وُجد شمس الدين التبريزي، الشاعر المتصوف الفارسي، مقتولاً بمدينة خوي -غربي أذربيجان– عام 1248، حيث دفن هناك وبني له ضريح لا يزال موجوداً إلى اليوم، وقيل إنه قتل في قونية وألقيت جثته في بئر مجهولة، أما المتفائلون فيقولون إن التبريزي لم يقتل، إنما اختفى "في ظروف غامضة" فحسب.. لكن، لماذا؟
تعالوا نتعرف على التبريزي، درويش الصوفية الذي خلّف لنا أربعين قاعدة من قواعد العشق الإلهي:
شمس الدين التبريزي.. صوفي منذ الصغر
إذا زرتم مدينة قونية التركية يوماً، لا تفوتوا حضور احتفاليات الدراويش، وهم رجال يرتدون ملابس بتنانير فضفاضة ويرقصون رقصة صوفية يحاكون فيها حركة النجوم والكواكب، وبالرغم من أن هذه الرقصة "المولوية" تنسب لـ"مولانا" جلال الدين الرومي إلا أن صوفياً آخر كان مصدر الإلهام الحقيقي لرقصة الدراويش تلك.. نتحدث عن شمس الدين التبريزي.
لقب شمس الدين محمد بن ملك داد المولود عام 1185 بالتبريزي نسبة إلى مسقط رأسه "تبريز" الواقعة شمال غربي إيران.
اعتنق التبريزي الصوفية منذ صغره، كيف لا وقد تتلمذ على يد أبرز العلماء الصوفيين في عصره، وتعلم الفقه وعلوم القرآن على أيديهم حتى صار ضليعاً بها؟
لكن التبريزي لم يكن تلميذاً عادياً، إذ يحكى أن رؤى صوفية كانت تراوده منذ سن العاشرة، ولم تكن رؤاه تلك مفهومة بالنسبة لوالديه. كما أنه اتجه نحو الزهد والتقشف في سن مبكرة فكان يبقى بلا طعام لأيام، الأمر الذي بات واضحاً في هيئته الضعيفة.
الدرويش الرحال.. صانع السلال ومعلم القرآن
بدأ التبريزي حياة الترحال في سن مبكرة، فسافر في جميع أنحاء الشرق الأوسط بحثاً عن العلم، وبات على معرفة عميقة بالخيمياء وعلم الفلك واللاهوت والفلسفة والمنطق.
وفي رحلته الطويلة، قصد التبريزي بغداد وحلب ودمشق وقيصري وأكسراي وسيواس وأرضروم وأذربيجان وغيرها.
أخفى التبريزي هويته أثناء تجولاته، وكان بالغالب يتنكر في هيئة بائع متجول، وكان كما الصوفيين يرفض التسول تماماً، فعمل في نسج السلال وتعليم القرآن للأطفال، وقيل إنه طور طريقة لتعليم القرآن بأكمله في ثلاثة أشهر فقط.
وفضلاً عن بحثه الدؤوب عن العلم، كان التبريزي يبحث كذلك أثناء تنقلاته عن "رفيق روحي" وتحدث في كتاباته عن أحلامه التي يؤكد له الله فيها أنه سيجد ذاك الرفيق عندما يحين الوقت، وقد وجده لاحقاً بالفعل في شخص جلال الدين الرومي.
قصة جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي
شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي كانا متفاوتين في السن، والأصل، والمذهب، والمكانة العلمية، ولكن مع ذلك شاءت الأقدار أن يلتقيا وأن يُغيّرا معاً مفاهيم العشق والروحانية.
اكتسبت قصة لقائهما وصداقتهما سحرَها الخاص في المخيلة الشعبية، ووصل التماهي بينهما إلى حدّ أنَّ عدداً من قصائد التبريزي نُسبت للرومي.
كان الرومي عالمَ دين جليلاً، رزيناً، يخطب في الناس منادياً بإكرام الفقراء، والعطف على البؤساء، إلا أنه لم يُجالِس فقيراً يوماً، ولم يُمضِ مع بائس ليلة بمعدة خاوية.
بينما كان التبريزي شيخاً كبيراً طوافاً بين الفقراء، لا يهتم إن دخل حانة قد تثير حوله الشبهات ما دام يحمل الله في قلبه.
وفقاً لبعض الروايات، فقد التقى التبريزي بالرومي، عندما كان يبلغ من العمر 60 عاماً وكان ذلك اللقاء في مدينة قونية التركية.
وما لَبِث الرومي أن أصبح مُريداً في حضرة التبريزي، ومنذ ذلك الحين قلبت حياته رأساً على عقب فابتعد عن تلاميذه وعائلته وأمضى وقته بصحبة شمس يتعلم منه مبادئ الصوفية، على الرغم من اتهام العديدين لشمس الدين بالزندقة، لِمَا حمله مذهبه الصوفي من بدع لم تكن موجودة لدى السلف.
وقد حيكت العديد من الأساطير عن العلاقة التي جمعت الرومي بالتبريزي، ويميل البعض إلى إسناد المعجزات إلى التبريزي، ويبدو ذلك واضحاً بالقصة الشعبية التي تقول إن شمس الدين قد ألقى يوماً جميع كتب الرومي في الماء، وعندما أخرجها تلامذته وجدوا أنها لم تبتل.
رقصة الدراويش
لم تمض فترة ستة أشهر من الرفقة بين التبريزي والرومي حتى بدأت معالم الطريقة الصوفية الجديدة، التي تمزج العبادة بالشعر والنثر والغناء والموسيقى، تظهر في الآفاق.
وهي الطريقة التي عُرفت فيما بعد باسم المولوية، نسبة إلى مولانا الرومي.
طريقة الرومي في التعبير عن التوحد والذوبان في بحار العشق الإلهي تبدَّت واضحةً في رقصات أتباعه الدائرية، التي تُحاكي حركة الكون والأفلاك، وتُعرف برقصة الدراويش.
وكما ألهم التبريزي تلميذه الرومي لابتداع "رقصة الدراويش" كان كذلك الملهم الأول له في العديد من قصائده وكتاباته وفقاً لما ورد في موقع The Famous People.
هل غيَّبت الغيرة شمساً؟
لم ترُق المكانة التي حظي بها شمس لدى الرومي لتلاميذه وطلبته، بل وحتى عامة قونية. لدرجة أنهم كانوا ينتهزون كلَّ فرصةٍ ممكنة لإيذائه والإيقاع به والتشنيع عليه.
وقد اعتقدوا أن التبريزي ما هو إلا ساحر حول عالمهم الجليل من شيخ متزن إلى صوفي متزندق.
فاضطر شمس في نهاية المطاف لترك قونية والسفر إلى بلاد الشام.
حزن الرومي على غياب شمس واشتدَّ به المرض من ألم الفراق، مما دفع التبريزي للعودة مرة أخرى إلى قونية.
لكن سرعان ما تجدَّدت المشاكل بينه وبين تلاميذ الرومي، ويرى البعض أنه قُتل على أيديهم، ورمي في بئر مهجورة في قونية، بينما يرى آخرون أنه ربما قتل في مدينة خوي في أذربيجان.
ويعتقد البعض أن شمساً اختفى في ظروف غامضة، ويرجح أولئك أنه عاد إلى خوي وبقي هناك حيثُ توفي ودفن، وله ضريحٌ رُشِّح ليكون من مواقع التراث العالمي لليونيسكو.
كُتب شمس الدين التبريزي
أهم ما خلف لنا شمس الدين التبريزي كان "ديوان التبريزي"، أو ما يُسمَّى "ديوان العشق" أو "الديوان الكبير"، وهو كتاب في العشق الإلهي.
يُنسب إليه أيضاً: مثنوية "مرغوب القلوب" و"مقالات" و"ده فصل".
كما اعتكف شمس التبريزي وجلال الدين الرومي أربعين يوماً في مدينة قونية لكتابة "قواعد العشق الأربعون" والتي تعتبر مرجعاً صوفياً هاماً في "العشق الإلهي".