بينما لا يزال العلماء يبحثون عن منشأ فيروس كورونا (كوفيد-19)، عادت إلى الذاكرة حادثة تسرب الجمرة الخبيثة أنثراكس، التي أودت بحياة عدد كبير من الضحايا في الاتحاد السوفييتي في سبعينات القرن الماضي وتسترت عليها الحكومة آنذاك لأكثر من عقد.
في عام 1979، بدأت المستشفيات تستقبل مرضى مصابين بالتهاب رئوي مجهول السبب، وتوفي أول مصاب بعد 4 أيام فقط، بينما توفي آخر مصاب بعد 6 أسابيع.
صادرت الشرطة السرية السوفييتية سجلات الأطباء وأمرت بالتزام الصمت، والتقط جواسيس أمريكيون دلائل تشير إلى حدوث تسرب من مختبر سوفييتي، لكن السلطات المحلية قالت إن السبب هو استهلاك اللحوم الملوثة.
تسرب الجمرة الخبيثة
ثم في أبريل/نيسان ومايو/أيَّار 1979، توفي ما لا يقل عن 66 شخصاً بعد تسرب بكتيريا الجمرة الخبيثة المنقولة بالهواء من مختبر عسكري في الاتحاد السوفييتي، لكن عدداً من كبار العلماء الأمريكيين أعربوا عن ثقتهم في ادعاء السوفييت بأنَّ العامل الممرض انتقل من الحيوانات إلى البشر بعد استهلاكهم لحوماً مصابة.
لم تظهر الحقيقة إلا بعد مرور أكثر من عقد كامل بعد إجراء تحقيق شامل عام 1990، حيث أكَّد أحد هؤلاء العلماء الشكوك السابقة بأنَّ ما حدث كان نتيجة تسرب مختبري، في واحدة من أكثر الحوادث الفتاكة الموثقة على الإطلاق، حسب ما نشرته صحيفة The New York Times.
يوضح هذا الحادث كيف تستطيع حكومة استبدادية صياغة قصة تفشي أي مرض.
يعتقد العديد من العلماء أنَّ الفيروس الذي تسبب في جائحة كوفيد-19 تطور في الحيوانات وانتقل في مرحلة ما إلى البشر، لكنهم يؤكدون أيضاً ضرورة إجراء تحقيق أشمل في احتمالية تسرب فيروس كوورنا من مختبر معهد ووهان لعلم الفيروسات.
ثمة أيضاً قلق واسع النطاق من أنَّ الحكومة الصينية- التي تنفي احتمالية حدوث تسرب مختبري على غرار ما فعلته الحكومة السوفييتية قبلها بعقود- لا توفر للمحققين الدوليين إمكانية الوصول إلى البيانات التي قد تلقي الضوء على أصول هذا الوباء.
قال ماثيو ميسلسون، عالم الأحياء بجامعة "هارفارد" الأمريكية، في مقابلة هذا الشهر: "لدينا جميعاً مصلحة مشتركة في معرفة ما إذا كان كوفيد-19 نتيجة حادث معملي".
السوفييت أقنعوا العالم بأن الفيروس انتقل عبر لحم فاسد
وبعد حادثة تسرب الجمرة الخبيثة، انتقل الدكتور ميسلسون، خبير الحرب البيولوجية، إلى غرفة نوم إضافية في منزل أحد أصدقائه في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) عام 1980 لدراسة معلومات استخباراتية سرية تشير إلى أنَّ ظهور الجمرة الخبيثة السوفييتية ربما كان مرتبطاً بمنشأة عسكرية قريبة تسمى Compound 19.
وقتها اعتقدت الولايات المتحدة أن الاتحاد السوفييتي ينتهك اتفاقية الأسلحة البيولوجية الموقعة في عام 1972 وأعلنت شكوكها على الملأ.
كتب ميسلسون، بعد 6 سنوات لاحقة، أنَّ التفسير السوفييتي لأصل هذا الوباء كان "معقولاً"، مشيراً إلى أنَّ الأدلة التي قدّمها السوفييت متسقة مع النظرية القائلة بأنَّ الجمرة الخبيثة المعوية نشأت في وجبة عظام ملوثة كانت تُستخدم علفاً للحيوانات.
ثم، في عام 1992، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أقرَّ الرئيس الروسي، بوريس يلتسن، بتسرب بكتيريا الجمرة الخبيثة من مختبر سوفييتي عسكري، قائلاً حينها إنَّ "تطورنا العسكري كان السبب في تفشي الجمرة الخبيثة".
عندها توجه الدكتور ماثيو ميسلسون وزوجته، عالمة الأنثروبولوجيا الطبية، جين غيليمين، إلى مدينة يكاتيرينبرغ الروسية في وقتٍ لاحق مع خبراء أمريكيين آخرين لإجراء دراسة دقيقة عن أصول الجمرة الخبيثة.
وثَّق هؤلاء العلماء هبوب الرياح الشمالية الشرقية يوم 2 أبريل/نيسان 1979 حاملة معها قدراً قليلاً من جراثيم الجمرة الخبيثة التي تسربت بالخطأ من مختبر الأبحاث العسكري عبر منطقة ضيقة تمتد على الأقل 30 ميلاً باتجاه الريح.
قال الدكتور ميسلسون: "تستطيع اختلاق قصة مجنونة تماماً وجعلها معقولة بالطريقة التي تصوغها بها"، في إشارة إلى سبب نجاح السوفييت في تبديد الشكوك حول التسرب المختبري.
وفقاً لعدة مقابلات أجريت مؤخراً مع سكان يتذكرون تلك الأيام، ظهرت شكوك التسرب المختبري في مدينة يكاتيرينبرغ، التي كانت معروفة في العهد السوفييتي باسم "سفيردلوفسك"، بمجرد أن بدأ الناس يمرضون لأسباب غامضة.
تقول ريسا سميرنوفا، التي كانت تعمل في مصنع سيراميك قريب من المنشأة العسكرية وتبلغ من العمر حينها 32 عاماً، إنَّها سمعت من أصدقاء لها يعملون في هذه المنشأة الغامضة عن وجود نوع من العمل السري يجرى على الجراثيم في مختبر هذه المنشأة وأنَّ الشائعات المحلية ستنسب تفشي الأمراض العرضية إلى المختبر.
في ذلك الوقت، بدأت تظهر على ريسا أعراض انخفاض مستويات الأوكسجين في الدم، حيث سألها أحد زملائها في العمل ذات يوم في أبريل/نيسان 1979 عن سبب زرقة يديها.
أصيبت ريسا بحمى شديدة نقلت على إثرها إلى المستشفى، حيث أمضت أسبوعاً كاملاً فاقدة الوعي. توفي حوالي 18 من زملائها في العمل بحلول شهر مايو/أيَّار.
قبل أن يُسمح لها بالعودة إلى المنزل، أحضر إليها أحد عملاء جهاز الاستخبارات السوفييتية "K.G.B" وثيقة لكي توقع عليها تمنعها من الحديث عن هذا الأمر لمدة 25 عاماً.
تستر كبار مسؤولي الصحة
كان عالم الأوبئة، فيكتور رومانينكو، مشاركاً في التستر على حادثة تسرب بكتيريا الجمرة الخبيثة من المختبر السوفييتي. يقول رومانينكو إنَّه عَلِم على الفور أنَّ المرض الذي ضرب المدينة لا يمكن أن يكون الجمرة الخبيثة المعوية التي تنقلها الأغذية، كما زعمت السلطات الصحية، حيث أظهر نمط الحالات وتوقيتها وخارطة توزيعها أنَّ العامل الممرض منقولاً بالهواء.
وأضاف رومانينكو، الذي أصبح لاحقاً مسؤولاً صحياً إقليمياً رفيع المستوى في حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي: "لقد أدركنا جميعاً أنَّ التفسير السوفييتي كان محض هراء"، لكن لم يكن أمامه خيار سوى المشاركة في تلك التمثيلية.
قال ميسلسون إنَّه عندما اتصل بمسؤول روسي في أوائل التسعينيات حول إعادة التحقيق في تفشي المرض، كان رده: "لماذا تريد إفشاء الأسرار المخزية؟".
لكنه أكد أنَّ تحديد أصول الأوبئة يصبح أكثر أهمية عندما يتعلق الأمر بالجغرافيا السياسية، مشيراً إلى أنَّ هذه القضية ربما كانت ستظل مصدر إزعاج في العلاقة بين روسيا والغرب لو لم يعلم هو وزملاؤه سبب تفشي المرض في ذلك الوقت.
تسرب إنفلونزا الخنازير H1N1
والجمرة الخبيثة ليست اللغز الوحيد، إذ حصلت حادثة أخرى في الاتحاد السوفييتي لا تزال لغزاً.
لم يتم إثبات أي دليل توضيحي على الإطلاق- ومن غير المرجح أن يحدث ذلك على الإطلاق.
في عام 1977، تفشى فيروس الإنفلونزا H1N1 في المنطقة الحدودية بين الصين والاتحاد السوفييتي. انتشر في نهاية المطاف في جميع أنحاء العالم في ذلك العام، مما أصاب عدداً كبيراً من المرضى الأصغر سناً. ولحسن الحظ، كان معدل الوفيات منخفضاً نسبياً مقارنة ببعض سلالات الإنفلونزا.
كان الجانب المقلق من هذا التفشي هو أن هذه السلالة الخاصة من H1N1 لم تظهر منذ عام 1950، عندما حلت محلها سلالات أخرى، حسب ما نشره موقع Bloomberg.
ووُصف الظهور المفاجئ لها بأنه "سفر عبر الزمن"، وتكهن عدد قليل من الباحثين بأنه ربما تسرب من مختبر في الاتحاد السوفييتي أو الصين، لكن هذا الاحتمال، الذي نفاه البلدان وقتها، لم يتم التأكد منه قط.
لكن الحادث ظل لغزاً لعلماء الفيروسات، الذين حاولوا مراراً وتكراراً تفسير ما حدث.
ظهرت نظريات مختلفة لتشرح ما أصبح يُعرف باسم "التطور المجمد"، ولكن على مدار العشرين عاماً الماضية، ساد اعتقاد بأن هذا التفشي كان على الأرجح نتيجة نوع من القفزة التي حدثت للبشر من مختبر غير معروف.
تقول نظرية ذات صلة إنه كان على الأرجح نتيجة تجربة لقاح فاشلة مرتبطة بمحاولات مكافحة إنفلونزا الخنازير، وتسبب خطأ بشري أو تهاون في إجراءات السلامة في انتقاله من المختبر وانتشاره بين الناس.
احتمال تستر الصين على أصل فيروس كورونا
الأمر نفسه ينطبق على التحقيق في مصدر وباء فيروس كورونا المستجد، إذ قال ميسلسون إنَّ هذا السؤال العالق عن مصدر الوباء سيستمر في إثارة التوترات مع الصين بدرجة أكبر مما لو كانت الحقيقة معروفة.
على عكس فيروس كورونا المستجد، لا تنتقل بكتيريا الجمرة الخبيثة بسهولة من إنسان إلى إنسان، وهذا هو السبب في أنَّ تسرب مختبر سفيردلوفسك لم ينجم عنه انتشار الوباء على نطاق واسع.
ووفقاً للمقابلة التي أجراها النائب الأول السابق لرئيس Biopreparat (الجزء المدني من برنامج الأسلحة البيولوجية السوفييتي) الدكتور كانتاجن عليبكوف مع مجلة FRONTLINE، فإن تسرب الجمرة الخبيثة المحمول جواً نتج عن العمال في المنشأة العسكرية الذين نسوا استبدال مرشح في نظام العادم.
تم اكتشاف الخطأ بعد فترة وجيزة واستبدل المرشح، ولكن بحلول ذلك الوقت تسربت بعض جراثيم الجمرة الخبيثة.
يقول عليبيكوف إنه إذا كانت الرياح في الاتجاه المعاكس في ذلك اليوم- نحو مدينة سفيردلوفسك- كانت الوفيات لتصل إلى مئات الآلاف.
ومع ذلك، لم تحل قضية مختبر سفيردلوفسك بالكامل، إذ لم يتضح بعد ما إذا كان النشاط السري في المنشأة بهدف تطوير أسلحة بيولوجية غير مشروعة أو أبحاث إنتاج لقاح.
وحتى يومنا هذا، لم يُسمح للمفتشين الغربيين بزيارة هذه المنشأة العسكرية.