس المرجعية العليا للدولة، وأمة الحضارة التي هي أوسع من أمة الدين والعقيدة المؤطرة من داخل هذه الدولة في إطار مبدأ المواطنة.
- 5. وأن هذه المواطنة لا تشترط الاعتقاد في اكتسابها بقدر ما تشترط الالتزام ببنود التعاقد بين أبناء الوطن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.