تحدَّث الرافعي يوماً في رسالةٍ بعث بها إلى أحد أصدقائه يرشده فيها إلى الطريق لكي يكون أديباً وكاتباً معروفاً -جمعت لاحقاً في "رسائل الرافعي"- قال فيها:
"أيها الفاضل؛
إنَّ أعمالي كثيرةٌ في هذه الأيام ولذا أراني أبطأتُ في الرد على كتابك، وإنِّي مجيبك عنه بإيجازٍ، لأنَّ ما سألت عنه يصعب التبسُّط فيه على وجهٍ واحدٍ. إنّكَ تريدُ امتلاكَ ناصيةِ الأدبِ -كما تقول- فينبغي أن تكون لك مواهب وراثيةٌ تؤديك إلى هذه الغاية، وهي ما لا يعرف إلا بعد أن تشتغل بالتحصيل زمناً، فإن ظهر عليك أثرها وإلا كنت أديباً كسائر الأدباء، الذين يستعيضون من الموهبة بقوَّة الكسب والاجتهاد".
● كيف أكتب؟ وهل تعد الكتابة هبة أم اكتساباً؟
سؤالان يسألهما الناس باختلاف الصيغ والطرائق، ويبحثان عن إجابةٍ شافيةٍ لهما هنا وهناك، وحيث إنني لست أديباً بعد، فسأورد ما أراه في نفسي وما اكتسبته من خبرات من سبقوني إليها حتى وقته.
وبعد فإني أرى أن للكتابة وجهين: إما هبة خالصة من الله كالرسم والصوت الحسن وغيرهما من الفنون، فيمتلك الشخص أدواتها بالفطرة بعد أن يراها في نفسه، وإما مكتسبة تأتي مع الوقت بتدريب القلم على الخطِّ وقتل النفس في الكتابة.
بيد أن الكتابة وإن كان يتأتى امتلاك ناصيتها بالدربة والمران، إلا أنّها فنٌّ كغيرهِ؛ تحتاجُ إلى صقلٍ ونقلٍ، وتحصيلٍ وتفصيلٍ، مع المجاهدة والمحاولة كي يصيرَ الكاتبُ جديراً بامتلاك أدواتها وفنونها، كما أن أركانَ الناقدِ ذوقٌ ومعرفةٌ حقيقيةٌ بالأدب، فأركانُ الكاتبِ صانعِ الكلمةِ والأدبِ حريٌ به حقاً أن يكونَ ذا موهبةٍ سليمةٍ، وسليقةٍ عربيةٍ قويمةٍ، وأنا أرى منذ زمن أنَّهُ ما كان أدبُ القدامى بالتأثُّرِ إلا أنَّهم كانوا في أكثرهم ملكة الفصاحةِ والبيانِ وصناعة الكلام، فهي أمةٌ كلامية، وما صرنا الآن إلى ما نحن فيه فمن التزاوج والاختلاط والانصهار مع الأمم الأخرى.
ثم إن كلا الوجهين، سواء كانت هبة أو مكتسبة، لهما طريقان اثنتان تسيران بالتوازي: القراءة الإلزامية من رحم اللغة، والخط والمران "والشخبطة" المستمرة.
● كيف نقرأ لنكتب؟
فأما القراءة، فالآتي هوامش نصيحة أخذت بها، فجربتها كمبتدئٍ مدةً لا بأس بها -وأنا قلَّما أنفذ شيئاً بحذافيره- فكان خيرَ معين لي:
أولاً، العزلة والاعتكاف وقتاً بعيداً عن التصدر والنشر -خصوصاً في العالم الافتراضي وكثرة الفقاعات فيه- والأمر جد عسير، فيأتي التحصيل قبل الخطِّ والتعجيل، ويكون المران والتمرين قبل البيان والتبيين، وصدق القول من قال، وبلغ النصح حين أبلغ.
ثانياً، لكي تقرأ -لتكتب- من وجهة نظري، وقد نتباين في القدرة والكيفية والمواصلة، فالفيصل هو الخوض في ماء القراءة: هناك محيطات وبحار وأنهار، فقرر في أي الماء ستخوض؟ وأنا شخصياً أفضل غرق الأعماق. اغرق لتنعم بالماء، وبرد القاع.
غير أن القراءة عمليةٌ تدرجيةٌ معقدةٌ، بل في غاية التعقيد، من شأنها أن تستنزف أحياناً طاقة المرء من أولها إلى آخرها في مقدمةٍ لكتابٍ واحدٍ. صحيحٌ أن لكل فعلٍ لذةً، وتكمن لذتها من رحم العلم، وعبر سُلَّم التثقيف المعرفي والإدراكي للإنسان اللذين يعيدان تشكيل وعيه وولادته من جديدٍ، وليست كما يصورها البعض على أنها رحلةٌ رومانسيةٌ حالمةٌ، يصاحبها كوب قهوةٍ وإطلالةٌ على مشهدٍ طبيعيٍّ خلَّابٍ؛ إنما هذا تصورٌ مغلوطٌ تروِّج له فئةٌ من الكاذبين السُّذج ولصوص القارئين، الذين ينتسبون عنوةً إلى القراءة، كما ينتسب أكثر الكتبة إلى الكتابة، والاثنتان منهم براء.
وحتى تغرق بالشكل الصحيح، فبادئ ذي بدءٍ عليك بوردٍ يوميٍّ ثابتٍ من القرآن وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهما رحم اللغة وخير تنزيل لها، ثم تأتي كتب التراث ومعلقات الشعراء في المقام الثاني. اغرق في محيط "البخلاء"، "والبيان والتبيين" للجاحظ، "وأدب الكاتب" لابن قتيبة، "والمثل السائر" لابن الأثير، وكذا معلقات الشعراء الجاهليين، وخطب النثار في صدر الإسلام، ونوادرهم. ثم عليك بالبحث والتنقيب والتحليل وراء اللفظ ومعناه، وتبحَّر في علوم النحو والصرف فبهما تستقيم قناتك. وما أن تتشبع وتنتفخ رئتاك، فاغرق في بحور الكتب والأدباء في القرن الماضي "وحي القلم"، "وتاريخ آداب العرب" للرافعي، "والنظرات"، "والعبرات" للمنفلوطي، وكتب العقاد ومحمود شاكر وجبران ومي زيادة، وغيرهم ممن أجاد امتلاك اللغة وألفاظها في عصرهم.
يقول الرافعي: "فإذا رغبتَ في أقرب الطرق إلى ذلك فاجتهد أن تكون مفكِّراً منتقداً، وعليك بقراءة كتب المعاني قبل كتب الألفاظ، وادرس ما تصل إليه يدك من كتب الاجتماع والفلسفة الأدبية في لغةٍ أوروبيةٍ أو فيما عُرِّب منها. ورأسُ هذا الأمر بل سرُّ النجاح فيه أن تكون صبوراً، وأن تعرف أن ما يستطيعه الرجل لا يستطيعه الطفل إلا متى صار رجلاً، وبعبارةٍ صريحةٍ إلا من انتظر سنواتٍ كثيرةٍ. فإن دأبتَ في القراءةِ والبحثِ، وأهملتَ أمر الزمن -طال أو قصر- انتهى بك الزمنُ إلى يومٍ يكونُ تاريخاً لمجدكَ، وثواباً لجدِّك. وإن الإنشاء لا تكون القوة فيه إلا عن تعبٍ طويلٍ في الدرس وممارسة الكتابة والتقلب في مناحيها والبصر بأوضاع اللغة، وهذا عمل كان المرحوم الشيخ "محمد عبده" يقدر أنه لا يتم للإنسان في أقل من عشرين سنة. فالكاتب لا يبلغ أن يكون كاتباً، حتى يبقى هذا العمر في الدرس وطلب الكتابة".
ولا أنصحك في البداية بأن تقفز في أنهار المعاصرين -مع احترامي لهم جميعاً- من أصحاب الروايات والقصص بسيطة الألفاظ والمعاني؛ ذلك شأن الترفيه والفصل بين أنواع القراءة الجادة، إلا بعد تذوُّق العربية من أصولها الأولية، لغة القرآن والوقوف على معانيه، وأحاديث النبي والوقوف على تفسيرها وحواشيها -كما فعلوا هم وكذا السابقون لهم- حتى لا تختلط عليك ألفاظ اللغة ويتشوه أساسها. وما أن غرقت وتذوقت ونجوت، ارم بجسدك الآن في أي الماء تريد، كما يرتمي المحبُّ في قلب محبوبه.
وهذا بعيدٌ تمام البعد عن القراءة الحرة التثقيفية، تلك التي تكون لطلب العلم في المجالات الطبيعية والسياسية والإنسانية والاجتماعية وغيرها، فالحديث هنا -أي في شأن الكتابة- من منظورٍ أدبيٍّ بحتٍ لمن أراد تذوق العربية، لفظاً وخطّاً، من مكمنها، حتى لا يختلط الأمر على أحد.
● كيف أعود بنفسي إلى الكتابة بعد انقطاع؟
الكتابة مثلها مثل أي مَلَكةٍ أخرى؛ تنطفئ شعلتها بالترك وتشتعل بالخط والممارسة حتى ولو بأسطرٍ خفيفةٍ كل حين. وليس هناك سبيل آخر غير الكتابة نفسها، اكتب ولو كانت مجرد "شخبطة" لا دلالة فيها ولا غاية منها، اكتب دون النظر إلى فخامة الأسلوب وجزالة الألفاظ والتراكيب في البداية، اكتب بعشوائية ما يدور في دخلك، ولا تنتظر الوحي لعله لن يأتي؛ أحياناً يحتاج القلم إلى بعض الإجبار حتى يجري على الورق.
واعلم أن كل الأفكار قد كتبها آخرون، وكل التجارب والحكايات قد قُتلت سرداً ونشراً، لكن وحدها روح كل كاتب هي التي تعيد إحياء الكلمة والحكمة والتجربة في عقل القارئ عبر إعادة تدويرها بأسلوبه الخاص. تصيد الخاطر قبل أن يرحل ودونه سريعاً بأبسط العبارات، وما أن تفرغ من النقاط الأساسية، ويستقيم لك الموضوع، قسِّمه إلى فقراتٍ، ورتب كل فقرةٍ بما توافق أختها وتضمن تسلسل الأفكار وترابطها، ثم قم بإعادة صياغةٍ للنص كله بما يتأتى لك من الكلمات والتراكيب الفصيحة، ثم راجعه مرة وأخرى، واضبطه نحويّاً ولغويّاً حتى يتراءى لك نضجه واستواؤه كأنه طبخة على النار.
ومما تعلمته أيضاً أن ابدأ بقراءة نص ما مراراً ثم تدبره وراجعه، وقلِّب تراكيبه وألفاظه، ثم احذف منه ما شئت وضع ما يسدُّ ولا يقصر عنه، واجتهد في ذلك، فإن استقام لك الأمر وبلغت نصابه فترق إلى درجةٍ أخرى، وهي أن تعارض النص نفسه بنص تكتبه في معناه، وبمثل أسلوبه وتراكيبه، فإن وافق نصك فبها، وإن جاء ركيكاً ضعيفاً فخذ في غيره، ثم غيره، حتى يأتي قريباً من الأصل أو مثله.
"وما أرى أحداً يفلح في الكتابة والتأليف إلا إذا حكم على نفسه حكماً نافذاً بالأشغال الشاقة الأدبية، كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية، فاحكم على نفسك بهذه الأشغال سنتين أو ثلاثاً في سجن "الجاحظ" أو "ابن المقفع" أو غيرهما، وهبها كانت في أبي زعبل أو طرة". وبها بلغ الرافعي نهاية رسالته، وبها بلغت نهاية مقالي.
ولست أرى حتى وقته من حديثٍ آخر عندي في شأن الكتابة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.