الشيطان يعظ ابن آدم

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/09 الساعة 09:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/09 الساعة 09:57 بتوقيت غرينتش
الشعور بالندم / Istock

كانت الأرض تعم فرحاً والسماء مصابيح صافية، أجراس الكنائس تدّق، وأصوات الأذان تعلو بالتكبير في المساجد، وصلوات العابدين في المعابد تتزايد، كان العالم مُبهجاً، وكأنه يشهد عُرساً من أفراح "الجنة" التي ينتظرها سكان الأرض، حيث اجتمعت أعياد العالم كلّها في يوم واحد، يوم من الزمان لن يتكرر مرة أخرى.

عمّ الفرح قلوب الناس.. انتشر الحب بين القلوب يطهر نفوس المخلوقين، وكأن الله أراد أن يُشهد الإنسانية آية من آياته رأي العين. فشل الشيطان في إفساد هذا اليوم على الخلق، حتى أتباعه من البشر مَسَّ قلوبَهم نورٌ من الله فلم يلبّوا لهُ طلباً في ذلك الوقت، فراودته نفسه متسائلاً: أين أنا من رحمة الله؟

عظمت ذنوبي واشتد البلاء عليَّ مُنذ أن عصيت ربي وأبَت نفسي السجود لآدم، وتحكم الكِبر مني حين قلتُ "أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ".. ومُنذ هذا الأوان ويتوافد عليّ الكثيرون من بني آدم فأغويهم بأقل شيء من متع الحياة، فيصبحوا من أتباع مملكتي وأصبح لهم إماماً.

ألم يَحن الوقت كي أستريح بعد قرون من العمل من أجل تضليل البشرية؟

أراد الشيطان أن يكفر عن خطيئته الأولى بأن يتوب ويكف عن غواية البشرية، أراد أن يتذوق طعم الخير ويكف عن الشر، فتنكَّر ولبسَ ثياب البشرية، وذهب يبحث في الأرض عن مغفرة فكلّما نظر إلى مَن حوله في الطرقات ذلك اليوم المشهود ذاب قلبهُ إلى كلّ شيء طاهر بريء، واحترق شوقاً إلى الخير.

تجول في الأرض كلّها بحثاً عن أحدٍ يعرض عليه توبته فلم يجد إلّا رجلاً حليماً يحمل السماحة، عرفه الرجل في اللحظة التي رآه فيها.. فقال له بصوت مرتجف:

–       أهو أنت؟

–        نعم أنا..

–       وماذا تريد مني؟!

–       الدخول في الإيمان..

–       ماذا تقول أيها اللعين؟

–        ما عدّت أسْتَحَقُّ هذا الوصف.. جئت أطلب الغُفران.. لا بد لي أن أبصر الحق ذات يوم، أن أذوق حلاوة الخير الذي وهبهُ الله لكَ من دوني، فلماذا أنت أيها الإنسان تحتكر حُب الله أكثر ممن خلق الله من عباده؟

–       أنا الذي قَبلت الأمانة التي عرضها الله عليَّ "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ". وأنت مَن اخترت ما أنت عليه الآن.. هذا منذ أن عصيت أمر ربك وأبَيت السجود لآدم فأصبحت ملعوناً مُنذ ذلك الحين إلى يوم نُبعث فيه جميعاً.. بعد أن كُنتَ في منزلة عظيمة وسط الملائكة وتسكن الجنة.

صاح الشيطان في أعماق نفسه قائلاً: يا ليتني أطعتُه في ذلك الحين.. اليوم جئت أطلب المغفرة والدخول في رحمة الله، أليس عند بعضكم في الإنجيل: "إِنَّهُ هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارًّا لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ".. وأليس من حق الناس أن يدخلوا في دين أفواجاً كما جاء في القرآن: "فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً".

اهْتزَّ الرجل لهذه النبرات الصادقة، لكنه لم يكُفّ عن الدهشة..

–       أنت يا إبليس.. تريد أن تدخل الإيمان الآن؟ وأي دين تُريد أن تدخله؟

–       لا أريد إلا طاعة الله ورحمته، أن أتذوق الخير مرة وأكفّ عن الشر.. ثم افعلوا بيّ ما تريدون.. ألقوا بي في الجحيم بعدها.. فقد سئمت من أفعالي وغوايتي لبني آدم.. كلّ ما أريده أن أصبح واحداً من هؤلاء المؤمنين الخيّرين غير المغضوب عليهم.. أنقذني بربك.

سأله الرجل مستعجباً..

–  طالما تريد المغفرة فلماذا جئت إليَّ، لِم لَم تلجأ إلى السماء؟

–  جئت أطلب ممن كان السبب في عصياني.. إلى من أبَت نفسي السجود إلى أبيه.. فأنتَ مَن تسبب فيما أنا عليه الآن.. جئت لتكون أنتَ الوسيط بيني وبين الله حتى يقبل مغفرتي فأنا لا أستطيع أن أواجه الله وأطلب منه التوبة.

لم يعرف الرجل ما يقوله للشيطان.. لكنه شعر بأنّ إبليس يريد التوبة حقاً.

–       لكن ماذا سيصبح اسمك بعد أن تقبل توبتك؟ غير أنّي لست وكيلاً لهذا فأنا مثلك، كلّ ما عليَّ فعله هو طاعة الله وفعل الخير واجتناب فعل الشر، وربي هو من يقرر نتيجة أفعالي هذه، لكنّي أرى أن توبتك مستحيلة، ففي توبتك خللٌ في نظام الكون، إفسادٌ في مشيئة الله.. توبتك ستهدم أركان الإيمان التي لا تكتمل إلا بوجود الشر الذي تدعو إليه، فلا قيمة لي كإنسان في عدم وجود الشر والغواية التي تدعو إليها، إن إيمانك يهدم آيات القرآن التي جاءت تدعو إلى اجتناب أفعالك وخللاً في أحكام المسيحية التي تدعو إلى المحبة والخير من دونك.. عليك أن تعرف أنّ وجودك على هذه الصورة المعروف بها هي إحدى أهم ركائز الحياة التي نعيشها، فلا معنى للخير إلّا في وجود الشر، ولا إِعلاء للفضيلة إلّا في وجود الرذيلة التي تدعو إليها، إيمانك يعني هدماً للأركان وخلطاً لأمور الحياة.

–       لك الشكر.. قالها الشيطان بذُل وندم.

خرج الشيطان واليأس ملء روحه، يُحدث نفسه: لقد كتبَ عليَّ أن أبقى هكذا، أميراً لمملكة العاصين والمغضوب عليهم، فوجودي يعني وجود الخير، والعتمة التي تسكن روحي تعكس نور الله في قلوب المؤمنين، وإفساد روحي تعني صفاء وحكمة الله، وزوالي يعني هدماً لأركان الإيمان.

عفوك يا رب.. لماذا كتبت عليَّ أن ألعب هذا الدور؟ لماذا كتبَ عليَّ هذا القدر المُخيف؟

ها أنا الآن أُحبك حباً لا مثيل لهُ.. لم تدركهُ الملائكة ولم يعرفه البشر.. ويا ليتَ بني آدم يعرفون حقك ويحسنون عبادتك قبل يومٍ لا ينفع فيه ندم مثل الآن.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

إسلام كوجاك
كاتب مصري
كاتب مصري حاصل على بكالوريوس إعلام، دارس للنقد الفني من أكاديمية الفنون، له العديد من المقالات والنصوص الأدبية التي نشرت في عدد من المنصات الإلكترونية، كما عمل كمحرر صحفي في عدد من المواقع والصحف الإخبارية، ويعمل حاليًا في مجال الدعايا الإعلان بإحدى القنوات الفضائية -CBC- التابعة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية. صدرت له روايته الأول تحت عنوان في الليلة الأخيرة بيننا - سنة 2020، والرواية الثانية سَكرةُ الحياة صدرت 2023.
تحميل المزيد