رغم أن هذا الرجل قد كان أحد أبرز قادة صربيا العسكريين، الذين ارتكبوا جرائم حرب ومجازر وحشية، فإنّه صدر بحقه حكمٌ بالسجن مدى الحياة على الجرائم التي ارتكبها بحقّ المسلمين في البوسنة. وقد طالب محامو دفاعه باستئنافٍ على الحكم، لكنه صدر في النهاية بالسجن مدى الحياة.
دعونا نلقي نظرة على قصة راتكو ملاديتش، ذلك القائد الصربي الذي ارتكب مجازر هائلة في البوسنة، كان أشهرها مذبحة سربرنيتسا (أو مذبحة سربرنيتشا) التي راح ضحيتها 8372 مسلماً أعزل، ما جعله يفوز بلقب "جزّار البلقان".
البداية.. من يوغوسلافيا التي تفكّكت
تأسّست جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وقد تأسّست على هيئة اتحادٍ متكوّن من 6 جمهوريات مختلفة عرقياً وتاريخياً، ربما أبرز هذه المجموعات المميزة هي البوسنة، فهم مسلمون ولكنّهم في محيطٍ مسيحيّ مختلف عنهم عرقياً وهوياتياً وكذلك تاريخياً وسياسياً.
ومع تفكُّك يوغوسلافيا الذي بدأ عام 1991 وحصل بشكلٍ نهائي عام 1992، نشبت العديد من الحروب التي سمِّيت باسم "حروب البلقان"، والتي خرج منها رجل مثل راتكو ملاديتش الذي لُقّب بـ"جزّار البلقان".
وقد كان أكبر وأقوى أطراف هذه الحروب هي صربيا، باعتبارها الدولة الأكبر التي اعتقدت أنّها تستطيع أن تفرض سيطرتها على بقية الجمهوريات المختلفة عرقياً وهوياتياً وسياسياً معها.
وخلال هذه الحرب البشعة كان المسلمون البوشناق (البوسنيون) أبرز ضحاياها، فلم يكن لهم تكتُّل سياسي قوي مثل الصرب أو الكروات على سبيل المثال. وعندما أرادوا أن يؤسسوا دولتهم الموجودة أصلاً منذ القديم رفض الصرب.
في البداية دخل الصرب حرباً مفتوحة مع الكروات، لكنّهم كانوا مسلَّحين جيداً واستطاعوا أن يوازنوا الحرب مع الصرب. خلال كلّ هذه الحروب كان الصرب يتحركون وفق استراتيجيتهم باستعادة "صربيا الكبرى"، والتي هي عملياً خليفة جمهورية يوغوسلافيا.
لكنّ سلوبودان ميلوسوفيتش الذي كان قائداً للصرب وكذلك مبشراً بفكرة "صربيا الكبرى" لم يعطِ القوميات الأخرى أيّ أمل بوجودٍ مساوٍ للصرب في "صربيا الكبرى" تلك.
وعلى كلّ حال، فشلت محاولات "صربيا الكبرى"، وتمّت محاكمة سلوبودان ميلوسيفيتش نفسه من قبل المحكمة الدولية في لاهاي، ووجد ميتاً في زنزانته عام 2001. لكن في طريق محاكمته ارتكب الصرب بقيادته مجازر بشرية، كان أبرزها تلك التي قادها راتكو ملاديتش.
بداية راتكو ملاديتش
في يوغوسلافيا السابقة كان المواطنون جميعاً يحظون بظروفٍ متقاربة، ورغم أنّ مؤسس يوغوسلافيا جوزيف بروز تيتو كان كرواتياً فإنّ الدولة ظلّت واحدةً تحت ظلال الشيوعية، وما إن توفي تيتو عام 1980 حتّى بدأت الدولة التي أسسها في التفكُّك، وكان الصرب هم الأقوى في هذه المعادلة.
تاريخياً كان الصرب قوةً كبرى في منطقة البلقان قبل أن يقضي عليهم العثمانيون في سلسلةٍ من المعارك. وهو ما ظهر في خطبة سلوبودان ميلوسيفيتش عام 1989 بمناسبة مرور 600 عام على حربٍ بين الصرب والأتراك.
وفي يوغوسلافيا الشيوعية كان راتكو ملاديتش قد تخرّج في الأكاديمية العسكرية للمشاة في بلغراد، عاصمة صربيا، ثمّ دخل كلية أركان الحرب، وأصبح ضابطاً في الجيش اليوغوسلافي.
ومع صعود أسهم الصرب بعد انهيار يوغوسلافيا عام 1992، صعد نجمه أيضاً باعتباره قائداً صربياً يسعى مع القادة الصرب الآخرين لتأسيس "صربيا الكبرى". وقد كان راتكو ملاديتش قائداً عسكرياً ميدانياً يقود المعارك على الأرض بنفسه.
ومع بدايات الحرب الصربية على كرواتيا عام 1991، خدم راتكو ملاديتش في منطقة واقعة قرب غرب كرواتيا، التي أعلنت استقلالها فبدأت معها الحرب. وكانت أبرز أفعاله في هذه الحرب هو قصف المدن الكرواتية بالدبابات، كما ارتكب مذابح بحقّ الكروات أيضاً.
وفي شهر أبريل/نيسان من عام 1992، تمّ تعيينه قائداً للجيش الثاني في سراييفو عاصمة البوسنة، وفي البوسنة قاد حصاراً على العاصمة سراييفو استمرّ 1425، أي قرابة 4 سنوات، ليصبح بذلك أطول حصار في تاريخ أوروبا الحديث.
مذبحة سربرنيتسا.. فضيحة للإنسانية
وكأنّ المجازر التي ارتكبها بحق الكرواتيين، ثمّ حصاره الخانق على العاصمة البوسنيّة أهّلاه ليتقدّم في الجيش الصربيّ أكثر، فقد تمّ تعيينه قائداً لما أُطلق عليه "جيش صرب البوسنة"، فقد كان راتكو ملاديتش صربياً من ناحية العرق، لكنّه ولد كذلك في العاصمة البوسنية سراييفو.
وهكذا مع تطور الأحداث صار قائداً لجيش صرب البوسنة، ففي البوسنة صرب كما في صربيا بوسنيون، وهكذا جنّدت صربيا الصرب البوسنيين لصالحها في الحرب.
أثناء قيادته لتلك القوات ارتكب مجازر عديدة ممنهجة. ففي العاصمة البوسنية سراييفو كان هناك قنّاصة يحوِّطون بعض الأماكن ليقتلوا المدنيين، كما قصف العاصمة بالقنابل والصواريخ، ما أسفر عن مقتل حوالي 10 آلاف شخص مدني منهم 1601 طفل قتلوا وهم يلعبون فقط أمام بيوتهم وفي مدارسهم.
وبالإجمال شملت جرائم راتكو ملاديتش ضدّ المسلمين البوسنيين حوالي 15 بلدية داخل البوسنة، لكنّ أبرز تلك المجازر وأبشعها كانت مذبحة سربرنيتسا.
مع تطورات الحرب صارت منطقة سربرنيتسا جيباً معزولاً عن الأراضي التي يسيطر عليها الصرب. ولأنّها معزولة من مناطق سيطرة الصرب توافد عليها البوسنيون من جميع الأراضي البوسنية، وهكذا تكدّست المدينة بالبوسنيين النازحين من مناطقهم المدمرة.
حاصر الصرب سربرنيتسا من جميع الجهات، ومع الحصار قلّ الغذاء والتموين والماء والمواد الطبية اللازمة.
وفي شهر أبريل/نيسان من عام 1993 تدخّلت الأمم المتحدة حين أعلنت منطقة سربرنيتسا منطقة آمنة تابعة للأمم المتحدة، وأرسلت قوات دولية للحفاظ عليها منطقة آمنة. وطلبت الأمم المتحدة من المتطوعين البوسنيين تسليم سلاحهم، بعدما سلم البوسنيون سلاحهم توقفت الهجمات الصربية، لكنّ الحصار ظلّ مطبقاً عليهم.
لكنّ الصرب أغلقوا المنفذ الوحيد الذي كان يدخل للبوسنيين منه الطعام والماء والمواد الطبية اللازمة. وفي عام 1995 قاد راتكو ملاديتش هجوماً دموياً على المدنيين البوسنيين العُزّل.
وقبلها دخل راتكو ملاديتش إلى منطقة سربرنيتسا مع كاميرات الإعلام يطمئن المدنيين البوسنيين، وما إن خرجت وسائل الإعلام حتّى بدأت الخطة الصربية لإبادة البوسنيين المسلمين، بقيادة راتكو ملاديتش.
بدأت القوات الصربية بقصف سربرنيتسا بالمدفعية والصواريخ الثقيلة على مدار 5 أيام.
في اليوم السادس من مذبحة سربرنيتشا نقل الصرب النساء البوسنيات إلى منطقةٍ أخرى، ثمّ جمّعوا الصبيان من عمر 14 والرجال ما فوق السبعين، جمّعوهم "للتحقيق معهم في جرائم حرب".
لكنّ الحقيقة أنّهم أخذوا الرجال ليقتلوهم، بينما اغتصبوا عدداً كبيراً من النساء من ضمنهنّ عجائز فوق السبعين، كما بقروا بطون الحوامل وقتلوا الرضّع وغيرها من الفظائع.
وتعد مذبحة سربرنيتشا (أو ذمذبحة سربرنيتسا) إحدى أسوأ المذابح في التاريخ الحديث، بل في التاريخ الإنساني، وقد كان إجمالي ضحاياها 8372 دفنوا جميعاً في مقابر جماعيّة.
أمّا عن قوات حفظ السلام الهولنديّة فقد هاجمتها القوات الصربية قبل ارتكاب المذبحة، واحتجزت 30 جندياً هولندياً، وعندما طلبت الكتيبة الهولندية الدعم من حلف الناتو قصفت طائرات الناتو دبابات صربية، لكنّ الصرب هددوا بقتل الجنود الهولنديين الثلاثين المحتجزين.
فتوقّفت الضربات الجوية، وتسلّم راتكو ملاديتش جميع مراكز مراقبة وحواجز حراسة قوات حفظ السلام من القوات الهولندية، وهكذا بعدما جعلت الأمم المتحدة المتطوعين البوسنيين يسلمون سلاحهم تركتهم يواجهون المذبحة الجماعية الصربية.
بل إنّ البوسنيين قد ذهبوا بالآلاف إلى قاعدة الأمم المتحدة ليحتموا بها، فسلّمهم الجنود الهولنديون للقوات الصربية.
بعد العيش بحريّة 16 سنة.. راتكو ملاديتش في قفص الاتهام
بعد كلّ هذه المجازر عاش راتكو ملاديتش حراً طيلة 16 عاماً، عاش فيها بشكل اعتيادي رغم اتهامه من قبل المحكمة الدولية في لاهاي بتهم ارتكاب جرائم حرب.
ويقال إنّه كان يعيش بحرية تامة متنقلاً بين صربيا وروسيا، لكنه ألقي القبض عليه عام 2011، شمالي العاصمة الصربية بلغراد، عندما كان يستعد لممارسة رياضة المشي في الحديقة.
كانت أول لائحة اتهام ضد راتكو ملاديتش في عام 1995، عندما قدِّمت للمحكمة الجنائية الدولية، وشملت اللائحة جرائم كثيرة، إضافةً إلى جريمة الإبادة الجماعية.
استمرّت محاكمته طيلة 530 يوماً، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أدين راتكو ملاديتش بـ10 تهم من أصل 11 تهمة وجِّهت له، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، إذ لا تعاقب المحكمة الدولية بعقوبة الإعدام. وما زال في السجن حتّى الآن، ويسعى محامو الدفاع لاستئناف حكم المحكمة، بينما يسعى محامو الضحايا لضمّ قضيةٍ أخرى برّأته منها المحكمة.