شتاء عام 1940، كنتُ أعمل في دفاتر السجلّات في السجن. ذات صباح، بينما كان الكاتب يقلّب الأوراق الجديدة القادمة، قال: "هنيئاً لك".
نظرتُ إليه في حيرة:
– سيأتي أستاذك!
اندهشت تماماً، لم يكن لي أستاذ أو ما شابه.
– هل تتحايل عليّ؟
– لا، ليس لي أيّ أساتذة!
– إنه ناظم حكمت يا حبيبي.. ألا يُعَدّ هذا أستاذك؟
قبل قرابة عام ونصف من الآن شاهدت بالصدفة منشوراً لأحد أصدقائي عبر فيسبوك كان يتحدث خلاله عن أحد الكتب التي تتناول حياة الشاعر التركي ناظم حكمت في السجن، لم أكن أعرف الكتاب، ناهيك عن ناظم حكمت نفسه، لكن ولأن أحد أصدقائي الآخرين في إسطنبول يعيش في شارع "ناظم حكمت" بأحد أحياء المدينة فقد لفت انتباهي اسم الرجل وبدأت رحلة البحث عن أشعاره عبر جوجل.
وكان أول ما قابلني أبيات شعر مترجمة للعربية لمستني بطريقة ما، ربما لأنني وناظم تشاركنا الكثير من الأشياء -بكل تأكيد ليس منها فصاحته في الشعر- مثل الاغتراب والظلم والقهر وبدرجة ما الحياة في ظل الديكتاتورية والشمولية السياسية؛ أعجبت سريعاً بتلك الأبيات وبسرعة أكبر بدأت ترتيبات حصولي على نسختي الخاصة من "3 سنوات ونصف مع ناظم حكمت في سجن بورصة"، ولأن الحصول على كتاب عربي في إسطنبول قد يكلف الكثير من المال والوقت، ما بالك إذا كان الكتاب مترجماً من لغة أخرى فحاولت الحصول عليه من مصر ومن حسن حظي تزامن ذلك مع تنظيم معرض القاهرة الدولي للكتاب؛ هذا المعرض الذي أدين له على المستوى الشخصي بالكثير حالي حال الملايين من المصريين والعرب الذين دائماً ما يجدون ضالتهم بين أروقته.
تواصلت مع أحد أصدقائي للبحث عن الكتاب مترجماً في المعرض وفي غضون أسبوع واحد كان بين يديّ هذا الكتاب بغلافه الأصفر الذي يتزين بصورة نادرة جمعت ناظم حكمت بمؤلف الكتاب ورفيق سجنه الروائي التركي الشهير أورهان كمال، وترجمه للعربية أحمد زكريا وملاك دنيز أوزدمير، ومنذ هذه اللحظة بدأت رحلتي السحرية مع صفحاته التي تكاد تبلغ 150 صفحة فقط، لكنني عشت معها الكثير والكثير من اللحظات الملهمة.
إذا كنت تؤمن بالوطن
بالعالم وبالإنسان..
فسيقودون خطاك إلى المشنقة
أو سيلقون بك في الزنازين
ستبقى هناك عشر سنين
أو ربع قرن
ولكن مهما يكن الأمر
عليك ألا تفكر حتى ولو للحظة
أنّهم لو علّقوك كالعلم على العمود
لكان ذلك أفضل
يبدأ الكتاب بحديث أورهان نفسه وعن لحظات سجنه التي ربما لو لم يصادف ناظم في السجن ما امتلك الجرأة أو الفصاحة على تدوينها، تفاجأ أورهان بنقل ناظم إلى السجن نفسه فلطالما كان معجباً به وبأشعاره، بل إنه تعرض للاعتقال بعد أن فتشه أحد العساكر في إسطنبول واكتشف أن بحوزته ديوان شعر لناظم!
أخذ يتحين أورهان الفرصة تلو الأخرى للتقرب منه، وفي غضون أيام قليلة أصبح أورهان أقرب أصدقاء ناظم في السجن؛ ذلك الرجل الذي تحول من شاعر إلى مدمن لنشر البهجة والتفاؤل والمزاح، ومدمن أيضاً للسجائر.
لم يتوقف ناظم عن إلهام من حوله فبدأ سريعاً مشروعاً تجارياً من داخل السجن لتوفير الأموال إلى أسرته في الخارج ولمساعدة زملائه في العنبر عبر الاشتراك في ورش الخياطة وحياكة بعض الملابس الجاهزة ليتم بيعها في الخارج أو داخل السجن ولم يتوقف عن استكشاف مواهبهم في الأدب والكتابة.
فأورهان نفسه هو إحدى المواهب التي اكتشفها ناظم وعمل على تحسين جودتها في الكتابة ليصبح بعد ذلك أحد أهم الكتاب في البلاد والذي خط رواياته كلها عن الفقراء والطبقة الكادحة، لكن إلهام ناظم لأورهان والآخرين لم يكن وحده الأمر الذي جذبني لحظة تلو الأخرى للكتاب، فبطريقةٍ ما قد قابلتُ أنا شخصياً العشرات من ناظم حكمت؛ "ناظم" الحالة التي تستطيع أن تسرق البهجة من العالم كله ثم تقوم بتوزيعها على هؤلاء المقاومين البائسين والمقهورين خلف جدران الظلم.
لم يمر وقت طويل حتى بدأ الجميع يتأثر بناظم فقد أصبح الرجل حديث الساعة، ليس ذلك فقط بل إنه أصبح أهم من المأمور شخصياً، فبعيداً عن كونه مسجوناً سياسياً، كان الجميع داخل وخارج السجن يعلم قيمة ناظم ويقدره ويقرأ أشعاره، بل إن البعض كان يجزم أن قادة الدولة التركية آنذاك كانوا من أشد المعجبين بما يكتبه، وبهذا وجد ناظم لنفسه وضعاً استثنائياً داخل السجن لم يستغله يوماً لمصلحته الشخصية كما يفعل أغلب السجناء، بل أصبح يستنفد رصيده من الخدمات والطلبات التي يستطيع أن يطلبها من الضباط والعاملين من أجل مساعدة زملائه إذا ما كان أحدهم في حاجة إلى علاج أو زيارة استثنائية سريعة، بالإضافة بالطبع لتأمين أكبر قدر ممكن من السجائر وساعات السهر المسموح بها للمساجين، ولم تكن تلك المنة الوحيدة التي يمنحها ناظم لزملائه، بل أعظم ما منحهم إياه كان الحكمة والإنسانية وحب الوطن والناس، وهنا يذكر أورهان كمال حديثه مع ناظم عن الشعر عندما قال له حكمت: "ينبغي أن يفهم الناس الشعر ويصبح شعراً لهم"، وهذا طبيعي، فقد كان ناظم من الناس وقد كانوا منه هم أيضاً.
رفاقي إذا لم أعش لرؤية ذلك اليوم
أعنى لو مت قبل أن تأتي الحرية
خذوني بعيداً..
وادفنوني في مقبرة قرية أناضولية
لم تكن حياته أو فترة سجنه وحدها المثيرة، وهنا جانب آخر جميل من الكتاب، فقد نقل أورهان آراء ناظم في السياسة وفي اللغة أيضاً، رغم أن ناظم تركي خالص فإنه ظل مدافعاً حتى يومه الأخير من حياته عن اللغة العربية وعن تغيير الهوية والثقافة التركية في عهد الجمهورية الحديثة، وفي كل صفحة من صفحات الكتاب ستشعر بحرص الكاتب على إيصال هذه الآراء والمشاعر كما هي إلى القارئ، فبقدر ما كان ناظم ملهماً لأورهان كان أورهان متيماً به وبأشعاره.
وفي النهاية يأتي الجزء الأجمل من ذلك الكتاب الصغير، وهو مراسلات الرجلين من خارج السجن فقد تبادلا معاً الرسائل لسنوات طويلة، كان ناظم في جزء منها لا يزال مسجوناً بينما كان أورهان قد خرج من السجن بعد أن قضى أهم 3 سنوات ونصف من حياته وبعد أن تحول من قارئ متيم بناظم إلى أديب متمكن تتلمذ على يد أهم شعراء الدولة التركية الحديثة.
تبادل الرجلان الرسائل لسنوات إذاً، واحتفظ الأبناء بتلك الرسائل لتضاف بعد ذلك في نهاية الكتاب، لتصبح هذه المراسلات جزءاً هاماً من إرث حكمت الذي ندين جميعاً كمعجبين به لأورهان، لتسجيله هذا الكتاب، الذي يعد أهم مرجع عن ناظم، موجود بين أيدينا الآن.
والآن يا عزيزي القارئ، في حياة كل منا ناظم حكمت لا يقل أهمية لديه عن أهمية ناظم في حياة أورهان، ولهذا أدعوك أن تجد الرجل في الواقع الذي حولك، وأن تعرفه أكثر من خلال القراءة عنه، فبإمكانك -إن كنت في مصر- أن تستغل وجود معرض القاهرة للكتاب الذي ينظم في الصيف للمرة الأولى، وتحصل على نسختك الخاصة من "3 سنوات ونصف مع ناظم حكمت في سجن بورصة"، أو بأي شكل في أي بلد آخر عموماً. وفي النهاية إذا كنت مثلي تتشارك مع ناظم حب الوطن والإنسان والخير وتناضل من أجل الحرية والكرامة فاعلم أن الحرية تستحق أن تنتظرها كما انتظرها ناظم لسنوات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.