في عام 1492، سقطت غرناطة على يد ملوك قشتالة الكاثوليكيين، لتنتهي بذلك حقبة مهمة من التاريخ الإسلامي، فكيف أخفى المسلمون حقيقتهم بعدما تم اضطهادهم وطرد مَن رفض منهم اعتناق المسيحية؟
في أعقاب الحكم الجديد، سُمح للأندلسيين الأصليين بدايةً، أي المسلمين، بمواصلة ممارسة دينهم، ولكن بعد عقد من ممارسات الشرطة الدينية العدائية المتزايدة من النظام الكاثوليكي الجديد، تم حظر ممارسة الشعائر والطقوس الإسلامية وطرد من لم يعتنق الدين المسيحي، لذا انتشر المدعون بالإيمان بالديانة المسيحية علناً وممارسة الإسلام سراً.
حفريات أثرية في آثار غرناطة تم اكتشافها مؤخراً، كشفت أدلة على استمرار المسلمين في ممارسة عاداتهم وتقاليدهم بالخفاء وتمسُّكهم بعقيدتهم وتراثهم، ولو من خلال الطعام، حسب ما نشره موقع Springer Link للأبحاث الأكاديمية.
تم وقتها استخدام مصطلح "موريسكو" ، الذي يعني "المستنقع الصغير"، للإشارة إلى المسلمين الأصليين الذين أُجبروا على التحول إلى الكاثوليكية في عام 1502، بعد مرسوم صادر عن تاج قشتالة.
صدرت مراسيم مماثلة في مملكتي نافار وأراغون في العقود التالية، مما أثار موجة انتفاضات مسلحة.
نتيجة لذلك، طُرد الموريسكيون بين عامي 1609 و1614 من مختلف ممالك إسبانيا، بعدما كان المسلمون طُردوا بالفعل من البرتغال بحلول نهاية القرن الخامس عشر.
وانتهت مع عمليات التطهير هذه أكثر من ثمانية قرون من الثقافة الإسلامية في أيبيريا، وبقي قصر الحمراء شاهداً على التحولات السياسية والدينية بالمنطقة بعدما تحوَّل مقراً للحكم الكاثوليكي الجديد.
آثار غرناطة تكشف تمسُّك المسلمين بدينهم
كشفت الحفريات بحرم جامعة غرناطة في كارتوجا، وهو تل يقع على مشارف المدينة الحديثة، عن آثار نشاط بشري يعود تاريخه إلى العصر الحجري الحديث (3400-3000 قبل الميلاد).
وبين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلادي، وهي ذروة غرناطة الإسلامية، تم بناء العديد من المنازل الصغيرة ذات الحدائق والبساتين على هذا التل.
وفي العقود التي أعقبت الحكم الكاثوليكي، تم بناء دير كارثوسي وتحوَّل شكل المناطق المحيطة بالكامل، مع هدم العديد من المباني السابقة.
إلا أن علماء الآثار اكتشفوا بئراً ملحقة بمنزل وقطعة أرض زراعية، ولكن هذه البئر لم تكن للمياه بل لوظيفة أخرى بهدف حماية هويتهم الدينية الحقيقية، حسب ما نشرته مجلة The Conversation.
إذ استخدم سكان هذا البيت المسلمون البئر كمكب نفايات للتخلص من مواد البناء غير المرغوب فيها، إلى جانب نفايات أخرى، من ضمنها مجموعة فريدة من عظام الحيوانات، يعود تاريخها إلى الربع الثاني من القرن السادس عشر.
ممارسات الطهي السرية
وفَّرت نفايات الطعام والرواسب الأثرية- معظمها شظايا عظام الحيوانات وكذلك بقايا النباتات وأدوات المائدة الخزفية- سجلاً لا يقدَّر بثمن لممارسات الطهي لسكان تلك الحقبة.
فمن خلال عظام الحيوانات، على وجه الخصوص، يمكن معرفة النظام الغذائي الذي كان يلتزم به المسلمون كعدم تناول لحم الخنزير على سبيل المثال.
وتبيّن أن غالبية العظام في بئر كارتوجا تعود لأغنام، وعدد قليل من الماشية. كما تبين أن اللحوم مصدرها أغنام متقدمة في السن وذكور مخصية؛ نظراً إلى نوع العظام الذي يدل على انتقاء أجزاء غنية باللحم.
وهذا يعني أنه تم شراؤها من السوق من قِبل جزارين محترفين، بدلاً من تربيتها بواسطة الأسرة.
أما السيراميك الذي عُثر عليه بجانب العظام، فيعكس ممارسات تناول الطعام الأندلسي، والتي تضمنت مجموعة من الأشخاص يتشاركون الطعام من أوعية كبيرة تسمى أتيفورس.
انخفض وجود هذه الأوعية بسرعة في غرناطة بأوائل القرن السادس عشر، لتحل مكانها الأوعية الصغيرة، التي تعكس النهج الفردي لتناول الطعام الذي تفضله الأسر الكاثوليكية محل الأتيفورس.
لذا فإنَّ الجمع بين الأطباق الكبيرة وعظام الأغنام المقترنة وغياب عظام الخنازير لهو أكبر دليل على أن ساكني هذه المنازل كانوا أسرة موريسكية.
تسييس وضبط الطعام
وقتها، لم يوافق النظام الكاثوليكي على ممارسات تناول الطعام الجماعية هذه، والتي ارتبطت بالهوية الأندلسية الإسلامية، وتم حظرها بتاتاً.
وأصبح استهلاك لحم الخنزير أشهر تعبير عن مراقبة عادات تناول الطعام من قِبل المكتب المقدس، المعروف أكثر باسم محاكم التفتيش.
وبينما ركزت محاكم التفتيش قبلها على المشتبه في تمسكهم بالممارسات اليهودية (المحظورة عام 1492)، في النصف الثاني من القرن السادس عشر، حولت انتباهها بشكل متزايد إلى الموريسكيين المشتبه بهم في ممارسة الإسلام في الخفاء، وضمن ذلك تجنب لحم الخنزير.
في نظر القانون، كان هؤلاء المسلمون كاثوليكيين رسمياً، لذلك كان يُنظر إليهم على أنهم زنادقة؛ لتمسكهم بعقيدتهم السابقة.
علاوة على ذلك، اعتبروا أن ولاءهم الديني يساوي ولاءهم السياسي، لذا أصبحوا أعداء للدولة يجب القضاء عليهم.
وتوضح النفايات التي تم التخلص منها في منطقة كارتوجا، وهي أول مثال أثري من هذا القبيل من منزل موريسكو، كيف تشبثت بعض العائلات الأندلسية بثقافة الإسلام عبر التمسك بتناول الطعام التقليدي الخاص بهم مع تحوُّل عالَمهم رأساً على عقب، على الأقل لبضعة عقود.